«…وكان هذا آخر سُنّيٍّ قتلته بالسكين، حدث هذا منذ ثلاثة أعوام وسبعة أشهر ويومين بالضبط».
ينهي أبو حسين كلامه، متابعاً تحديقه في نقطة ما على الأرض، بدون أن يرفع رأسه كي لا تلتقي نظرته الساهمة بنظرة أي من مجالسيه الأحد عشر الآخرين، الجالسين في دائرة من الكراسي الخشبية.
جولة من تصفيق مرتبك تنطلق بعد ثوان.
أبو عمار يربت على كتف أبو حسين، ويضغط قليلاً كأحد أشكال المؤازرة والتشجيع، بينما الجالسون على كراسٍ أبعد يفعلون بعيونهم ما فعلته اليد اليسرى لأبي عمار.
ينقطع التصفيق نهائياً…
صوت صمت مطبق…
سعلةٌ عابرة من أبو أيمن..
تلفّ كلوديا مشنقة للصمت السائد بحبل من كلام قصير: شكراً مجدداً أبو حسين، لقد كان هذا مؤثراً للغاية، من يرغب في الكلام الآن؟
ينقطع حبل كلام كلوديا وتفشل عملية إعدام الصمت، ينهض الأخير من موته اللحظي ويسيطر على الأحياء مجدداً.
يرفع أبو البراء يده بخجل. لا تنتبه إليه كلوديا بدايةً، قبل أن تخترق عماها اليد المرفوعة بخَفَر. «تفضل أبو البراء، هنا فضاء آمن كما أسلفنا»، تقول.
تتسارع دقات قلب أبي البراء، النظرات المصوبة نحوه تذكره بالعدسات التي صوبت نحوه بلا رحمة في أول عملية إعدام مسجلة شارك فيها بفصل رأس مرتد عن جسده، بعد أن ضُبط وهو يروي نكتة غير مضحكة عن أمير التنظيم. حينها، أصدر القاضي الشرعي حكمه النهائي معتمداً على القياس، مؤكداً أن سماجة النكتة لم يسبق أن ورد مثلها لدى السلف الصالح.
يبدأ أبو البراء: أنا أبو البراء، مدمنٌ على قطع الرؤوس.
تخرج أصوات متداخلة وخافتة: أهلاً أبو البراء…
يكمل: أقلعت عن قطع الرؤوس لمدة تسعة أشهر الآن.
أصوات متداخلة مرة أخرى، يمكن تمييز صوت كلوديا عبرها بوضوح: برافو أبو البراء… أحسنت صنعاً.
يتسيّد الصمت المشهد مجدداً.
تهمس كلوديا: تابع.
يستأنف أبو البراء واثباً إلى نقطة أقصى في ماضيه: أخبرني صديقي أن الموضوع مسلٍ بعد أن جربه بالروافض الموجودين في البلدة (ينظر الجميع إلى أبو حسين)، فعددهم لم يكن يتجاوز أربعة بيوت، لكن ما بدأ مع الروافض تحول إلى…
يتوقف عن الكلام المباح فجأة…
يترقبه الجميع. تشجعه كلوديا مجدداً: إنك تبلي حسناً.
يواصل: لكن الموضوع الذي بدأ تسلية بالروافض خرج عن السيطرة، انتقل إلى نصارى البلدة المجاورة، وبعد أن فصل صديقي رأس اثنين منهم عن أجسادهم، قرر التوقف، وانضم إلى مركز إعادة التأهيل، وخضع لجلسات علاج مكثفة، وبالفعل أقلع عن ذلك. أما أنا فقد سخرت منه حينها، كنتُ قد بدأتُ للتو، نفذّتُ حكم الله في رامي بعد نكتة سافلة تفوّه بها بحق أمير المؤمنين، وشعرتُ أنني عدتُ طفلاً من جديد. تذكرتُ رأس باربي الذي اعتدت أن أفصله عن جسدها وأنا ألعب دور غراندايزر، لقد كان شعورا مسكراً.
يقاطعه أبو قتادة: أستغفر الله…
يعقب أبو البراء فوراً: ثمة أنهار من خمر في الجنة كما تعلم.
يرد أبو قتادة: هذا الأمر مختلف.
يحتد أبو البراء: خوارج.
أبو قتادة: مرتد. أقسم بالذي رفع السماء بلا عمد أنني سأجزّ رقبتك.
يبتسم أبو حسين شامتاً في سره من خلافات هؤلاء النواصب.
تتدخل كلوديا مؤنبة إياهما بشدة: كفى. كفى. تذكروا جميعاً أن عليكم أن تتركوا قناعاتكم المتشددة خارج هذه القاعة. أبو البراء وأبو قتادة، أرجو أن تقفا في منتصف الدائرة وتنفّذا قاعدة إدارة الغضب، هيا.
يقف أبو البراء أولاً، يتبعه أبو قتادة. يمشيان خجلين ببطء نحو مركز الدائرة المكونة من اثني عشر كرسيّاً تحتضن أحد عشر مريضاً وكلوديا. يتجاوران تاركين بينهما مسافة كافية للتذكير بالمنهجين المغايرين الذين اتخذهما فرعا التنظيم بعد انقسامه على نفسه، ثم يزفران مطولاً وبصوتين أجشين العبارة المتفق عليها للتنفيس عن الغضب واستعادة رباطة هدوئهما: غرررييتا تووونبرج، غريتا تونبرج… تختفي الأوداج المنتفخة عن ملامحهما فيما يواصلان التكرار: غريتا تونبرج. ينتظم تنفسهما وتستعيد بشرة أبو قتادة لونها الوردي الجميل، كذلك تغيب خطوط التشنج التي ظهرت على جبهة أبو البراء وتبرز مجدداً البقعة خرائية اللون فوق ملتقى حاجبيه، بقعة ناتجة عن رطوبة الصلاة بجبهة مبتلّة بمياه الوضوء على سجادة متسخة، بينما يفضّل أن يدلع صاحب البقعة بقعته تلك مطلقاً عليها اسماً شاعرياً: أثر السجود.
يعود الرجلان إلى مقعديهما الخيزرانيين، تسبقهما رغبة أبو البراء في مواصلة سرد تجربته مع إدمانه في رحلته للتعافي من هذه العادة المسببة للاضطراب. لكن صوت كلوديا جاء سريعاً وحاداً كسيف يهبط على يد سارق: حسناً، انتهت جلسة اليوم، سنكمل الأربعاء القادم، لا تتأخروا عن الموعد: الثالثة عصراً.
يرد الجميع: إن شاء الله إن شاء الله. وحده جبران باسيل يقول: بمشيئة الرب. ويباشرون بالخروج تباعاً.