خلال الأيام الخمسة الماضية، توسعت رقعة الهجمات الجوية والصاروخية التي تشنها قوات النظام والقوات الروسية لتشمل معظم قرى وبلدات أرياف حلب الجنوبية والغربية والشمالية الغربية، التي تشهد حملة القصف الأعنف منذ نهاية العام 2016، عند سيطرة هذه القوات على أحياء مدينة حلب الشرقية وتهجير سكانها. وتتناقل صفحات ومواقع موالية لنظام الأسد أخباراً عن تعزيزات على خطوط التماس في حلب وريفها، التي تسيطر عليها فعلياً ميليشيات تابعة لإيران، في وقت تتصاعد فيه مطالبات سكّان المنطقة لفصائل المعارضة بتنفيذ هجوم معاكس على جبهات حلب، رداً على القصف الجوي من جهة، ولتقويض خطة النظام من جهة ثانية.

وبالتوازي مع القصف على أرياف حلب، يشهد ريفا إدلب الشرقي والجنوبي هجمات معاكسة لفصائل المعارضة في أبو دقنة وتل خطرة وأبو جريف وغيرها، حيث تدور معارك كر وفر يتكبد فيها الطرفان خسائر في الأرواح، وخاصة قوات النظام التي تحدثت بعض التقارير الإخبارية عن خسارتها عشرات القتلى خلال الأيام الماضية. وبينما تدور المعارك البرية العنيفة في ريف إدلب، توجّه قوات الأسد تعزيزاتها إلى جبهات حلب، وهو ما يبدو محاولة لتشتيت جهود الفصائل عبر فتح أكثر من جبهة في وقت واحد.

نقض الهدنة على أعتاب حلب

نقضت قوات النظام وروسيا مراراً الهدنة التي تم الإعلان عنها في الثاني عشر من شهر كانون الثاني الحالي، بالاتفاق بين روسيا وتركيا، إذ وثق فريق منسقو استجابة سوريا 321 طلعة جوية منذ بدء الهدنة وحتى يوم أمس العشرين من الشهر الحالي، منها 232 طلعة جوية روسية. وأسفرت هذه الضربات عن قتل نحو ثلاثة وأربعين مدنياً، وكان نصيب أرياف حلب منها هو الأكبر، بعد أن كانت خارج خطة الاستهداف خلال العامين الماضيين بشكل شبه كلي.

يقول درغام حمادي، وهو صحفي وناشط مدني يسكن في مدينة الأتارب بعد تهجيره من حلب، إن الأيام الماضية أعادت إلى ذاكرة أبناء حلب المهجرين الانتهاكات التي كانت تُرتكب بحق المدنيين في الأحياء الشرقية من المدينة، في إشارة منه إلى كثافة الغارات واستهدافها الأحياء المدنية. ويضيف أن القصف طال معظم القرى والبلدات في المنطقة؛ حيان وحريتان وعندان وعينجارة ودارة عزة والجينة وأورم الكبرى وخان العسل والزربة وخلصة وغيرها.

قوس حلب وأهميته

تُشكّل القرى والبلدات المستهدفة قوساً يحيط بمدينة حلب من الجهتين الغربية والجنوبية، ويقترب في بعض الأماكن كالراشدين والعيس من مواقع عسكرية هامة بالنسبة للقوات الإيرانية المتمركزة هناك، وكذلك من أحياء المدينة الغربية، كما أنه يشرف على بلدتي نبّل والزهراء اللتين تشكلان قاعدتين رئيسيتين للميليشيات المرتبطة بإيران، وتتصلان بمدينة حلب عبر رتيان وباشكوي وصولاً إلى حندرات.

وقد دفعَ الامتداد الكبير لهذه الجبهات قوات الأسد وحلفاءها إلى تعزيز خطوطهم العسكرية فيها خلال الأيام الماضية، إذ تحدثت وسائل الإعلام الموالية عن وصول مئات من الجنود والآليات الثقيلة إلى المنطقة، وترافق ذلك مع سياسة الأرض المحروقة التي ينتهجها سلاح الجو الروسي والسوري. ويقول عناصر فصائل المعارضة الذين تحدثنا إليهم إن النظام يحاول «تعويض عدم قدرته على السيطرة على الطرقات الدولية عبر جبهات إدلب من خلال إشغال جبهات أخرى، وكذلك تصدير الأزمة الاقتصادية التي تعصف به عبر إشغال السكان بأخبار المعارك».

من جهته، يقول أحمد الاسماعيل، أحد نشطاء ريف حلب الشمالي الغربي، إن قوات النظام تسعى لإجبار المدنيين على النزوح من المنطقة من خلال تكثيف الغارات الجوية، والضغط على الفصائل وتركيا للقبول بالحلول التي تفرضها روسيا، ومنها السيطرة على الطرق الدولية بعد فشلها في استكمال السيطرة عليها عسكرياً حتى الآن.

نزوح واسع

يقول عبد القادر الحايك، أحد أعضاء المجلس المحلي في بلدة حيّان، إن حركة نزوح واسعة شهدتها قرى ريف حلب الشمالي الغربي خلال الأيام الماضية، قدرها بنحو 50% من السكان والوافدين الذين استضافتهم هذه المنطقة. ووفق إحصائية لعدد الأشخاص قبل بدء الهجمات الأخيرة، كان نحو 40 ألف شخص يسكنون في مدن وقرى حريتان وعندان وحيان وبيانون وكفر حمرة والليرمون، نزح نصفهم خلال الأيام الماضية، وما تزال حركة النزوح مستمرة حتى اللحظة.

لم يقتصر النزوح على الريف الشمالي الغربي، بل شمل معظم مناطق «القوس»، إذ وثَّقَ فريق منسقو استجابة سوريا نزوح 4698 عائلة تضم 26779 شخصاً منذ الثاني عشر من كانون الثاني وحتى التاسع عشر منه، توجه 13 % منهم إلى أرياف حلب الشرقية و17% إلى عفرين و32% إلى المخيمات الحدودية و38% إلى قرى وبلدات أكثر أمناً في إدلب وريف حلب.

يقول الحقوقي والناشط المدني عمر عبد الرحمن إن النازحين يعيشون ظروفاً صعبة، يسكن معظمهم في العراء وفي الأراضي الزراعية دون خدمات، في ظل استجابة إنسانية ضعيفة، محذراً «من موجات نزوح كبيرة إن استمر القصف الوحشي، الذي معظم ضحاياه من المُهجّرين والنازحين سابقاً، لتضاف إلى مأساتهم رحلة نزوح جديدة».

استعدادات الفصائل

لا يفصل بين مناطق سيطرة قوات الأسد وفصائل المعارضة سوى كيلومترات قليلة، غالباً ما تكون مناطق مكشوفة، إذ تضيق في قرية حيان فلا تتجاوز ثلاثة كيلومترات عن نقطتي باشكوي من الشرق والزهراء في الغرب، وتتسع قليلاً في حريتان التي تبعد عن مزارع الملاح التي تسيطر عليها قوات الأسد أربعة كيلومترات، وكذلك الأمر في الراشدين وريف حلب الجنوبي.

وكانت «سرايا المقاومة الشعبية» قد عززت خطوط الدفاع بالخنادق والسواتر منذ العام الماضي، وذلك ضمن حملة للمساهمة في صد أي تقدّم بري لقوات النظام. وهذه السرايا هي مجموعات أهلية تشكلت في منتصف العام 2019، أطلقت عدة حملات لتدشيم الخطوط القتالية وحفر الخنادق بجهود ذاتية، بالإضافة إلى استعداد أعضاء فيها للمساهمة في القتال عندما يهاجم النظام برياً، وأَعلن عن قيامها مجلس الشورى الذي شكّلته حكومة الإنقاذ المرتبطة بهيئة تحرير الشام. وإذا كانت الهيئة هي الطرف الأوسع سيطرة على بلدات وقرى المنطقة، إلا أن معظم الخطوط الأمامية يسيطر عليها فيلق الشام وبعض الفصائل الصغيرة، وبحسب أحمد الاسماعيل، فإن فيلق الشام يمتلك نحو 80% من نقاط الرباط في جبهة الليرمون، ويتشارك مع الهيئة والفصائل الصغيرة مناصفة نقاط الرباط في جبهات عندان وحيان وحريتان.

وكان فيلق الشام قد تأسس عام 2014 من اتحاد 16 فصيلاً إسلامياً مقرّباً من الإخوان المسلمين، وزادت أعداد المنضمين إليه بداية العام 2019، خلال معارك الهيئة مع الفصائل الأخرى، إذ بعد تفكيك بعضها وانتقال أخرى إلى عفرين وأرياف حلب الشرقية، انضمت أعداد كبيرة من مقاتلي هذه الفصائل إلى الفيلق، ليصبح القوة الثانية من حيث العدد والتسليح بعد الهيئة، وهو أحد الفصائل المكونة للجبهة الوطنية للتحرير المدعومة تركياً.

وبحسب الاسماعيل، فإن التعزيزات الأكبر توجد في منطقة الراشدين الاستراتيجية، وإن قوات الأسد لن تستطيع التقدّم برياً بسهولة، ولذلك تمارس سياسة الأرض المحروقة، كما أن الفصائل العسكرية تحشد قواتها والتعزيزات التي وصلتها، سواء من الجنود أو الآليات العسكرية وصواريخ التاو والغراد، استعداداً للمعركة، وربما أخذ زمام المبادرة بالهجوم.

ومن المتوقع أن تحاول قوات الأسد التقدم عبر ثلاث جبهات؛ الزهراء والحاضر وتل طوقان، وهو ما تدركه وتستعد له الفصائل، على حد قول الاسماعيل. كما أن المقاتلين من أبناء المنطقة، بمن فيهم أولئك المنتمون إلى فصائل تتواجد في مناطق خارج إدلب وحلب، كانوا قد أعلنوا استعدادهم للمعركة، وأهمهم عناصر حركة نور الدين الزنكي الذين انخرطوا في فيلق المجد المنضوي في الجيش الوطني التابع لتركيا، بعد تفكيك فصيلهم على يد الهيئة، والذين أعلنوا استعدادهم للدفاع عن مناطقهم سواء وافقت الهيئة على ذلك أم لا.

معابر وسخرية

تحاول قوات الأسد اللعب على وتر الحالة الإنسانية وتفاقم معاناة السكان، وهو ما دفعها للحديث عن فتح ثلاثة «معابر آمنة» برعاية روسية، لاستقبال الراغبين بالعودة إلى «حضن الوطن». وقد تداولت وسائل إعلام النظام فيديوهات قالت إنها لمدنيين وصلوا إلى هذه المعابر، وبررت هجومها بعدم سماح من أسمتهم «الإرهابيين» للأهالي بالخروج من المنطقة.

كان معبر العيس-الحاضر هو حصة حلب من هذه المعابر، ويقول من تحدثنا إليهم من المدنيين إنهم لم يعرفوا أي شخص من الذين تم تصويرهم، وإن أحداً لم يمنعهم من الخروج، وتساءلوا: «إذا كانت الفصائل إرهابية، فلماذا هناك معبر تجاري في المنطقة نفسها، يتم التعاون فيه يومياً بين الجانبين لإدخال وإخراج البضائع؟». يعلق أحدهم بسخرية على وجود الميليشيات الإيرانية في نهاية المعبر الآمن، «لا بد أننا سندفع عند وصولنا إلى هناك ثمن قتل ترامب لسليماني».

وكانت مروحيات النظام، في يوم الهدنة الوحيد الذي لم يستمر، قد ألقت مناشير ورقية تدعو الأهالي إلى العودة إلى مناطق سيطرتها لتحميهم، ويقول بعض من تحدثنا إليهم إن الأوراق تلك جاءت في وقتها، فلها استخدامات عديدة أهمها إشعال المدافئ بعدما عزّ الوقود.

لم تنتظر قوات الأسد من ادّعت أنهم يخرجون إلى المعابر، بل بدأت باستهداف المدنيين بالطائرات في اليوم الذي أعقب الهدنة، ويقول علي السعد، من سكّان أورم الكبرى، إنه كان في طور حزم حقائبه، لكن يوماً واحداً لم يكن كافياً للوصول إلى المعبر، ثم ينهي كلامه ضاحكاً «مالنا بالطيب نصيب».