تلك أيام الثورة.

كلهم نسوا ما كان يحدث في الثورة واشتهوكِ يا أروى، وهذا يرمي النار في روحي ويكويني، ثم أعود فأقول للغيرة، لو كنت هناك يومذاك، لصرختُ فيهم بالفصحى: لكن أروى لا تُحبكم، يا رجال، يا ضباط، ويا خرطوش، ولضحكت حتى الموت.

-أنا أروى يا مريم، أريج جمال؛ صفحة37

في لحظة الثورة، من البديهيّ تَوقُّع أن هناك هوامش ستحتل ما يسمى «المتن». فكل فرد في المجتمع الثائر بداخله هامشٌ  مكبوت، يرغب في الخروج والظهور بطريقة أو بأخرى. إنها اللحظة والفرصة المناسبتان لممارسة ما كان يُمارَس في الخفاء، وتحويل ما كان مرفوضاً قبل لحظة انطلاق الثورة إلى شيء من الطبيعي جداً ممارسته وإظهاره للعلن في المجال العام.

فيما يخص الحريات الفردية والقضايا الجندرية، لا يقتصر التعبير عنها عبر الشعارات العريضة أثناء الثورة وحسب، بل عبر ممارستها في الحياة اليومية، وعلى الأرض، وفي الشارع. فالثورة لا تخلق أو تبتكر هذه الحريات بقدر ما تخلق فرصة إبرازها في المجال العام، وتخلق مناخاً لتقاطعاتها وارتباطاتها مع باقي المطالب السياسية والاجتماعية والثقافية، وبوصفها حقاً من الحقوق المسلوبة للفرد.

في رواية أنا أروى يا مريم للكاتبة المصرية أريج جمال، والصادرة عن دار الساقي في بيروت عام 2019، لا تمثل لحظة الثورة لبطلتي الرواية، أروى ومريم، سوى لحظة التقاء وتقاطع مصائر، وكشف الغطاء عن الماضي وسرده بوصفه مخاضاً عسيراً، انتهى بولادة هذه اللحظة.

تأتي نبرة السّرد بطيئةً، متمهلةً، لتبدو حالة الصَّخب وتسارع الأيام والأحداث في زمن الثورة بمثابة خشبة مسرح لا بدّ منها، إذ أن الرواية تدور حول علاقة حب مثليّة، تجمع ما بين أروى ومريم. لا تطرح الكاتبة فكرة العلاقة المثلية في الرواية بوصفها قضية الرواية أو محورها، حتى أن كلمة «مثلية» لا تُذكر في الرواية، في تجاوز لتناول موضوع المثلية بوصفه موضوعاً بالأساس.

لا صوتَ لراوٍ عليمٍ هنا، بل صوت أروى ومريم، وهنَّ يسردن لبعضهن كيف تيتّمن في هذا العالم. مريم، التي عاشت طفولتها في مدينة الرياض في السعودية، تعود إلى القاهرة وتعيش مع جدتها بعد وفاة أمها وأبيها إثر حادث مفاجئ. وأروى، العائدة من منفاها الاختياري في ألمانيا للمشاركة في ثورة 25 يناير والعزف على آلتها الموسيقية، الأوبوا، في شوارع وميادين القاهرة.

*****

حضور أروى في حياة مريم هو الحدث الأهم، وربما هو «الثورة» بالنسبة لمريم. تقول:

كانت أياماً عادية يا أروى، على الأقل هكذا بدت حينها. كنت أتلقى الخيبات كهدايا عيد الميلاد، أدعو الناس إليها فيأتون بلا تبرم، خيبات في العمل، الصداقة، الحب لو كان بإمكانك أن تسميه حباً، الحياة صعودٌ للسلم، هبوط للسلم، عبور للشوارع المكتظة، سير في الشوارع الخالية، سير بلا صاحب ولا فكر ولا هدف، كان خيالي بليداً، لا أعرف التدوين بعدْ، لم تكن ولدت في روحي كل هذه القصائد التي كتبتها معكِ عنّا.

تروي مريم قصة حياتها منذ لحظة ولادتها، إذ كان قدومها إلى الحياة غير مرحب به من ناحية أبيها، فالأخير لم يكن ينتظر أن تنجب زوجته مولوداً «أنثى»، بل كان ينتظر هو وعائلته في مصر مولوداً «ذكراً» تفخر العائلة به.

لكن العائلة الصعيدية المصرية بعثت رسالة عبر شريط مسجل تُخبر ابنها بحزنها لإنجاب زوجته بنتاً: «عمتك زعلت إنك خلّفت بنت. قلت لها أمر الله. لا يجوز نعترض عليه. بكرة ربنا يعوضه بصبي. يا محمد. من حقك أن تتزوج ثاني وثالث ورابع. أبوك بعد شهر من الدُخلة حطّ إيده على بطني وقال لي صبي. بعد تسع شهور بالتمام جه سليمان. عمتك زعلانة وتقول إننا صعايدة. لا بد تكون ذريتنا رجال».

بالمقابل، تروي أروى قصة حياتها أيضاً، إذ كان قدومها إلى الحياة نتيجة زواج أمها غصباً من أبيها الذي يشغل منصب ضابط في أمن الدولة. كانت أروى شاهدة على النهاية الكارثية لقصة حب أمها من حبيبها ميشيل، الذي تم رميه من نافذة شقته في الطابق الرابع، من قبل رجال أمن أرسلهم الأب (ضابط الأمن)، بعد لفّ حبل على رقبته. لتموت الأم بعد موت حبيبها بفترة قصيرة.

لم يكتفِ الأب بانتقامه من الأم وحبيبها، لكنه أيضاً كان يكره أروى مذ كانت طفلة. فبينما كانت أمها تقول عنها «أروى ست البنات (…) كلمة كانت تعني أنني أكبر من سني: امرأة بالغة في جسد طفلة، وصف يستفز صلاح لأن يشتمني» ليصحح الأخير: «شيطانة كاملة في جسد طفلة».

ليست الرواية مشغولة في إبراز فِعل التمرد على المجتمع الأبوي والذكوري، بقدر انشغالها في الكشف عن معنى أو جوهر ما لهذا التشابه في المصائر، الإحساس باليتم داخل مجتمع ينتمين له، وفي الوقت نفسه منفيات منه، سواءَ جرى هذا النفي بشكل فعلي واختياري بالنسبة لأروى، أو رمزي ومعنوي بالنسبة لمريم.

*****

لا يأتي سرد المشاهد الحميمة بين أروى ومريم من أجل إغراء مجاني للقارئ، أو إقحاماً بهدف عرض مشاهد جنسية بحتة. بل إن هناك مزجاً بين تفاعلات الجسد والروح والعقل في لحظة حب تأخرت كثيراً ربما عن ارتواءٍ ما، بعد قضاء عمر من عطش الروح والجسد معاً. نقرأ في هذا المقطع:

«بِزّك يا مريم». لذتها الخفيفة من الكلمة. علّمتني أروى أن أستخف باللذة وألا أكتفي منها، أنا بين رجائي لها بإطفاء النار ورجائها المواصلة، كنتُ أتلقى شيئاً جديداً عن العطاء اسمه الإفراط. «خليني أرضع من بزّك يا مريم. أنتِ أمي». كان ثديي عندها فعلاً. يعني لا ينقصها الإذن، لكن في الذي منحتُه ساعتها، كان يرقد تاريخاً منفرجاً من حياتي، لا اسم له في الدنيا سوى الثورة. قلتُ لها: «أنا بحبك يا روحي ارضعي مني».

تجعل الكاتبة من جَسَديّ أروى ومريم مركزاً للثورة، متناً لها، وما يدور حولهما هوامش، تعلو وتهبط. حتى الثورة التي في الميادين، والتي لا تبعد سوى خطوات عن شقة أروى في شارع شامبليون، نسمع أصداءها من نافذة الشقة المفتوحة كحركة الأمواج ما بين مدّ وجزر.

كما أن الكاتبة وضعت قصة حب مثلية بين امرأتين ضمن سياق سيرة الاضطهاد والعنف الذكوري والأبوي ضد المرأة في العالم العربي، سواءَ كانت هذه المرأة مثلية أم غيريّة. فالأمهات (سارة أم أروى، وصدّيقة أم مريم) لم تنجوا من هذه العنف، بل عاشتا تحت وطأة مجتمع جردهن من حقوقهن وحريتهن الشخصية، التي كان من ضمنها حق اختيار الشخص الذي نحبه ونرغب في العيش معه، والحق في «عدم الخوف» من أن تنجب المرأة- الأم مولوداً «أنثى».

إذن، كان «التاريخ ينفرج»، ليس على معاناة جيل الشباب والشابات الذي غيّرت الثورة حياته، بل على أجيال عاشت داخل الأبواب الموصدة للتاريخ المنغلق، الذي كانت معاناة النساء فيه على الهامش. هذا الهامش الذي كان مصيره النسيان والتلاشي، لولا رواية الثورة، التي، حينما توثق لحدثها الآني، إنما تبني سرداً مغايراً للتاريخ الرسمي، الذي كان معظم مُسطّريه من الرجال «المنتصرين».

ولتكن لحظة التقاء مريم وأروى، وعلاقة الحب التي جمعت بينهما في زمن الثورة، بمثابة تحية وعزاء لجيل من النساء، مُتنَ قبل أن يسردنَ مأساتهنّ؛ ووضع حدٍ لشعور اليتم والكتمان الطويل.