تتواصل المعارك العنيفة على جبهات سراقب شرقي مدينة إدلب، وعلى جبهات جبل الزاوية وجبل شحشبو وسهل الغاب بريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي الغربي. وكانت الأوضاع على الجبهات قد شهدت تغيراً تدريجياً منذ الرابع والعشرين من شباط الماضي، عندما بدأت فصائل المعارضة عملية عسكرية بدعم تركي، استعادت خلالها السيطرة على بلدة النيرب ثم مدينة سراقب، إلا أن معالم التغير النوعي بدأت تتضح بعد استهداف رتل تركي في جبل الزاوية بالقرب من قرية بليون، ما أسفر عن مقتل أكثر من ثلاثين جندياً تركياً، وهو ما دفع القوات التركية إلى الدخول بفعالية أكبر على خط العمليات العسكرية ضد قوات النظام وحلفائها.

وقد اكتملت عناصر التدخل التركي في المعركة مع نهاية يوم التاسع والعشرين من شباط، أي مع نهاية المهلة التي حددتها تركيا لقوات النظام وحلفائها للتراجع إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية في أرياف إدلب وحلب وحماة، ليعلن وزير الدفاع التركي رسمياً عن أن ما يجري منذ مساء السابع والعشرين من شباط هو عملية عسكرية تركية تهدف إلى إجبار النظام على الانسحاب إلى الحدود التي رسمها اتفاق سوتشي. وهكذا تحولت فصائل المعارضة من الدفاع إلى الهجوم واستعادة المناطق التي خسرتها، كما تحولت القوات التركية من الرد على هجمات كانت تتعرض لها إلى تنفيذ هجمات واسعة النطاق بالمدفعية والصواريخ والطائرات المسيرة، ما أحدث فارقاً كبيراً خلال اليومين الماضيين في سير العمليات العسكرية.

وكانت قوات النظام قد تقدمت في مناطق واسعة في أرياف إدلب وحلب وحماة منذ مطلع العام الجاري، واستطاعت إحكام سيطرتها على كامل طريق حلب دمشق الدولي، وعلى جميع المدن والبلدات والقرى المطلة عليه، بما فيها مدن رئيسية مثل معرة النعمان وسراقب، كما سيطرت على مدن وبلدات بالغة الأهمية في ريف حلب الشمالي الغربي والغربي، أبرزها حيان وحريتان وعندان وعينجارة وقبتان الجبل، ثم تقدمت بعدها في ريف إدلب الجنوبي وجبل الزاوية لتسيطر على كفرنبل وحاس وكفرعويد وسفوهن وجبل شحشبو، ليبدو واضحاً أن أنظارها كانت تتجه إلى السيطرة على طريق حلب اللاذقية الدولي، وسط انهيارات كبرى في دفاعات الفصائل وانسحابها من قرى وبلدات عديدة دون مقاومة جديّة، وفي غياب أي رد فعل جديّ من القوات التركية التي كان يبدو أن مزيداً من نقاط تمركزها على وشك أن يقع تحت حصار قوات النظام.

لكن الدعم التركي الحاسم الذي مكّن الفصائل من استعادة سراقب في 24 شباط، وهو الأمر الذي أدى إلى خسارة النظام لسيطرته مجدداً على جزء من طريق حلب دمشق الدولي، أعطى انطباعاً أن تركيا عازمة فعلاً على منع قوات النظام من تنفيذ خطتها في السيطرة على الطرقات الدولية وتهجير سكان جميع المناطق المطلة عليها، وعازمة فعلاً على تنفيذ تهديداتها بعد نهاية المهلة المحددة، وهو الأمر الذي دفع قوات النظام وحلفائها إلى اختبار جديّة تركيا عبر استهداف عدد كبير من جنودها في جبل الزاوية، الأمر الذي قاد إلى تغيير في معطيات المعركة واتجاهاتها.

ولم يكن واضحاً ما هي خطة تركيا للتعامل مع سيطرة روسيا والنظام السوري المطلقة على المجال الجوي في إدلب، لكن الأيام التي أعقبت هجوم جبل الزاوية أظهرت أن تركيا كانت تعتمد على طائراتها المسيرة، التي راحت تستهدف قوات النظام وحلفائها على نطاق واسع، تعدّى خطوط الاشتباك ليشمل مطارات عسكرية في حلب وحماة، بالإضافة إلى الآليات والجنود ومرابض المدفعية ومنظومات الدفاع الجوي.

وأعلن وزير الدفاع التركي خلوصي آكار عن مقتل أكثر من 2000 عنصر لقوات النظام وحلفائها، بالإضافة إلى تدمير ثماني مروحيات وطائرة مسيرة ومئة وثلاث دبابات واثنين وسبعين مدفعاً وراجمة صواريخ وثلاثة أنظمة دفاع جوي. وقد أظهرت مقاطع فيديو بثّتها الحكومة التركية عمليات الاستهداف تلك، كما أسقطت الطائرات الحربية التركية التي تحلّق فوق المناطق الحدودية طائرتين حربيتين لقوات النظام يوم أمس الأحد، وأصابت طائرة ثالثة دون أن يؤدي ذلك لإسقاطها، وكان قد سبق ذلك إسقاط طائرتين مروحيتين للنظام بمضادات الطيران في إدلب خلال الأسابيع الماضية.

ترافق الهجوم الجوي التركي مع عمليات برية محكمة لفصائل المعارضة بدعم مدفعي وصاروخي تركي، استطاعت خلالها السيطرة على عدد من القرى والبلدات في جبلي الزاوية وشحشبو، وفق خطة عسكرية تتشابه مع ما كانت تفعله قوات النظام في السابق، وذلك من خلال إحكام السيطرة على التلال الحاكمة في المنطقة وعزل المدن والبلدات والقرى الكبيرة لتأمين دخولها بأقل الخسائر.

يظهر سير العمليات العسكرية الحالية عزم تركيا على تنفيذ مطالبها بالقوة بعد فشل الحلول السياسية، وذلك من خلال التركيز على ثلاثة محاور، أولها تثبيت السيطرة على مدينة سراقب التي باتت ثقباً أسود يبتلع قوات الأسد وحلفاءها أثناء محاولاتهم العنيفة والمستمرة لاستعادتها، ثم التوجه بمحاذاة الطريق الدولي نحو خان السبل فمعرة النعمان من شمالها. أما المحور الثاني فهو محور جبل الزاوية كفرنبل، التي تدور فيها الآن معارك شرسة بعد سيطرة الفصائل على محيطها، ثم التوجه بعدها نحو كفرومة للوصول إلى معرة النعمان من غربها. وأما المحور الثالث، فيتمثل في التوجه نحو كفرنبودة بعد السيطرة على جبل شحشبو واستعادة مناطق في سهل الغاب.

لا يزال مبكراً الحديث عن مدى قدرة الفصائل على استعادة كل المناطق التي خسرتها منذ نيسان (إبريل) 2019، لكن من تواصلنا معهم من مقاتلين على الجبهات يقولون إن وجهة العمليات العسكرية لن تقتصر على هذه المحاور الثلاثة، بل ستستمر حتى استعادة كافة المناطق التي خسرتها المعارضة خلال الأشهر الماضية، في إشارة إلى جيب خان شيخون مورك اللطامنة، وكذلك قلعة المضيق، وهو ما يوافق الكلام التركي بفك الحصار عن كافة نقاط المراقبة التركية، والعودة إلى حدود اتفاق سوتشي.

وقد تحدثنا إلى أحد القادة الميدانيين في فصائل المعارضة في ريف إدلب الجنوبي، وهو يقول إن الفصائل تعتمد استراتيجية الالتفاف على قوات الأسد في محيط القرى والبلدات بهدف إجبارها على الانسحاب قبل الوقوع في الحصار، ويقول إن الفصائل استعادت نحو خمس عشرة قرية كانت قد خسرتها خلال الأيام الماضية، وسط انهيارات كبيرة في صفوف قوات النظام التي انسحبت من المنطقة بعد تدمير قسم كبير من آلياتها وعتادها الثقيل، وقتل أعداد كبيرة من عناصرها وانسحاب من تبقى منهم إلى الخطوط الخلفية، مؤكداً أن سلاح الجو الروسي يحاول ترجيح كفة قوات النظام، لكن الدعم التركي يحول دون ذلك، وأن قوات النظام قد تشهد انهياراً متسارعاً خلال الأيام القادمة بعد خسارتها الجسيمة خلال الأيام الماضية.

يقول مقاتل آخر في ريف إدلب الجنوبي إن الخطوط الدفاعية لقوات النظام قد انكسرت، ومع استعادة الفصائل لمدينة كفرنبل ستتراجع هذه القوات، ولن تصمد طويلاً بعد أن زجت بمعظم مقاتليها في الخطوط الأمامية وخسرت أعداداً كبيرة منهم، مضيفاً أن سلاح الطيران كان العامل الحاسم في ترجيح كفة قوات النظام خلال السنوات الماضية؛ «يبدو أن الأمور اختلفت بعد إسقاط الطائرتين، إذ غابت المروحيات عن سماء إدلب، وتراجعت فعالية الطيران الحرب، ما سيؤثر على المعارك الحالية».

وكانت ميلشيات تابعة لإيران قد شاركت بفعالية في المعارك البرية الأخيرة لقوات النظام، خاصة في ريف حلب الجنوبي الذي فرضت سيطرتها عليه بالكامل، وفي جبهات سراقب. وقد أعلنت إيران عن مقتل واحد وعشرين من عناصرها التابعين للوائي «فاطميون وزينبيون» خلال المواجهات الأخيرة، متهمة في القوات التركية في بيان لها باستهداف قواتها، وداعية أنقرة للتصرف بحكمة. ولا يخلو البيان الصادر عن المركز الاستشاري الإيراني في سوريا من لهجة تهديد مبطنة، إذا ألمح إلى وجود نقاط المراقبة التركية في مرمى القوات الإيرانية وإمكانية استهدافها. كما أعلن حزب الله عن مقتل تسعة من عناصره في العمليات العسكرية في إدلب.

لا تزال المعركة التركية في بدايتها، ويبدو مبكراً الحديث عن انقلاب شامل في مسار المعارك لصالح الفصائل وتركيا، خاصة أن أبعاد ردة الفعل العسكرية الروسية لم تتضح بعد، لكن مجريات الأيام الأخيرة تؤكد أن هدف النظام وحلفاءه في السيطرة على الطريقين الدوليين ومحيطهما، وبالتالي معظم محافظة إدلب، قد بات هدفاً بعيد المنال، ويبقى أن المفاوضات السياسية المعلنة وغير المعلنة بين روسيا وتركيا هي التي سترسم معالم المرحلة القادمة في إدلب، إلى جانب «المفاوضات» الميدانية الدامية على الجبهات.

تقاتل سائر الفصائل في إدلب بتنسيق مرتفع وعبر غرفة عمليات موحدة، ويتناقل سكان إدلب أخبار المعارك الدائرة وتقدم الفصائل بسعادة بالغة، نظراً لما يعنيه هذا التقدم من احتمال عودة مئات آلاف السكّان إلى المناطق التي تم تهجيرهم منها، وإنهاء الكارثة الإنسانية التي يعيشونها في المخيمات والعراء، ونظراً لما يعنيه من إبعاد شبه النزوح والاقتلاع عن المناطق التي لم يدخلها النظام.