تُنسَب إلى جمال عبد الناصر على نحو غير عادل شرائع تكرّست من بعده في العالم العربي، منها تسمية الانقلاب العسكري ثورة، ومنها دولة المخابرات، ومنها نظام الحزب الواحد. أقول على نحو غير عادل لأن حكم ناصر لم يستحدث أياً من هذه التقاليد التي حازت انتشاراً عالمياً في حقبة ما بعد الاستعمار، وإن يكن نظامه هو الذي مثل النموذج القريب الذي اقتُدي به في المجال العربي. 

على أن هناك تراثا بائساً يمكن نسبته بقدر أكبر من العدالة إلى الحكم الناصري، وناصر شخصياً، وهو نقل مفهوم الحب من مجال العلاقات الشخصية إلى مجال الدولة والسياسة، وتوقع أن يكون الرئيس محبوباً كأنما هو أب أو حبيب، والمثابرة دونما كلل على إشهار ذلك عبر وسائل الإعلام العامة. كان عبد الناصر حبيب الشعب، حبيب الملايين وأمل الملايين، يُغنَّى له في الإذاعات، ويُهتَف باسمه في المسيرات، وتتكرّس إذاعات وصحف لا منافس لها لتعظيمه والإشادة به وبحكمه. الأرجح أن مثل ذلك شوهد في الحقبة ما بعد الكولونيالية في بلدان كثيرة، وأن شعبية الزعماء الوطنيين امتزج فيها قدر من كارزما القائد الشاب مع النزعة الوطنية الاستقلالية الطالبة للسيادة، مُعزَّزة بأجهزة تُطبِّع حب الشعب للزعيم كتعبير أول، إن لم يكن وحيداً، عن الوطنية. لكن هذا العارض التاريخي أظهر استمرارية وعناداً في منطقتنا في زمن ما بعد الاستعمار، وانقلب المجال العربي فضاء لشخصنة السياسة، تُختزل هذه فيه إلى حب القائد والولاء له، وكره أعدائه الذين هم أعداء الوطن؛ تقليدٌ نواجه المشقة كلها اليوم للخروج منه نحو دولة المواطنين، ولا نخرج. 

في حب السياسي ورجل الدولة خلط عظيم الضرر بين دائرتين لا وجه معقولاً للخلط بينهما: دائرة الحياة العامة التي يُنتظر من المشتغلين فيها أن يكونوا موثوقين وأكفاء، وليس محبوبين، ودوائر الحياة الخاصة من صداقة وعشق وعائلة، و«الفضيلة» فيها هي الحب. الرئيس لا يُحَب، يُوثَق به أو لا يُوثَق. قد يكون محبوباً في دوائره الخاصة، كزوج أو أب أو صديق…، لكن الدولة ليست دائرة خاصة له أو لغيره، والمُعوّل عليه في الدولة هو صوغ السياسات العامة وتنفيذها بكفاءة تعود عليه بالثقة، وربما التقدير والاحترام من طرف محكوميه، ولكن ليس بالحب بحال. الحب يعمل في نطاقات صغيرة كالعائلة، تنبني على الحياة المشتركة، وتتفكك حين يزول الحب. أما الدولة فهي البنية السياسية لـ «شعب» مكوّن من رجال ونساء، من أفراد ومجموعات وجماعات متنوعة، وليس هناك دولة اليوم يتدنى عديد سكانها عن مئات الألوف، وأكثرها بالملايين، وبعشرات الملايين، ومنها بمئات الملايين، موزعين بين مدن وأرياف، وبين مراتب دخل متفاوتة ومستويات تعليم متباينة. نحن هنا في مجال المُتخيَّل، ما وراء الشخصي والقرابي، والحب لا يعمل. 

وهو بعدُ لا يُفرَض. فعدا أن الحب من أفعال القلب التي تفشل السلطة في فرضها أو في إزالتها، فإن مجال مفهوم السياسة بالذات يقع في الوسط بين الحب والحرب. في مجال الحب السياسة غير لازمة، وفي مجال الحرب السياسة غير ممكنة. السياسة ضرورية لنشوء المجتمع كتجمع كبير يتجاوز نطاق العائلة وحدود الحب، وتقف الحرب عند حدوده. يمكن القول إن السياسة فضيلة الدولة، مثلما الحب فضيلة العائلة. ولعل روح السياسة ذاتها هي السعي وراء قواسم مشتركة وتسويات وحلول وسط بين متعددِ أطرافٍ ومتعارضِ مصالحَ اجتماعيّ، على نحو يحول دون الحرب، ولا يُعالَج بالحب. 

تزول السياسة بالحب، وليس بالحرب وحدها. حين يتصرف الزعيم كمحبوب يقوّض المجال الذي يمكن فيه أن يعالج تعدد الأطراف والمصالح وتعارضها. وينفتح الباب هنا للحرب، على نحو نعرفه جيداً في تاريخ سورية حيث فُرض علينا طوال نحو نصف قرن أن نحب حاكمنا، نغني له ونرقص له، ونعلن استعدادنا لافتدائه بأرواحنا ودمائنا كما قد نفعل مع أغلى حبيب، أو نُحبَس ونُعذب ونُقتل إن اعترضنا عليه. 

والواقع أن علاقات الحرب هي التي تحتاج إلى أن يُسدل قناع الحب على وجهها، والحرب لا تنتج عن خطأ في إحلال الحب محل السياسة، بل يُدفع الحب إلى الواجهة بقدر ما تكون الحرب الفعلية كامنة في الخلفية في شكل تحطيم للاستقلال الاجتماعي في جميع صوره، أهلياً كان أم مدنياً. ليس وجه الاعتراض على حب السياسي أنه يصعب حب حافظ وابنه مثلاً، دع عنك افتداءهما بالروح الدم، ولا حتى أن هذا حب من طرف واحد، وأن المذكورين لا يحبان غير نفسيهما ولا يفتديان أحداً من فُداتِهما المفترضين؛ وجه الاعتراض هو أن حب الحاكم أياً يكن، وحتى لو لم يكن حقوداً مثل حافظ ومتبلداً عديم الحس مثل ابنه، يُضعِفُ السياسة كشكل لوجود وتعايش ملايين الناس في الزمن المعاصر. وبقدر ما إن السياسة هي الوسط الذي يمنع اختلاط الحب بالحرب، فإن من شأن إضعافها أن يسبب هذا الاختلاط بالذات، على نحوٍ رأينا مرتين في عهدي الأسدين أنه مدمر للعائلة التي هي نطاق الحب، وأنه يقرب العدو الذي خُصصت له الحرب.

يلغي تصور المحكومين كمحبين وجودَهم كسياسيين أو مالكين للسياسة يتساوون مع السياسيين المحترفين في هذه الملكية. المحكومون الذي يحبون السياسي يتصرفون كأبناء وبنات، فيسهمون في إلغاء أنفسهم كمواطنين، وربما يؤهلون أنفسهم للحرب ضد من لا يحبونه. تنزع دولة الحب المزعومة إلى أن تنقلب دولة حرب بقدر ما هي تفشل في أن تكون دولة سياسة. بل يبدو الحب هنا أحد مقتضيات الحرب. نبني معسكر«ـنا» أو جبهتنا الموحدة بالحب والولاء ضد«ـهم»، هم العدو الذي نحارب. نزع السياسة لمصلحة الحرب من العلاقة معهم يتوافق مع نزعها لمصلحة الحب في العلاقة بيننا. حتى إذا تنازعنا نحن أيضاً لم نجد أمامنا غير الحرب حلاً. الدولة التي تجرد محكوميها من السياسة تجرد نفسها منها كذلك. الطائفية، وهي جوهر «أزمة المواطنة» في سورية، تنشأ من بناء ‘نحن’ بالحب وإحالة من تجري محاربتهم إلى ‘هم’، الآخر الغائب الذي لا يتكلم ولا يحضر.  

والقصد أن نقيض الحرب في نطاق الدولة ليس الحب بل السياسة.  

والسياسة، وليس الحب ولا الحرب، هي الأرضية التي يمكن أن تُعالَج عليها أزمة المواطنة في سورية، التي تظهر في شكل تماهٍ متفاوت للسوريين في دولة ضاقت قاعدة التماهي العام فيها حتى اقتصرت على الولاء لحكم السلالة. مثل غيرهم، السوريون مواطنون في السياسة، وليس في الحب ولا الحرب. أزمة الوطنية السورية على ما نراها في شكل متفجر منذ تسع سنوات هي أزمة مواطنة مُغيَّبة بقدر ما هي أزمة دولة مخصخصة.

في تاريخنا المعاصر، نعلم أن الزعماء الذين فرضوا الحب بالقوة هم الذين نالهم الكره أكثر من غيرهم. هذا يلحظه المرء بسهولة في سير من ساروا على سُنّة ناصر، مثل حافظ وصدّام ومُعمر، وناصر نفسه. حافظ الذي نعرفه أكثر من غيره لُعن كما لم يُلعن غيره في تاريخ سورية الحديث، ما يكشف أن الحب المزعوم الذي ناله كان سياسة تقية من طرف محكوميه، بقدر ما كان حرباً على استقلالهم من طرف نظامه. وصدّام لم يكن بعيداً عن ذلك، وانتهى مشنوقاً ومتشفىً فيه من قبل أكثرية محكوميه. وانتهى القذافي النهاية المعلومة، المشينة. وكُره ناصر نفسه كرهاً منفعلاً عنيفاً من كثيرين، وليس من طرف الإسلاميين وحدهم. في كل حالة، كان الحب المفروض كاذباً فيما كان ما يحجبه من تبعية سياسية حقيقياً. وفي كل حالة أسهم الحب الكاذب في بقاء الدولة جهازَ عنف، لا ركيزةً لوطنية قائمة على الحقوق. وبشار الذي علق أتباعه لافتات تحمل صورته ومعها عبارة «منحبك» في شوارع دمشق، احتُقِرَ أكثر حتى مما كُره أبوه. 

في كل هذه الأمثلة، يضاف إليها حسن نصر الله اليوم، يظهر «الحب» قناعاً على وجه علاقات استتباع سياسي محروسة بالقوة، وتحجب إزمان أزمة المواطنة واستعصائها. 

ويصلح ما تقدم لإضاءة قضية يتواتر سوقها في مداولاتنا العامة، دون أن توضَح أو يُفكَّر فيها. يُقال كثيراً إننا لا نحب بعضنا، وإن أوضاعنا العامة سيئة لأننا لا نحب بعضنا. وقد يقال شيء مثل هذا عن العلاقة بين الجماعات الأهلية كالعرب والكرد، المسلمين والمسيحيين، السنة والعلويين…، أو يصاغ بالطريقة التي سبق إليها الأميركيون بعد 11 أيلول 2001: لماذا يكرهوننا؟ والحال أن هذا الطرح يخلط عباس بدباس بحسب التعبير الشعبي السوري، فليس المطلوب بحال في نطاق مجتمع بالملايين أن نحب بعضنا. الحب يربط بين العشاق أو الأصدقاء وأفراد العائلة، وليس بين المواطنين ولا الكتل الاجتماعية. سيكون شيئا طيباً أن تكون تفاعلات السكان إيجابية، وفرص هذا أكبر كلما تسنى لقطاعات أكبر من السكان أن تنتظم وتتكلم، وتنشط سياسياً، بما يحد من مشاعر الحرمان والغربة، ومن الباطنية السياسية وتراكم الضغائن، وبما يضعف فرض ظهور محرضين ومسمّمين للأجواء العامة. لكن الحب ليس شرطاً للرابطة السياسية ولا للعمل من أجل امتلاك السياسة. بل تبدو دعوة الحب بمثابة إيديولوجية تموه منابع التمييز والحجر السياسي العام. أريد أن أمتلك السياسة مثلما تمتلكها، أن أتكلم في الشؤون العامة واجتمع بغيري وأحتج مثلك، وأن يكون لك من الحقوق مثلما لي، ليس كي تحبني وأحبك، بل كي أستطيع ألّا أنشغل بأمرك، لا حباً ولا كرهاً. أريد الحقوق نفسها لمواطنيَّ الكرد ليس لأني أحبهم على نحو خاص، بل من أجل تجفيف منابع الضغينة والكيد التي تنكد العيش، ولأنه بتحقق قدر أكبر من المساواة أستطيع ألا أبالي بأمرهم. ليس المرء مضطراً لأن يحب شعباً أو طبقة، بل ربما أصدقاءه فقط، على ما قالت بسداد حنة آرنت. من يحبون شعوباً مخيفون. وهم أنفسهم من يكرهون شعوباً على كل حال. نريد أن نكون متساوين في السياسة (وفي القانون)، أن نكون مواطنين، كي ننصرف خارج دائرة المواطنة، إلى حياتنا الخاصة، إلى عالم الحب وهمومه. 

التساوي في السياسة هو الجمهورية. ونعلم أن دولة الحب/الحرب الأسدية قَلَبت الجمهورية في سورية إلى حكم سلطاني وراثي.   

وبالبناء على ما تقدم، فإن في إشهار عدم حب المحكومين للحكم فعل تحرر ودفاع عن المواطنة ضد التبعية السياسية. وراء تكذيب نرجسية الحاكم الوريث، كان إشهار «ما منحبك» في الثورة السورية عنصراً في سياسة تحررية، متوجهة نحو سورية جديدة، دولة مواطنين. خسرنا هذا الرهان، وما يجري اليوم هو إعادة بناء التبعية السياسية بالحرب وعلى وجهها قناع الحب، ولكن هذ المرة في إطار تبعية دولة السلالة ذاتها لحُماتها الأجانب. 

فهل تكون «ما منحبك» الثورية سياسة ممكنة، إن لم تكن «منحبك» سياسة حكم مقبولة؟ تكلَّمَ هذا المقال على السياسة في الدولة، ورأى في الحب عَرَضاً لأزمةِ وطنية ومواطنة. هناك سياسة أخرى، سيتناولها جزء ثان لهذا المقال، لها علاقة مختلفة بكل من الحب والحرب: الثورة.