تتزايد الهجمات التي تتعرض لها قوات النظام السوري والميليشيات التابعة لإيران في البادية السورية وأطرافها مؤخراً، حتى وصل عددها إلى معدل ثلاث هجمات أسبوعياً في الآونة الأخيرة، ينفذها عناصر تابعون لتنظيم داعش بالأسلحة المتوسطة والخفيفة، متسببين بخسائر متكررة في الأرواح والعتاد.
لم ينتهِ تنظيم الدولة الإسلامية إذن كما أعلنت القوى التي تقاتله مراراً خلال العام الماضي، بل إنه لا يزال يعمل بفعالية كبيرة في عدة مناطق من الشرق السوري، حيث تتوزع خلاياه بشكل يُصعّبُ اصطيادها أو السيطرة عليها. وتنتشر هذه الخلايا على الحدود العراقية السورية شمال وجنوب نهر الفرات، وفي مناطق عدة جنوب وغرب نهر الفرات حيث يسيطر النظام السوري وحلفاؤه، وعلى وجه الخصوص في بادية الميادين وبادية الروضة وبالقرب من منطقة الكم جنوب شرقي دير الزور، وفي جنوب غربي مدينة دير الزور قرب جبل البشري وفي بادية الرقة. كما تنتشر خلايا أخرى في مناطق شمال وشرق نهر الفرات في الجزيرة السورية، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي، وتتخذ هذه الخلايا من المناطق الحدودية ومن بعض القرى والبلدات منطلقاً لشن هجماتها على قوات قسد والمتعاملين معها.
استراتيجية التنظيم
بعد انحسار سيطرته بشكل كبير، تراجع التنظيم عن استراتيجية السيطرة والاستحواذ على الأراضي، متحولاً إلى ما يشبه حرب العصابات، وإن كانت تسير بشكلين مختلفين؛ في الجزيرة حيث مناطق سيطرة قسد، يتّبع التنظيم استراتيجية الخلايا النائمة قليلة العدد والعتاد، التي تقوم بعمليات الاغتيال وتفخيخ سيارات المستهدفين، أو تفجير عبوات ناسفة بهم أو في مقراتهم، وهي خلايا نشطة تتخفى داخل تلك المناطق مستفيدة من جغرافيتها ومعرفتها بها، ومن صلات القربى التي تجمع بعض عناصرها مع أشخاص من سكان هذه المناطق، ولعلّ هذا ما دفع بعض العشائر إلى توقيع اتفاقات وتفاهمات في ما بينها، تهدف إلى رفع الحماية العشائرية عن أبناء العشائر الذين يرتكبون جرائم بحق أبناء عشائر أخرى.
تستخدم خلايا التنظيم هذه الأساليب في التنقل أو الاستقرار في تلك المناطق، ما يؤدي إلى صعوبة السيطرة على عملياتها وكشفها في ظل ضعف استخباراتي وأمني واضح من قبل قسد، واعتمادها على الوشاية والتقارير التي لا يعدو بعضها كونه كيدياً. كما تستخدم هذه الخلايا عمليات الترهيب والضغط من أجل تمويل نفسها، من خلال اختيار أشخاص محددين وفرض إتاوات مالية عليهم، خاصة أصحاب محلات الحوالات المالية وصاغة الذهب، حيث تم استهداف أكثر من شخص بعمليات كهذه في مدن هجين وأبو حمام وغرانيج والشحيل خلال الأشهر الماضية. كذلك يستغلّ التنظيم الخلافات العشائرية من أجل التمدد داخل المناطق، بل ويعمل على زيادة تلك الخلافات من خلال تنفيذ عمليات اغتيال لأشخاص خارج مناطق سكنهم أثناء وجودهم في مناطق أخرى، بهدف إثارة المشاكل واستغلال الوضع الأمني المضطرب.
وقد شهدت مدينة البصيرة بريف دير الزور مؤخراً تحركات كثيرة لعناصر التنظيم، ويقول من تحدثنا إليهم من سكان المدينة إنهم شاهدوا مراراً عناصر ملثمين يتبعون للتنظيم، يستقلون دراجات نارية ويوزعون منشورات تدعو لدفع الزكاة والالتزام باللباس الشرعي، كما يقولون إن أوقات ظهورهم ليست محددة، غير أن معظمها يكون بعد صلاة العشاء أو قبيل صلاة الفجر، كما قال بعض الشهود إن عناصر من التنظيم يقومون أحياناً بتنفيذ مداهمات ليلية لمنازل بعض المطلوبين للتنظيم، أو المتهمين بالتعامل مع قسد.
أما على الضفة الشامية لنهر الفرات، إلى الجنوب من النهر حيث تسيطر قوات النظام وحلفاؤها، فيتوزّع التنظيم على طول البادية السورية في مجموعات صغيرة، تستخدم الدراجات النارية في تنقلاتها عبر طرق خبرتها من خلال وجودها الطويل هناك، إذ أن معظم هؤلاء المقاتلين من أبناء تلك المناطق، أو قاتلوا فيها خلال تواجدهم في قطاع البادية الذي شكلّه داعش بعد السيطرة على ريف حمص ودير الزور وخروج عناصره من ريف دمشق بعد اتفاقية مع نظام الأسد، وخروجهم من القلمون الشرقي بعد اتفاقية مع حزب الله، وكذلك من العناصر الذين نقلهم نظام الأسد إلى شرق السويداء من أحياء دمشق الجنوبية.
تتواجد هذه الخلايا في مغاور وأودية في البادية السورية، وفي بعض المخابئ التي قام التنظيم بتجهيزها خلال عامي 2016 و2017، بعد تيقنه من بداية خسارته لمناطق سيطرته. كما أنه قام بإنشاء مخازن للأسلحة فيها، يعتمد التنظيم عليها في تسليحه، وأيضاً على ما يتم تهريبه من غربي العراق عبر الحدود، التي لا زالت حتى اللحظة لا تخضع لسيطرة أي طرف بشكل كامل، سواء في الجانب العراقي أو في الجانب السوري. كذلك يستخدم التنظيم ما يستولي عليه عناصره في هجماتهم، وما يقومون بشرائه من عناصر المليشيات.
وليس انتشار التنظيم في هذه المناطق سراً، بل كان إعداد التنظيم لمخازن ومخابئ في البادية أمراً معروفاً منذ فترة سيطرته على معظم مناطق دير الزور والرقة، ولم يكن عناصر التنظيم أنفسهم يخفون هذا في أحاديثهم اليومية التي يعرفها سكان المنطقة. أما بخصوص التموين بالوقود والغذاء، فيعتمد التنظيم على التهريب من غربي العراق أو من مناطق سيطرة نظام الأسد، أو من خلال تسلل عناصر له إلى داخل تلك المناطق، كما يقوم عناصر التنظيم أحياناً بمصادرة بعض ممتلكات الأهالي، خاصة الأغنام والوقود، تحت ذرائع شتى أهمها مولاة هؤلاء للنظام أو تحصيل الزكاة منهم.
يبدو إذن أن لدى التنظيم استراتيجية مرسومة للحفاظ على وجوده في شرقي سوريا وغربي العراق، ولعل هذه الاستراتيجية هي ما أسماه أبو بكر البغدادي بـ«المناطق الأمنية»، وذلك في آخر خطاب له قبل مقتله على يد القوات الأميركية شمال سوريا نهاية العام الماضي. وتستمد هذه الاستراتيجية قدرتها على إبقاء التنظيم على قيد الحياة من مجمل العوامل والظروف المذكورة أعلاه، التي يقع في القلب منها انتشاره في مناطق شاسعة خالية من السكن في البادية، بحيث تصعب مطاردته والقضاء عليه فيها، لكن يبقى أن أبرز عوامل بقاء التنظيم هي استفادة كل طرف من طرفي الصراع الرئيسيين عبر جانبي النهر من وجوده، سواء استغلال الأمريكيين لوجوده جنوب الفرات من أجل ضمان حالة عدم الاستقرار للقوات الروسية والإيرانية والنظامية، أو العكس من خلال استغلال الميليشيات والنظام لوجود الخلايا التي تهاجم حلفاء واشنطن في الجزيرة السورية.