جلست أمامنا، أنا وصديقتي، أربع راهبات يلبسن أثواباً عسلية باهتة تقترب من البياض، كمن هرب من الجنة لتوه على عجل، عيونهنّ تُفصح عن جغرافيتهنّ، شرق آسيا في الميلاد. ذكَّرني وجودهنّ بفتح الآيباد خاصتي متحمساً، والبدء بمشاهدة فيلم The Two Popes، وأنا في القطار المتجه إلى روما «المدينة الأبدية»، التي تحتضن الفاتيكان «المدينة الروحية»، المكان التي تجري فيه قصة الفيلم.

تدور أغلب أحداث الفيلم في النزل الصيفي للبابا وفي مدينة الفاتيكان، حول علاقة خورخي ماريو بيرغوليو الأرجنتيني، وهو البابا فرنسيس الحالي، مع جوزيف راتزينغر الألماني، وهو البابا بينيديكت السادس عشر الذي سبقه في سيادة دولة الفاتيكان. تلك العلاقة التي يصورها الفيلم بطريقة المناظرة حول دور الله ودور الكنيسة اليوم، حول تمايزاتهما وتناقضاتهما، التي أظهرها المخرج بوضوح وصراحة فجّة في بداية الفيلم.

البابا السابق بينيدكت يمينيُّ التوجه، محافظ متمسك باللاهوت والشرائع الكنسية الأولى، مقابل البابا فرنسيس الحالي الأكثر انفتاحاً، الذي يحمل توجهات إصلاحية. يتصاعد الفيلم تدريجياً، وتتحول هذه العلاقة المناظراتية إلى صداقة وودّ في نهايته، وذلك عبر تقارب وجهات نظريهما، والاشتراك في البيتزا والاستمتاع بموسيقى الجاز ومشاهدة كرة القدم. تُختتم هذه الصداقة بشكل درامي، عبر انتخاب بيرغوليو بابا جديداً بعد استقالة البابا بينيديكت السادس عشر التاريخية عام 2013، ليكون أول بابا يستقيل منذ أكثر من ستة قرون، وذلك لأن الولاية البابوية تستمر مدى الحياة في العادة.

تكمن عقدة الفيلم في حدث طلب استقالة بيرغوليو، البابا فرنسيس الحالي، من منصبه كرئيس أساقفة بيونس أيرس من البابا بينيديكت، بسبب عجز الفاتيكان عن اتخاذ موقف حازم يومها أمام فضائح الاعتداءات الجنسية على الأطفال داخل أسوار مؤسسة الكنيسة، على عكس ما يحاوله ويسعى إليه بعدما أصبح هو البابا اليوم.  طلب الاستقالة يتزامن مع شعور البابا بينيديكت نفسه بأنه يجب عليه الاستقالة من منصبه أيضاً، لكن لأسباب مختلفة، أهمها تقدمه في العمر وعدم قدرته على مواجهة المشاكل الجمّة التي تعصف بالكنيسة الكاثوليكية من خسارة مؤمنيها وسمعتها، والأهم من ذلك عدم قدرته على الإنصات لصوت الرب رغم دفاعه المستميت عن تقاليد الكنيسة؛ كما يقول بنفسه في الفيلم.

بوستر الفيلم في الفاتيكان، تصوير كميل أسود
بوستر الفيلم في الفاتيكان، تصوير كميل أسود

بوستر الفيلم في الفاتيكان، تصوير كميل أسود

يبدأ الفيلم بجملة «مستوحى من أحداث حقيقية»، ما يتيح مساحة من الحرية للمخرج البرازيلي Fernando Meirelles مخرج فيلم The city of God، والكاتب Anthony McCarten كاتب فيلم Bohemian Rhapsody، سمحت باقتباس الأحداث التي يريدانها من الحقيقة حيناً، وإمكانية الشطح الخيالي الدرامي حيناً آخر. وقد استخدم المخرج العديد من اللقطات الإخبارية الحقيقية والتقارير التلفزيونية والمشاهد التسجيلية التي حدثت فعلاً في الماضي، مثل مشاهد من الانقلاب العسكري في الأرجنتين، ومشاهد تجمّع المؤمنين المتحمسين لرؤية البابا في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان، لتكون أدوات تقرب المشاهد من الفيلم وتعطيه بعداً توثيقياً واقعياً. ومن جهة أخرى، تم استخدام الديكور الجديد الذي بُني للفيلم خصيصاً في ستوديوهات العمل السينمائي في روما، بحيث تم الدمج بواسطة الوسائل التقنية الحديثة بين شخصيات الفيلم والأماكن الحقيقية التاريخية الذي يستعملها المخرج لبناء قصته المُتخيلة عن العلاقة بين الباباوين.

تميَّزَ هذا الفيلم عن المسلسل الأقرب إلى موضوعه، The Young Pope الذي أخرجه Paolo Sorrentino، بتناوله الواقعي للعلاقة بين الفاتيكان والبابا، وتفاعلها مع المجريات التي تحدث في العالم خارج الفاتيكان. فالفيلم لا يكتفي بالدراما والكوميديا والشطح، وهي جانب أساسي  في بنيته، بل يضيء على أحداث تاريخية وقعت بالفعل في تاريخ الفاتيكان، ليصبح مباراة ذهنية وفكرية شيّقة بين عمودين ينتميان إلى المؤسسة الأعرق في التاريخ بالنسبة لمسيحيي العالم الكاثوليكيين، الذين يصل عددهم إلى أكثر من مليار إنسان اليوم.

يأخذنا الفيلم من خلال حواراته في رحلة وجودية تبحث عن معنى الحياة، ومغزى الإيمان، والعلاقة بين الدين والدنيا؛ وتبحث في الثقة الغيبية وتدخّل الله في حياتنا وإشكاليات الحرية والإرادة والمسؤولية، وفي مأزق رجل الدين الذي يُطلب منه منح الغفران للآخرين في حين لا يخلو هو نفسه من الخطايا. وقد نجح المخرج البرازيلي في إظهار الإنسان الخطّاء لدى كلّ من البابوين، بوصفهما إنسانين غير كاملين، لديهما تناقضاتهما مع نفسيهما، ومع بعضهما بعضاً، ومع تأويل كل منهما للنصوص المقدسة وكيفية تطبيقها.

وبغض النظر عن كون المشاهد مؤمناً أم لا، فإنه سينجذب إلى جانب الصداقة بين الباباوين وقبولهما لنقصهما وتعلّم أحدهما من الآخر، فكلا الباباوين ليسا معصومين ولا يمثلان الله على الأرض كما اعتادت أغلب السرديات في الديانات الابراهيمية أن تقدم رموزها، لتتكثف رؤية المخرج في تصويرهما كبشريين في مشهد رقصة التانغو الأرجنتينية التي يعلمها بيرغوليو للبابا بينيديكت أثناء وداعه عائداً إلى وطنه، من خلال تعابير الفرح والسخرية على وجه بيرغوليو، وتعابير الارتباك والتشويش على وجه بينيديكت، التي أعطتهما بعداً جمالياً عبثياً، يتضمن سخرية من واجب القداسة الذي يقع على كاهليهما.

وقد خلقت اللقطات القريبة من الوجه بُعداً وثائقياً في العديد من مشاهد الفيلم، وأعطت هذه المشاهد مترافقة مع حوار الشخصيات انطباعاً عن نضوج حكمة الباباوين مع تقدمهما بالسن. هذا النضج الذي عززه السرد الخلفي، وذلك بالعودة إلى الزمن الماضي وباستعمال المخرج ألوان الأبيض والأسود حيناً، أو اللون الواحد القاتم حيناً آخر، ليأخذنا هذا اللون القاتم في رحلة إلى السبعينات من تاريخ الأرجنتين، حين غطت غيمة سوداء على النظام السياسي هناك. كان نظام ديكتاتوري عسكري قد استولى على السلطة هناك في ذلك الوقت، ومارس تسلطه على الناس، فالجميع كانوا مشتبهاً فيهم بتهمة المعارضة أو الشيوعية، وأيّ شخص يُعارض النظام كان يُنفى أو يُعذب أو يُقتل. في ذلك الوقت، اعتُبِر العديد من القساوسة مساندين للمقاومة المسلحة الثائرة، وهنا يضيء الفيلم على دور الأسقف الشاب بيرغوليو، الراهب اليسوعي، الذي فرض بقوة السلطة الممنوحة له كرئيس للرهبنة اليسوعية في الأرجنتين إغلاق مشروع الرهبنة هناك حفاظاً على سلامته وسلامة القساوسة الشخصية، على الرغم من معارضة بعضهم هذا الإغلاق، حتى أن بعضهم واصلوا نشاطهم ونالوا نصيبهم من وحشية رجال الديكتاتورية، فسُجنوا وعُذّبوا.

تعيدنا أحداث الفيلم التاريخية التي حصلت في الأرجنتين أيام حكم العسكر إلى ما حصل في سوريا منذ سنوات قريبة لعدد من الآباء اليسوعيين، أمثال باولو دالوليو الراهب اليسوعي الإيطالي، وناشط السلام الذي نفي من سوريا عام 2012 من قِبل نظام الأسد بسبب دعمه للثورة وانتقاده أفعال النظام أثناء الثورة وقبلها، والذي اختطفته عناصر من داعش في تموز 2013 حين محاولته التفاوض معهم للإفراج عن مخطوفين لديهم. ومن هؤلاء الرهبان اليسوعيين أيضاً الأب فرانس فاندرلخت الهولندي، الذي اغتيل في نيسان 2014 في حمص في دير اليسوعية في بستان الديوان بطريقة غامضة، بعد أن اختار البقاء في أحياء حمص التي كان النظام يحاصرها.

صوَّرَ الفيلم فشل بيرغوليو، الكاهن اليسوعي، في حماية أصدقائه ورعيته، ووثَّقَ صمته عن جرائم الديكتاتور آنذاك، حتى أنه نُفي بعدها لعشر سنوات بعيداً عن رعيته الأصلية لاتهامه بالتعاون مع العسكر، ليعيش مع الفقراء ويساعدهم. وهنا نجح المخرج في نقل وقائع حقيقية، حدثت في تاريخ الأرجنتين وفي ماضي البابا الحالي، وذلك باستثناء سردية سفر بيرغوليو لطلب الاستقالة شخصياً من بينيدكت في روما، التي لم تحصل في الواقع، لأن الاستقالة ترسل عبر البريد في حالته، لكن الواقعة التي حدثت بالفعل هي اجتماعهما فعلاً بعد انتخاب البابا فرنسيس الحالي وتوليه زمام الأمور عام 2013 في القصر ذاته الذي صور فيه الفيلم، وليس قبل انتخابه. والجدير بالذكر هنا هو أن الفيلم، في مقابل خوضه في ماضي البابا فرنسيس، غضَّ الطرف عن ماضي البابا بينيدكت السادس عشر، وعلاقته بالنازية، فقد كان طفلاً عندما استولت النازية على السلطة في ألمانيا عام 1933، وفي سن الرابعة عشر انضم إلى شبيبة هتلر رغماً عنه، قبل تجنيده في الجيش الألماني بعد عدة سنوات.

شكّل أداء الممثلين الركيزة الأساسية الثانية للفيلم بعد الجانب الحواري أو معه، فقد تمكَّنَ أنتوني هوبكنز، بفضل الكاريزما التي يمتلكها وخبرته الفنية الحافلة، من أداء دور البابا بينيديكت، فجمع كبره في السن وتقوّس ظهره، وبطء سيره ونظرته الحذرة في الأرض أثناءه، ليقدم دوراً تمثيلياً قريباً جداَ من حقيقة البابا بينيديكت الفعلية، استحق عليها ترشيحاً لأفضل ممثل مساعد في حفلة الأوسكار الأخيرة. ومن جانب آخر، نال جوناثان برايس ترشيحاً لأفضل ممثل أساسي في حفلة الترشيحات ذاتها، إذ تقمَّصَ باحترافية عالية دور البابا فرنسيس وتفاصيل حركاته وطريقته بالكلام ولكنته الإنكليزية المشبعة باللكنة الأرجنتينية.

تطرَّقَ الفيلم بوضوح إلى مواضيع إشكالية عدة في الكنيسة، كالمثلية الجنسية، ومنع الحمل والإجهاض، والتحرش الجنسي والبيدوفيليا (الانجذاب الجنسي نحو الأطفال)، وبنك الفاتيكان، لكنه تناولها بشكل حذر جداً، ومنها هذا الحوار المتعلق بإشكالية زواج الكهنة:

بيرغوليو: الحياة، تلك الحياة التي أعطاها إيانا الله، تتغير، كل شيء يتغير.

أنت خليفة القديس بطرس! القديس بطرس كان متزوجاً!

راتزينغر: أووه، شكراً لإعلامي، لم تكن لدي فكرة!

بيرغوليو: لم نكن نطلب العفّة من الكهنة حتى القرن الثاني عشر.

الملائكة! بالكاد تم ذكرهم حتى القرن الخامس، ثم فجأة ملائكة في كل مكان! كالحمام!

لا شيء جامد في الطبيعة أو في الكوّن، ليس حتى الله!

لكن الفيلم مسّ هذه المواضيع مسّاً دون الحفر فيها، ودون المواجهة أو النقد، كمن يداعب المُشاهد ذا السلوك اليميني المحافظ المتمسك بالشرائع ويخاف على مزاجه من التعكر، ويدغدغ في الوقت نفسه المُشاهد الأكثر انفتاحاً للأفكار الجديدة ويحاول كسب رضاه. لقد صوّر الفيلم البابوين بطريقة تميل إلى الإيجابية رغم اختلاف توجهاتهما، مع رجحان كفة البابا الحالي فرنسيس على حساب سابقه، لكن تصويرهما بطريقة إنسانية أرضية بعيدة عن القداسة جاء في مصلحة تحسين صورة الكنيسة الكاثوليكية في نهاية المطاف.

يمتاز الفيلم بالسرعة محاولاً إمتاع المشاهد في كل لحظة منه، بدءاً من من طريقة التصوير، وتداخل الأنواع الموسيقية من الجاز للتانغو الأرجنتيني والكلاسيك، مروراً بالحوار الفلسفي واللاهوتي العميق، وصولاً إلى إتقان الممثلين الرئيسيين للدورين الجدليين اللذين أدياهما.

youtube://v/T5OhkFY1PQE

جَهِدَ صنّاع الفيلم في إظهار الجانب البشري في كلا الباباوين، وفي تحييد قداستهما المطلوبة بحكم المركز الذي يشغلانه، لكنه من باب آخر انتهى إلى تمجيدهما بشكل غير مباشر، وهو التمجيد الذي يتكثّف في مشاهد الصراخ والبكاء والاحتفال في ساحات تجمع المؤمنين أثناء الانتخاب أو أثناء ظهور البابا على الجماهير، تلك المشاهد المقتبسة من تسجيلات حقيقية، والتي تم اختيارها بشكل مقصود لإضفاء هالة من القداسة والتمجيد على الباباوين، على نحو يتناقض بِخفّة مع أنسنتهما في الحوارات والمزاح ومشاهدة مباراة كرة القدم.

نصل أنا وصديقتي إلى روما، وينتهي الفيلم قبل وصولنا، تستيقظ صديقتي وتحاول أن تقبّلني لتشكرني على إعطائها المقعد الملاصق للنافذة، وعلى جمال المناظر التي كانت تشاهدها من خلالها بين كل غفوة وأخرى، لكنها تخجل من الراهبات اللواتي استيقظنَ لتوهنّ من سباتهنّ أيضاً؛ نتبادل وإياهنّ الابتسامات البلهاء، وننطلق جميعاً إلى المدينة الأبدية.