شارفت مؤن النازحين على الانتهاء دون أن يلوح أي حلّ في الأفق، بينما تتزايد أعدادهم يومياً بحيث لم تعد الاستجابة الشعبية والمنظمات الإنسانية العاملة في إدلب قادرة على تأمين الحد الأدنى من المتطلبات لما يزيد عن تسعمائة ألف مُهجّر جديد، تركوا بيوتهم منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي حتى اليوم، وذلك بحسب فريق منسقو الاستجابة.
يبحث السكان عن مكان آمن، وهو ما دفعهم للتوجه نحو القرى والبلدات والمخيمات على الشريط الحدودي، أملاً بالنجاة رغم قسوة العيش وقلة الخدمات. إلا أن ذلك لم يفلح هذه المرة، خاصة مع القذائف التي طالت مخيمات في سرمدا التي لم تشهد هجمات منذ سنوات. وقد تسببت الخسارات المتتالية للقرى والبلدات بحالة من اليأس والغضب لدى الأهالي، سواء تجاه الفصائل العسكرية المناهضة للنظام، أو تجاه القوى الدولية «الضامنة»، متمثلة بتركيا وتصريحاتها النارية الأخيرة.
تستند المعلومات والتحليلات الواردة في هذا التقرير إلى أحاديث متعددة مع سكان ونازحين في مناطق خارجة عن سيطرة النظام في أرياف إدلب وحلب، في محاولة لطرح التساؤلات والتفكير في إجابات بناء على ما يحدث من وقائع، دون اللجوء إلى آراء وتصريحات المحللين السياسيين والقادة العسكريين، التي أظهرت خلال الفترة الأخيرة تخبطاً وجهلاً كبيراً، وأسهمت في زيادة حالة الإحباط لدى عموم السكان، الذين لم ينسوا في زحمة آلامهم أن يسخروا من كل شيء ومن كل شخص.
ما يحدث على الأرض
تبدأ القصة مساء كل يوم بجردة إخبارية للمواقع والقرى والمدن التي خسرتها أو تكاد تخسرها فصائل المعارضة، والتي يتم تصنيفها حسب المصطلحات الدارجة في أغلب المجموعات التي تتداول الأخبار في أوساط المعارضة إلى «عدو» و«صديق». وقد زادت في الأيام الأخيرة كلمة «عدو» إلى الدرجة التي خسرت فيها الفصائل كامل ريف حلب الجنوبي وأجزاء واسعة من ريف حلب الشمالي الغربي وريف إدلب الجنوبي، لتعلن قوات الأسد وحلفاؤها السيطرة الكاملة على طريق حلب-دمشق الدولي، وتبدأ بتزيين الطرقات بصورة قائدهم المفدى، وتبدأ زيارات مسؤولين في النظام إلى الطريق، الذي بدأت بعض الجهات بإزالة الحواجز فيه تمهيداً لفتحه.
بالمقابل، تُظهر المعارك في ريف حلب الغربي كيف تسير خطة قوات النظام في إتمام السيطرة على طريق حلب -غازي عنتاب، بعد الهجوم من محورين يلتقيان في بلدة عينجارة، أحدهما ينطلق من نبل والزهراء شمالاً والآخر من عاجل وعويجل جنوباً، بحيث تتجنب هذه القوات خوض معارك في بلدات حريتان وحيان وعندان ومحيطها، وتكتفي بالاقتراب من تطويقها ما يدفع المدنيين والمقاتلين إلى الانسحاب منها خشية الوقوع في الحصار. وقد نجحت هذه الخطة مساء أمس الأحد، إذ انسحب المقاتلون من هذه المنطقة الأكثر تحصيناً، والتي كانت تمثل خط الدفاع الأول عن ريف حلب الغربي، وغدا أمر إعلان النظام سيطرته عليها كلّها مسألة وقت ليس إلا.
وكان اللافت في سير المعارك بريف حلب الغربي دخول مقاتلين من وحدات حماية الشعب الكردية المنضوية في قوات سوريا الديمقراطية، والمتواجدين في تل رفعت والقرى المحيطة بها، على خط المعارك عبر مشاركتهم لقوات النظام في الهجوم الذي يتم تداول معلومات تقول إنه سيصل إلى دارة عزة غرباً. ويذهب بعض المتابعين إلى أبعد ذلك، إذ يتحدثون عن احتمال استمرار هذا الهجوم حتى الوصول إلى معبر باب الهوى، أو أطمة، وبذلك يتم فصل إدلب عن عفرين ومناطق شمال وشرق حلب، وذلك لقطع أي احتمالية للنزوح نحو هذه المناطق من جهة، ولمنع مقاتلي الفصائل المدعومة تركياً هناك من الدخول في أي معركة قد تحدث في إدلب.
في ريف إدلب الجنوبي، تحشد قوات النظام بعد سيطرتها على قرية النيرب غرب سراقب، وذلك بهدف مواصلة التقدم غرباً ومحاصرة أريحا وجبل الزاوية. وأمام الانهيار الكبير لفصائل المعارضة فإن الأمر لا يبدو مستبعداً، خاصة أن قوات النظام ثبتت قواعدها في المنطقة ورصدت الطرقات الموصلة إلى أريحا من كافة الاتجاهات.
النقاط التركية والأرتال العسكرية
حاصرت قوات النظام اثنتا عشر نقطة تركية متواجدة في أرياف إدلب وحلب وحماة حتى الآن، فيما ارتفعت أعداد النقاط التركية التي تم إنشاؤها في الآونة الأخيرة إلى سبع وعشرين نقطة. وتشهد إدلب يومياً دخول أرتال من القوات التركية، تشمل آلاف الآليات العسكرية والخبراء والضباط والمقاتلين، بالإضافة إلى حشد أعداد كبيرة من الدبابات والمدافع والعربات المصفحة على الحدود.
لا يبدو الزج بهذه الأعداد من المقاتلين والعتاد أمراً عادياً، خاصة مع التصريحات اليومية للحكومة التركية بقرب المعركة بعد إعطاء مهلة لقوات الأسد بالانسحاب إلى حدود اتفاق سوتشي قبل نهاية الشهر الحالي، وهو الانسحاب الذي سيكون سلماً أو حرباً حسب ما قال الرئيس التركي أردوغان أكثر من مرة. تسعى تركيا على ما يبدو إلى حشد دعم دولي لمعركتها تلك، وتواصل في الوقت نفسه مفاوضات مع الجانب الروسي لتجنبها، وهي المفاوضات التي تبدو متعثرة حتى الآن بحسب ما توحي به التصريحات الروسية وطبول الحرب التركية.
لكن قرع هذه الطبول يبقى صوتاً فقط بحسب النازحين والسكان الذين تواصلنا معهم، الذين يعيش بعضهم في الخيام أو في العراء، ويعيش بعضهم الآخر رعب النزوح إلى الخيام أو العراء، والذين يئسوا من أي عملية تركية في الأراضي السورية، خاصة وأن كل الاستفزازات التي تقوم بها قوات الأسد وحلفاؤها لم تنجح في إطلاق المعركة المرتقبة، بدءاً من استهداف النقاط التركية أو حصارها واستفزاز عناصرها، وصولاً إلى التصريحات اليومية لحكومتي النظام وروسيا، التي تقلل من أهمية الغضب التركي وردة فعله المحتملة.
يتساءل كثيرون عن أسباب تأخر إعلان المعركة بالرغم من دلالاتها على الأرض، لأنه إذا كانت تركيا ستدعم فعلاً معركة ضد النظام، فلماذا تسمح بسيطرة قواته على مناطق استراتيجية؛ ألم يكن من الأفضل صد قوات النظام هناك، بحيث تتجنب الفصائل ومن خلفها تركيا حرباً على مساحة أوسع وفي مناطق أكثر صعوبة؟ خاصة مع انهيار خطوط الدفاع لهذه المناطق، واستنزاف أعداد كبيرة من المقاتلين المناهضين للنظام على جبهاتها.
لا نستطيع معرفة ما يدور في ذهن الحكومة التركية، إلا أن السوريين في أرياف إدلب وحلب وحماة يشعرون بخيبة كبيرة تجاه ما يحدث، فاقدين أي أمل باستعادة ما خسرته الفصائل في الأشهر الأخيرة، وهم ما يجعل النسبة العظمى من النازحين يفقدون الأمل في الرجوع إلى ديارهم. يقول من تحدثنا إليهم أن هذا التأخر في المعركة ترك آثاره السلبية على الواقع العسكري، فمعظم الفصائل المقاتلة انسحبت دون قتال من نقاطها، فإذا لم تكن قدرتهم على صد الهجوم مؤكدة، فإنهم كانوا يستطيعون على الأقل إعاقة هذا الهجوم وجعله أبطأ وأكثر صعوبة. لكن بعضهم لا يرون أن السبب هو الإحباط واليأس، بل يعتقدون أن السبب هو تبعية هذه الفصائل، ومنها فيلق الشام والجبهة الوطنية للتحرير، وارتهانها للقرار التركي، مؤكدين أن أوامر الانسحاب جاءت من القيادة التركية.
أما هيئة تحرير الشام، فتتفق كل الآراء تقريباً أنها لا تقاتل بجدية لأنها تستشعر الخطر على وجودها، ولذلك لا تريد قيادتها استنزاف المقاتلين والعتاد في معركة مع النظام، بحيث يغدو أمر إنهائها سهلاً فيما بعد من قبل القوات التركية والفصائل التابعة لها.
الجولان والجولاني
إلى جانب النقمة على سائر الفصائل المعارضة، ترتفع حدة النقمة في مناطق إدلب على هيئة تحرير الشام وأميرها الجولاني، إذ يعتبر كثيرون أن الهيئة تبيع بعض المناطق أو تتخلى عنها دون قتال، وذلك في محاولة منهم لتفسير السقوط السريع للقرى والبلدات التي تتواجد فيها الهيئة بعد سحب سلاحها الثقيل منها. يقولون إن الهيئة التي أنهت وجود معظم الفصائل العسكرية في المنطقة وسلبت سلاحها لم تكن تريد أصلاً سوى التحكم في هذه المنطقة، فيما يذهب بعض من تحدثنا إليهم بعيداً فيقولون إن هذه الانسحابات التي تنفذها الهيئة رسالة إلى الفصائل المدعومة تركياً، تقول فيها إنها قادرة على تسليم المنطقة لقوات النظام في حال فكرت الفصائل في تهديد وجودها.
لا يتفق الجميع على هذا الرأي، إذ يرى بعض من تحدثنا إليهم أن الهيئة ليست في وارد التخلي عن هذه المناطق بإرادتها لأنها تعرف أن خسارتها يعني بداية نهاية مشروع الهيئة، لكنهم يرون أن الهيئة تناور علّها تحافظ على بقائها في سياق حلّ ما. وعلى أي حال، لا يستطيع كثيرون منع أنفسهم من مقارنة هذا الواقع الذي فرضه الجولاني مع الواقع الذي كان يفرضه النظام بحجة استعادة الجولان من الاحتلال الإسرائيلي، إذ أن الجولاني سيطر على مقدرات مناطق واسعة بالقوة، وذلك بحجة حمايتها من النظام، غير أن مهمة حمايتها هذه لم تكن على سلم أولوياته.
سوتشي بدون حدود
لم تتضح حتى اللحظة بنود الاتفاقيات التركية الروسية بخصوص إدلب، ولا يتعدى ما صدر كونه تحليلات سياسية وتسريبات تحتاج للتأويل والشرح. كذلك ليس ثمة تفسيرات معقولة للخلاف الروسي التركي، وخاصة أن الجانب التركي لم يردّ بشكل مباشر على التصريحات الروسية التي قالت إن ما يحدث في إدلب ليس إلا تطبيقاً لبنود اتفاق سوتشي، وإن روسيا تحاول تنفيذ ما عجزت عنه تركيا. في مقابل هذا الكلام، لا نجد سوى تهديدات تركية، وكلام إنشائي من الرئيس التركي، يتحدث عن ضرورة وقف عمليات النظام الحربية.
يقول معظم من تحدثنا إليهم إنهم يأملون أن تجد التهديدات والتصريحات التركية طريقها إلى التنفيذ، لكنهم لا يعولون عليها كثيراً، ويسألون قبل ذلك: أليس من حق الأهالي معرفة الحدود التي تم الاتفاق عليها؟ وإذا كانت المناطق التي سقطت مؤخراً ضمن الاتفاق أصلاً، فمن يتحمل مسؤولية تهجير سكانها وموت المئات منهم، ومسؤولية الظروف القاسية التي يعيشونها اليوم في المخيمات؟
يحاول بعض الأشخاص، ونحاول معهم، تقديم تصور لما حدث وما يزال يحدث في كل يوم، وأحد الاحتمالات التي تدور في أذهان بعض النازحين والسكان يقول إن تركيا تسعى من خلال الكارثة الإنسانية المتوقعة إلى كسب موافقة حلفائها الغربيين على دعمها في معركة ضد النظام، لكنهم يرون أن هذا قد ينتهي إلى حصر معظم سكان المنطقة في شريط حدودي ضيق ثم إجبارهم على خيار «المصالحة» مع النظام على الطريقة الروسية التي تم تنفيذها في درعا مثلاً. يذهب بعضهم أبعد من ذلك، إذ يقولون إن تركيا موافقة ضمنياً على فصل إدلب عن منطقتي عفرين وريف حلب الشمالي والشرقي، تجنباً لدخول هيئة تحرير الشام إلى هذه المناطق، ما سيعطي ذريعة لروسيا وقوات النظام بالتوجه إلى هذه المنطقة، التي يرى أن تركيا تريد الاحتفاظ بسيطرتها المباشرة عليها، مؤكدين أن السياسة التركية تعاني من حالة تخبط ستجبرها على الانسحاب تماماً في النهاية إذا سقطت إدلب.
نريد حلاً
تتقطع السبل في وجه ما يزيد عن ثلاثة ملايين شخص يعيشون في محافظة إدلب اليوم، جلّهم يبحث عن مخرج للنجاة. ورغم الوقائع التي لا مجال لنكرانها، لا يزال كثيرون على صفحات التواصل الاجتماعي يعتبرون أن كلاماً من النوع الذي يتضمنه هذا التقرير هو كلام يائس وانهزامي لا ينبغي قوله، لكن الرد على هؤلاء حاضرٌ بوضوح في وجوه من يسكنون الخيام أو العراء، وفي مشاهد آلاف السيارات التي ترتصّ على طرقات النزوح، ولا يأمل ركابها سوى الحصول على مأوى من البرد الذي لا يطاق، ومن الموت الذي يلاحقهم.
لا يطلب من تحدثنا إليهم سوى إعلان حقيقة الاتفاقات، وبعدها سيقرر كلّ واحد منهم ما يريده؛ النزوح أو البقاء، الصمود أو الخروج، القتال أو مغادرة فوهة الجحيم.