وافق مجلس الأمن يوم الجمعة الفائت على تمرير قرار يُجدّدُ السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا عبر الحدود من دون موافقة النظام السوري، إلا أن النسخة الأخيرة من القرار تضمنت كثيراً من التعديلات التي تحمل بصمات موسكو، التي كانت قد استخدمت مع الصين حق النقض «الفيتو» على نسخة سابقة من القرار خلال الشهر الفائت، ما هدَّدَ بتوقف جزء كبير من العملية الإنسانية في سوريا نتيجة ذلك.
تضمَّنَ قرار مجلس الأمن رقم 2504 لعام 2020، تجديداً للبندين الثاني والثالث من القرار 2165 لعام 2014، واللذين يسمحان لوكالات الأمم المتحدة الإنسانية باستخدام معابر حدودية مع سوريا لتنفيذ برامجها بالتعاون مع شركاء محليين ودوليين، بمجرد إخطار حكومة النظام السوري دون أخذ إذنها، إلا أن القرار الجديد استثنى معبري اليعربية والرمثا الحدوديين مع كل من العراق والأردن، من هذه العملية، وأبقى على العمل من خلال معبري باب السلامة وباب الهوى مع تركيا.
وشهدت جلسة التصويت على القرار الجديد جدلاً كبيراً، واعتراضاً من الولايات المتحدة على هذه النسخة الضعيفة من القرار، التي تستثني السوريين في شمال شرقي البلاد من العملية الإنسانية، وعلى مدته القصيرة التي تمتد لستة أشهر فقط، بعد أن كان القرار يُجدَّدُ بشكل سنوي، وقالت الممثلة الدائمة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة السفيرة كيلي كرافت في كلمتها بُعيد التصويت على القرار: «ما رأيناه اليوم من الاتحاد الروسي هو لامبالاة صادمة لمعاناة الإنسان. لقد تُرِكنا أمام قرار مُخفَّف، غير ملائم على الإطلاق لاحتياجات الشعب السوري، بسبب عدم رغبة الروس في الحفاظ على المستويات الحالية لتدفقات المساعدات» مضيفةً أن «عمل اليوم ليس ضربة قوية لمصداقية المجلس فحسب، وإنما لسلطته المعنوية أيضاً».
فيما قال السفير البلجيكي مارك بيكتسين، الذي قدمت بلاده بالتشارك مع ألمانيا مشروع القرار: «بذلت الدولتان اللتان صاغتا المسودة ما بوسعهما للتوصل إلى اتفاق حول قرار لتجديد الآلية (…) وقد اتبعنا الأمور الحتمية للعمل الإنساني وهي مصير أربعة ملايين نسمة، والذي كان حافزنا الوحيد»، وأعرب عن أسفه لعدم تضمين معبر اليعربية ضمن القرار، واعتبره معبراً حيوياً لا يمكن الاستغناء عنه.
من جانبها، فإن موسكو قد دعت عبر سفيرها في الأمم المتحدة إلى إعادة قرار العمل الإنساني إلى دمشق، وقد امتنعت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا والصين عن التصويت على القرار، فيما صوَّت باقي الأعضاء في المجلس لصالحه، ليتم تمريره بالأغلبية بعد جدلٍ استمر لأسابيع حول صيغة القرار، من ناحية عدد المعابر، ومن ناحية مركز القرار الإنساني في سوريا.
«المشكلة الحقيقة تكمن في استمرار الضغط الروسي لإعادة مركز العمل الإنساني في سوريا إلى دمشق»، يقول الدكتور محمد كتوب للجمهورية، مضيفاً «طالما أن تهديد موسكو مستمر باستخدام الفيتو ضد القرارات التي لا تناسبها، فإن ذلك يزيد من إمكانية أن تعيد النسخة المقبلة من قرار عبر الحدود مركز القرار الإنساني في سوريا إلى دمشق، حيث يمكن للنظام ممارسة ضغوط سياسية ليتحكم بآليات توزيع وعمل المنظمات الإنسانية».
ويبدو أن لبّ المشكلة يكمن في حاجة النظام للاستفادة من الدعم الإنساني المقدم لسوريا، سواءً لتغطية العجز الذي لديه، أو لتأمين إعادة إعمار من خلال ما يسمى بـ «عمليات التعافي المبكر» كما يقول الدكتور كتوب، خبير المناصرة للقضايا الإنسانية وحقوق الإنسان في سوريا.
ويمكن القول إن الذعر الذي بثّه التخوف من عدم تجديد القرار قبل أسابيع قليلة، هو أحد أبرز النتائج التي نجمت عن آلية اتخاذ القرار في مجلس الأمن، ويقول هشام ديراني مدير مؤسسة بناء للتنمية للجمهورية: «تعتمد كثيرٌ من المساعدات، مثل الغذاء والمأوى، بنسبة كبيرة على برامج وكالات الأمم المتحدة الإنسانية، التي تنفذها من خلال منظمات سورية، إلا أنّ التهديد بتوقف قرار عبر الحدود أنذرَ باحتمال توقف تلك المساعدات التي يعتمد عليها المجتمع في شمالي سوريا بنسبة كبيرة، وهو ما وضع السكان في حالة ذعر»، أما الانعكاسات على الممولين بحسب ديراني فهي «غير واضحة، وقد أكّد عدد كبير من الممولين على استمرار العمل، لكن سيكون هناك آليات جديدة للعمل إذا ما غابت الأمم المتحدة عن العمل في شمالي سوريا، ما يفرض تشديدات كبيرة جداً على المنظمات الإنسانية في سوريا».
ولا يترك توقف العمل بهذه الآلية عبر معبر الرمثا الأردني أي تأثير، نتيجة توقف العمل عبره منذ سيطرة نظام الأسد على الجانب السوري من المعبر عام 2018، وارتباط إغاثة مخيم الركبان الحدودي أصلاً بوكالات الأمم المتحدة الموجودة في دمشق، إلا أن المفاعيل الأساسية للصيغة الجديدة من الآلية ستترك أثراً كبيراً على الوضع في الجزيرة السورية، إذ يحمل القرار الجديد في طياته استعادة النظام القدرة على الضغط الشديد على المجتمعات المحلية هناك، بعد توقف العمل من معبر اليعربية مع العراق، الذي كان منفذاً لوكالات الأمم المتحدة للعمل وتنفيذ مشاريعها. وعلى الرغم من أن المنظمات الإنسانية تستطيع استخدام معبر آخر هو معبر سيمالكا، إلا أن كثيراً من المساعدات التي كانت تأتي عن طريق الأمم المتحدة، وتحديداً المساعدات الطبية مثل المعدات الجراحية واللقاحات، لا يمكن أن تمر بعد الآن إلى الجزيرة السورية إلّا عبر دمشق، ما يفسح المجال أمام النظام للتحكم بجزء كبير من القطاع الطبي في المنطقة.
من جانب آخر، فإن الصيغة الجديدة للقرار، والتي مددت العمل لستة أشهر فقط، يبدو أنها تركت تأثيراً واضحاً على الداعمين الدوليين خارج إطار منصات الأمم المتحدة، إذ يبدو أن بعض البرامج التي يتم تنفيذها في منطقة الجزيرة قد تمّ إيقافها من قبل الداعمين، على الرغم من عدم ارتباطها قانونياً بقرار عبر الحدود الذي يلزم وكالات الأمم المتحدة فقط.
بالإضافة إلى ما تقدّم، فإن الصيغة الجديدة تهدد بعدم وصول اللقاحات إلى مناطق السيطرة التركية في الجزيرة، إذ لا تستطيع الحكومة التركية استلام لقاحات أطفال إلا لسكانها، فيما قد تُترك المنطقة الممتدة بين تل أبيض ورأس العين من دون لقاحات، وهو ما يهدد بانتشار أمراض وأوبئة خطيرة مثل شلل الأطفال، خاصةً إذا ما علمنا أن هذا المرض عرف انتشاراً في مناطق قريبة خلال أعوام فائتة.
أحد العاملين في المجال الإنساني في شمالي سوريا، والذي فضل عدم الكشف عن اسمه، قال للجمهورية: «يبدو أن التأثيرات ستكون أبعد من حجم عمل وكالات الأمم المتحدة، فالاستعدادات لدى كبار الداعمين للعمل الإنساني في سوريا غير واضحة في حال عدم تجديد القرار بعد ستّة أشهر، كما أن حجم الدعم قد يتأثر. لدينا تطمينات بعدم توقفه، لكنه سيتأثر حتماً في حالة عدم تجديد القرار بعد ستة أشهر، وهو احتمال واردٌ للغاية»، ويضيف: «الاحتمال الآخر هو أن تفاوض روسيا الولايات المتحدة على القرار مقابل إعادة مركزية العمل الإنساني إلى دمشق، حيث يمتلك النظام تأثيراً كبيراً قد يجعل قرار عبر الحدود بلا أي معنى».
مخاوف عديد تواجه السكّان والعاملين في المجال الإنساني في المناطق التي لا تخضع لسيطرة قوات نظام الأسد، وبينما قد لا تكون تأثيرات القرار الجديد واضحةً تماماً اليوم، إلا أنّ صيغة القرار التي تمّ تمريرها في مجلس الأمن تفتح الباب لمزيد من استخدام روسيا والنظام للمساعدات الإنسانية كسلاح حرب ضد المدنيين.