انتظرَ بعض السوريين من نظام بشار الأسد اتخاذ خطواتٍ جدية للتعامل مع أزمة انخفاض سعر صرف الليرة السورية، وارتفاع معدلات الأسعار والضعف الشديد في القوة الشرائية؛ خطواتٍ من شأنها أن تنعكس بنتائج إيجابية على أوضاعهم المعيشية التي وصلت إلى مراحل قصوى من التردي والفقر، ولكنهم تفاجأوا بإطلاق حملةٍ إعلامية، بتوجيهٍ من جهات في النظام غالباً، حملت عنوان «ليرتنا عزتنا»، تشجّعُ التجار على «دعم العملة المحلية» من خلال تقديم خدمات وبيع مواد غذائية بأسعار بخسة منافية للسوق والمنطق، لتتحول الحملة الوطنية إلى مسرحية تهكمية ملأت وسائل التواصل الاجتماعي على مدار اليومين الماضيين.

وتُظهر هذه الحملة، أياً تكن الجهة التي تقف خلفها، مدى السطحية والقصور اللذين يجري بموجبهما التعامل مع أزمة اقتصادية ومعيشية هي الأكثر مساساً بحياة أكبر قدرٍ من الناس في تاريخ سوريا الحديث، إذا ما استثنينا المناطق التي شهدت شهوراً أو سنيناً من التجويع والحصار التام خلال الثورة. ولن تتجاوز هذه الحملة في نتائجها قليلاً من الفكاهة السوداء التي اتسمت بها تعليقات السوريين في وسائل التواصل الاجتماعي، في سيناريو مشابه لما حصل العام الفائت حين أطلق المصرف المركزي حملةً إعلاميةً حملت عنوان «ادعم ليرتك بالكلمة الطيبة».

ليس النظام غبياً إلى درجة الاعتقاد بأنّ من شأن هذه الحملات أن تنهض بسعر الليرة، ولكنه يعتمدها أداةً لإلهاء الناس عن مشاكلهم الحقيقية، بشكلٍ يتّسق مع استراتيجيته التي تُفسّر أسباب الأزمة الاقتصادية بوجود تجار عملات ومضاربين في السوق السوداء، فضلاً عن العقوبات الغربية، وبالتالي فإن مسؤولية التعامل مع هذه الأزمة يجب أن يتحملها الناس العاديون بإبراز قدرٍ أكبر من التكافل الاجتماعي للوقوف في وجه العدوين الداخلي والخارجي. تُغفل هذه الاستراتيجية حقيقة أن الناس في سوريا يعرفون الجهات التي تهيمن على سوق القطع الأجنبي، والتي تتْبع أو تنسّق بشكلٍ مباشرٍ مع جهات عائلية وأمنية وعسكرية تشغل مواقع عليا في النظام السوري.

ولكن هل بإمكان النظام إجراء حملات واقعية تحدث أثراً إيجابياً؟ لا بدّ لهذه الحملات أن تتجاوز الضخ الإعلامي عديم الجدوى، وتتركز على تقديم دعم حكومي للسلع الاستهلاكية الرئيسية وتأمينها بأسعار تتناسب مع معدلات الأجور المتدنية في سوريا، بالإضافة إلى منع رجال أعمال النظام التقليديين والواجهات الجديدة من تهريب الأموال إلى خارج سوريا، وكفّ يدّهم عن عمليات الاستيراد المموّلة من البنك المركزي. ولكنّ هذه الإجراءات، على بداهتها، تبدو غير ممكنةٍ إذا ما نظرنا إلى الطبيعة الاقتصادية التي يتسم بها النظام السوري، القائمة على الفساد والزبائنية وتناهب المال العام وتقديمه لدول أجنبية تؤمّن غطاءً ودعماً عسكرياً وسياسياً لاستمرار الحكم الأسدي.

مراسيم!

يدّعي النظام أن المشكلة الحقيقية للأزمة الحالية تكمن في الترويج لأسعار وهمية لليرة السورية مقابل القطع الأجنبي، ولذا أصدر رأس النظام بشار الأسد، مطلع هذا الأسبوع، المرسومين التشريعيين رقم ثلاثة وأربعة للعام 2020، عدّل بموجبهما بنود مراسيم سابقة. وينص الأول على: «منع التعامل بغير الليرة السورية كوسيلة للمدفوعات، ومعاقبة المخالفين بالأشغال الشاقة المؤقّتة لمدةٍ لا تقلُّ عن سبع سنوات والغرامة المالية بما يعادل مثلي قيمة المدفوعات أو المبلغ المُتعامل به أو المُسدّد أو الخدمات أو السلع المعروضة».

في حين يفرض المرسوم الثاني: «عقوبة الاعتقال المؤقت وغرامة من مليون إلى 5 ملايين ليرة سوريّة بحقّ كل من يُذيع أو ينشر أو يعيد النشر على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لإحداث التدني أو عدم الاستقرار في أوراق النقد الوطنية أو أسعار صرفها، أو لزعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها وجميع الأسناد ذات العلاقة بالثقة المالية العامة».

وتلا إصدار المرسومين تسيير عددٍ من الدوريات التي ألقت القبض على بعض أصحاب محلات الصرافة في عددٍ من المحافظات، وجرعةً مضاعفةً من التهكم على وسائل التواصل الاجتماعي، جرى فيها الاستعاضة عن كلمة دولار المُجرَّمة بكلمة «شوئسمو»، لا سيما بعد منشورات وزارة الداخلية المتلاحقة، والتي تُذكّر بأنّ الجهات المختصة تراقب وسائل التواصل الاجتماعي. هذان المرسومان اللذان يتعاميان عن سبب الأزمة الحقيقية يُوضحان مدى إصرار النظام على التعاطي مع الأزمة الاقتصادية من منطلق الإنكار لحقيقة التدهور الذي وصلت إليه البلاد، بشكلٍ يتطابق مع تصريحات بثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد، التي استندت إلى «خبراء اقتصاديين»، لم تسمّهم، لتقول: «إن الاقتصاد السوري اليوم أقوى بخمسين مرةً مما كان عليه في العام 2011»، معتبرةً أنّ قيمة صرف الدولار التي «يجري الحديث عنها» وهمية، ولا تندرج إلا في إطار الحرب على سوريا.

في الواقع، إنّ سياسة الإنكار هذه لن تغير حقيقة أنّ التدهور الذي يعيشه الناس ناتجٌ عن تحطّمٍ عميق في بنية الاقتصاد أضرّ بلقمة عيشهم، وهو ما دفع المئات من أهالي السويداء للخروج في مظاهراتٍ حملت شعار «بدنا نعيش»، ندّدت بشكلٍ أساسي بسوء الأحوال الاقتصادية وحالة الفقر التي استشرت في صفوفهم. ويبدو أنّ الهدف من مرسومي الأسد، بشكلٍ جزئي، تجريم أي تحرّك مستقبلي يقوم به الفقراء والمتضررون من الأزمة الاقتصادية، باعتبارهم مساهمين في الحملات الهادفة للإضرار باقتصاد البلاد.

المركزي يشتري القطع الأجنبي

من جهته، أعلن مصرف سوريا المركزي بشكلٍ مفاجئ، أول أمس الإثنين، استعداده لشراء النقد الأجنبي من الناس دون وثائق، وبسعرٍ «تفضيليٍّ» يُحدّد بشكلٍ يومي، وقد حدده في اليوم الأول بـ 700 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد، وبهذا يكون المركزي قد أنهى مرحلةً طويلةً من سياسة عدم التدخل التي انتهجها طوال الشهور الماضية، وهو تراجعٌ ضمني عن السعر المرجعي الثابت عند 435 ليرة مقابل الدولار منذ العام الماضي.

ويتقاطع إعلان المركزي مع مراسيم الأسد في أنّ النظام يعوّل على أنّ نشر حالة الخوف لدى حاملي القطع الأجنبي والمتعاملين به ومحلات الصرافة ستؤدي إلى تعطل السوق السوداء، وأنّ حصر تصريف القطع الأجنبي من خلال نافذةٍ واحدةٍ هي البنك المركزي ستمكّنه من تحصيل كمياتٍ كبيرة من الدولار الأميركي وإخراجها من التداول في السوق السوداء، وإعادة استخدامها لتمويل المستوردات وتعزيز ثقة الناس بالليرة.

هذه الخطوة جيدة اقتصادياً على المستوى النظري، وقد يكون لها أثرٌ إيجابي على سعر الصرف، ولكنها يجب أن تقترن دوماً بأسعار واقعية لتصريف الدولار، من أجل تحفيز الناس على بيعه للمركزي، وتالياً خفض سعر الدولار بشكلٍ تدريجي وعلى المدى الطويل، أما أن يكون الفرق الأول بين السعر التفضيلي وسعر السوق السوداء أكثر من 400 ليرة، فإنّ ذلك لن يشجع أحداً على بيع الدولار للمركزي. كما أن نجاعة هذه الخطوة متعلقة بحجم المبالغ التي بمقدور النظام شراؤها، أو التي سيُقبل الناس على بيعها، في ظلّ عدم الاستقرار الحاصل في الأسواق، وأن يُستعمل هذا القطع الأجنبي حقاً في تمويل المستوردات ودعم السلع الرئيسية لخفض أسعارها في الأسواق، وأن يكون المركزي قادراً على بيع الدولار بأسعار قريبة من التي يشتريه بها.

الأمر نفسه ينطبق على ما يُسمى في سوريا بـ«دولار الحوالات»، إذ يمتنع السواد الأعظم من السوريين المقيمين في الخارج عن تحويل الأموال لذويهم من خلال منافذ نظامية تمرّ عبر المركزي، وذلك نتيجة الفارق الكبير بين سعر السوق السوداء والسعر الذي يعتمده المركزي، لذا لا بدّ من اتخاذ إجراءاتٍ تقضي برفع سعر دولار الحوالات إلى سعرٍ قريبٍ من سعر السوق السوداء. إنّ مجاراة أسعار السوق السوداء على المدى الطويل، بالتزامن مع انخفاض أسعار السلع في الأسواق نتيجة تدخل المركزي في دعم المستوردات، سيمكّن من رفع قيمة الليرة السورية، ولكن ليس واقعياً التعويل على هذه الإجراءات في الوصول إلى نتائج ملموسة على المدى القصير، حتى إن تمكنت من إحداث تحسّنٍ مؤقّتٍ في سعر الصرف، لا سيما أنها لا تترافق مع انفتاح المركزي على بيع الدولار. ويتعلّق ما سبق بمدى قدرة المركزي على اتباع هذه السياسات، وحجم التدخل الذي يمكن أن يقوم به، ومدى الأموال التي يمكن أن يوظفها لهذا الغرض، وهذا سؤالٌ لا تقدّم مؤسسات النظام معلوماتٍ شفافة حياله.

لقد خرج النظام من مرحلة اقتصاد الحرب التي سادت طوال الأعوام الثمانية الماضية، ودخل مرحلةً جديدةً لا يمتلك الأدوات ولا الثروات ولا البنى التحتية للتعامل معها، ويبدو أنّ مشاريع إعادة الإعمار والأموال التي أَمِلَ في الحصول عليها لتجاوز هذه المرحلة غير متاحة أو ممكنة حالياً، وقد تعثّرت محاولات إعادة تعويمه جرّاء المنع والعقوبات الأميركية وعدم التجاوب الغربي، ولا شكّ بأنّ الأزمات الاقتصادية الحالية مرشحة للتعمق والاستمرار، كما أن جميع تحركات النظام الإعلامية والإجرائية في ظلّ الوضع القائم محكومة بالفشل، وستصبح الأزمة أكثر قسوةً مع مرور الزمن، خصوصاً في حال بدء تطبيق العقوبات الأميركية التي يتضمّنها قانون قيصر.