جميعنا نحتاج لأن نتذكر بين الحين والآخر أن ثمة ما يستحق العيش من أجله. إحدى أساليبي التي ابتكرتها لنفسي هي تكديس قرابة العشرين كتاب على طاولة إلى جانب سريري. جميعها كتب أريد أن أعيشها، ولن يهدأ لي بال قبل أن أخوض في كلماتها. أمنّي نفسي أن مجرد النظر إليها قد يعيد لي الرغبة في الحياة. اللافت أن نسبة الكتب النِسوية تتزايد السنة تلو الأخرى. لا أدري متى ستسنح لي فرصة الجلوس مع هذه الكتب الجميلة، ولكن يهمني حاليًا أن  أشرح لماذا ينبغي أن نتجاوز جميعنا رُهاب القراءات النِسوية:

رغم اهتمامي بحقوق المرأة منذ أوائل العشرينات من عمري، والتعريف عن نفسي كنِسوية منذ أوائل الثلاثينات، إلا أني كنت دائمًا مقصرة في الاطلاع على تحف الفكر النسوي. في الحقيقة ثمة سببان رئيسان: الأول هو أني اعتبرت تجربتي كامرأة أهم من الكتابات، وأني أعرف كل شيء تقريبًا من خلال التفكر بحياتي وقراءة تجارب النساء من حولي، وهذا صحيح إلى حدّ ما فقط. والسبب الثاني هو ضغط ضد النِسويين الذين يحيطون بي، من بعض الأقارب أو الأحبة إلى الحبيب. يبدو أني خفت على نفسي من التطرف، وأن تلبسني تهمة النِسوية بشكل نهائي وأبدي.

مرّت فترة تماهيت فيها نوعًا ما مع الكاتبة نوال السعداوي، والسبب البسيط هو أني كنت لا أعرف غيرها من الأمهات النسويات. ألم أخبركم عن تقصيري؟ ولكنكم لا تتصورون كم سببت نوال مشاكل لي. حصل أكثر من مرة أن انصب غضب الناس منها على رأسي أنا، مع أني كنت ولا زلت أتجنب التطرف في كل كلمة أقولها، لا بل في كل حرف أو إيماءة تصدر عني. كل هذا جعلني أبتعد عن القراءات النسوية، وأركز على الروايات وبعض المواضيع العامة. والحقيقة أني نادمة أشد الندم على ذلك، ليس فقط لأني افتقدت الأدوات والسند الذي كانت ستوفره لي في سجالي مع العالم، ولكن لأني صرت الآن أفهم تجربتي بشكل أفضل، ولأن ثقتي بنفسي كامرأة ارتفعت، ولم تعد هبات ضد النسويين (نساء كانوا أم رجالًا) تعنيني، بل صارت تثير في نفسي بعض الشفقة. كل هذا جعلني أفكر أن أشتغل أكثر على ردم الفجوة في معرفتي، وأركز في السنوات القادمة على القراءات النِسوية. وتوقعي أن ذلك، على عكس تخوفي، لن يزيد من تطرفي، بل سوف يجعلني متسامحة وواعية أكثر.

وبعدما اطلعت على بعض العناوين العالمية، حاولت التعرف على ما قدمته النسويات السوريات والعربيات، بيد أني لم أجد سوى النذر اليسير. كثيرات اللواتي يحاولن تبني النِسوية كنهج حياة، ولكن قلة منهن منكبات على الكتابة النِسوية وصنع المستقبل عبر الكلمات. والسبب الأساسي حسب رأيي هو قصور في الثقافة النِسوية العربية وإنتاجها، إلى جانب مشاكل في النشر والتوزيع وضعف ثقافة القراءة بشكل عام. كل هذا يقف في وجه التراكم المعرفي الذي هو أساس أي إنتاج ثقافي. تساءلت كيف نحل هذه المعضلة؟ ووجدت أن الخطوة الأولى هي إيجاد طريقة سريعة وممتعة لنشر الفكر والوعي النِسوي.

وانطلاقًا من السؤال ذاته بودي أن أعرّف هنا على تجربتي مع نادي القراءة النسائي الذي أدرته لفترة تجاوزت العامين. هدفي الأصلي منه  كان سد الفجوة الثقافية والفكرية التي يمر بها المهاجر السوري في (بداية) حياته في بلده الجديد، بسبب عدم اتقانه للغة البلد، وعدم توفر الكتب والنشاطات الثقافية باللغة العربية، ولأن معظم النشاطات الثقافية في البلد الجديد لا تلامس همومه مباشرة، وغالباً لا تجذبه حتى ولو تعلم اللغة. عانيت كمهاجرة قديمة من الفراغ الثقافي القاتل الذي يشكو منه معظم المهاجرين. كل شيء غريب ولا أملك مفاتيح العالم الجديد وليس لدي من يوجهني، واللغة الأم التي كنت أتطور من خلالها باتت غير صالحة، أو بمعنى آخر أفلست. كل هذا جعلني أعيش حالة من النكوص والكسل الثقافي والفكري والانعزال الاجتماعي، قلما يتمكن المرء من تعويضها تماماً في وقت لاحق. وينسحب هذا على الجميع، صغارًا وكبارًا. قليلون هم المؤهلون لتعلم اللغة الجديدة إلى درجة تنفتح لهم ثقافة البلد من غير عراقيل. وإذا كانوا مؤهلين للتعلم، فالأمر سوف يحتاج دائماً إلى سنوات طويلة قبل أن يتمكنوا من قراءة كتاب كامل بارتياح.

هاجرت إلى هولندا مع عائلتي قبل ظهور الفضائيات وانتشار الإنترنت. لذلك أعتقد أن وضع اللاجئين واللاجئات الجدد أفضل من هذه الناحية، بسبب سهولة التواصل مع الأهل واستخدام اللغة الأم في حدود معينة. غير أننا، لو نظرنا في العمق، سوف نرى أن الفقر الثقافي يطال المهاجرين الجدد أيضًا، فالإنترنت تسطّح المعرفة، ولا تحل سوى جزء صغير من المشكلة، والأغلب تخفيها تحت البساط من غير أن تختفي. حاولتُ إذن أن أستفيد من خبرتي كمهاجرة قديمة لسد هذه الفجوة للمحيطين بي من اللاجئين السوريين عبر خلق جو ثقافي صغير وعميق باللغة العربية. هدفي الأول كان تفعيل اللغة الأم في حياة المهاجرين.

ومع الوقت اختمرت الفكرة أكثر في ذهني، وقررت أن أخلط الثقافي بالنِسوي، ومن هنا نشأت فكرة حلقة القراءة العربية للنساء. مضت حتى الآن سنتان ونصف على نادينا قرأنا فيها عددًا من الكتب النِسوية والفكرية والروايات، على سبيل المثال: الإسلام والمرأة لمية الرحبي، اللغز الأنثوي لبيتي فريدن، الجنس الآخر لسيمون دي بوفوار، سيدي وحبيبي لهدى بركات، حليب أسود لأليف شافاق، خارج المكان لإدوارد سعيد، والهويات القاتلة لأمين معلوف وغيرها.

تقييم النساء للنشاط إيجابي بشكل عام، ومعظمهن صرن لا يترددن عندما أدعوهن لحلقة جديدة. من الردود التي وصلتني من النساء أذكر مايلي: «أحسست نفسي أني عايشة، هموم البيت والأطفال أبعدوني تماماً عن هذه الأجواء، حلقة القراءة ردت لي نفسي التي كنتها من زمان». وعندما كنا نناقش كتاب اللغز الأنثوي قالت سيدة أخرى بما معنى أنها كانت تظن أن لديها مشكلة نفسية ولكنها اكتشفت الآن أن نساء أخريات يشكين من المشكلة ذاتها، وأن الذي تشعر به هو طبيعي نتيجة ظرفها.

بعد مرور عدة لقاءات، ومع تطور تجاوب المشاركات، فكرت أن هذه الحلقة يمكن أن تكون أكثر من حالة سدٍ للفراغ الثقافي أو النِسوي، وقد تكون طريقة لمساعدة النساء على فهم أنفسهن. ففي ستينات القرن الماضي انتشرت في أوروبا حلقات الكلام. كانت النساء تجتمع وتحكي مع بعضها بطريقة منظمة ودورية. وقد كانت هذه الحلقات من أهم الأدوات التي استخدمتها النساء بكثرة لوعي ذواتهن ونسويتهن. برأيي من الصعب استيراد حلقات الكلام النسوي بشكل حرفي إلى الوضع العربي، بسبب درجة المحرمات العالية التي نعاني منها، وحالة التفكك التي سببتها الحرب، ولكن من الممكن، عن طريق نوادي  الكتاب، أن نتكلم، نحن النساء، بشكل بناء وغير مباشر عن ذواتنا ونتعرف عليها، وتحل حلقات الكتاب محل حلقات الكلام المنظمة التي انتشرت في أوروبا إبان الموجة النسوية الثانية. فضلاً عن تجربتي الشخصية مع الكتاب كمرهم للروح يساعد على تجاوز أسى الحياة وهمومها. لذلك توخيت من كل قلبي نقل هذه التجربة إلى السوريات الجديدات في محيطي، وأعتقد أني نجحت إلى حدِ ما.

في البداية كنت أنظم كل شيء بنفسي والسيدات متجاوبات إلى حد معقول. فقط الأمهات يلاقين صعوبة بترك الأطفال في البيت والحضور. ولكن مع مرور الوقت تحسنت مبادرة السيدات واقترحن استلام الطبخ عني، فنحن نبدأ لقاءاتنا دومًا بالدردشة المفتوحة حول المائدة. اخترت هذا لأن للطعام قدرة عجيبة على ربط القلوب. وفعلًا نمت الصداقة بين السيدات جراء الجو الدافئ والمتفهم الذي شاع بيننا، وجراء حبي لهن فردًا فردًا. ولا أنكر أن جزءًا كبيرًا من الحميمية هي لأن اللقاءات نسائية حصرًا، فالتجربة علمتني أن النساء لا يطلقن بسهولة العنان للمشاعر والضحكات والحكايا الخاصة في الأجواء المختلطة، وأن للقاءات النِسوية الجادة سحر خاص. كم مرة خرجت الصبايا من بيتي طائرات كالعصافير.

لقائي مع السيدات في نادي القراءة هو وجهًا لوجه. ولكن نظرًا لتزايد عدد التجمعات الالكترونية التي تربط بين السوريين والسوريات في جميع أرجاء العالم، أرى أنه يمكن تجريب لقاءات عبر السكايب، وأجزم أنها ستكون ناجحة بطريقتها، لأن لدي تجربة معها عبر شبكة المرأة السورية – نساء شمس. وطبعًا ليس بالضرورة أن يكون اللقاء نسائيًا حصرًا أو نسويًا، لقد فعلت ذلك نظرًا لأهداف معينة وضعتها صوب عيني، فنوادي القراءة تصلح أن تكون ذات طابع أدبي أو سياسي أو حقوقي أو فلسفي أو بيئي أو أي شيء آخر. هذا يتبع لشغف صاحب/ة المبادرة والأشخاص الذين تستقطبهم.

كما أنصح بلقاءات للرجال حصرًا يناقشون فيها أهم عشرين كتاب نِسوي عالمي، كي يفهموا تجربة المرأة ولو قليلًا، قبل أن ينضموا رسميًا لحلقات القراءة المختلطة. وهذا كي يتعلموا بعض التواضع، فكثيرون يعتبرون أنفسهم متخصصين بكل شيء دونما أدنى فهم لعمق معاناة المرأة، ودونما تقبل حقيقي لفكرة أن النساء لَسنَ تابعات فكريًا ولديهن رؤيتهن الخاصة للعالم، والتي لا تتوافق معهم بالضرورة. قد يبدو كلامي مزاحًا، ولكن نصف المزاح جد.

وقبل أن أختم، أعبر عن أملي بانتشار بؤر القراءة بين السوريات، وألا يكون هدفها التثقيف فقط، وإنما ملامسة ذات المرأة المثقلة والتعرف عليها. هو مشوار طويل ولكن يحصل أن تعيش واحدتنا فجأة قفزة في تطورها واللقاء مع الكتاب يساعد بكل تأكيد. على أمل أن نصبح مع الوقت قادرات على إنتاج المعرفة النِسوية التي تتطرق لمشاكلنا في الحرب والمهجر، وأن تتجاوز من حيث النوعية ما قدمناه حتى الآن. دعونا نعوّض الفقر النِسوي المدقع الذي تعاني منه المكتبة العربية، هذا يتطلب منا عملاً يومياً دؤوباً.