عند تخوم الذهن

أصر صديقي الحريص على تحذيري حين انتهت إلى مسامعه نيتي الكتابة على موضوع المثقف في أوشفتير. «احذر»، قال لي. أوصاني بأن أتحدث أقل ما يمكن على أوشفتيز وأن أطيل الحديث على المسائل الفكرية. وأضاف أنه يجد من غير الملائم، بل حتى غير مقبول، أن يظهر اسم أوشفيتز في العنوان، فالناس أصبحوا يتحسسون من هذا المفهوم الجغرافي والتاريخي والسياسي. وفي النهاية، هناك مسبقاً ما يكفي من الكتب والوثائق من كل جنس ونوع حول الموضوع، كما أن أياً يكن يمكنه أن يحكي فظائع عن المعتقل ولن يأتي بشيء جديد. لا أعتقد أن صديقي كان على حق، ولا أخالني سأتّبعُ نصيحته. لا أشعر أنه قد كُتب حول أوشفيتز  بالقدر الذي كُتب حول الموسيقى الإلكترونية أو حول برلمان بون. عدا ذلك، ما زلتُ أتساءل عن إمكانية أن نفرض قراءة إجبارية لبعض الكتب حول أوشفيتز في الصفوف العليا، وعن إمكانية أن نُسقِطَ في النهاية بعض الاعتبارات المتخوفة حين نعالج التاريخ السياسي للأفكار. ومع ذلك، فما أبتغي الكلام عليه هنا ليس أوشفيتز بكل بساطة، ولست أنوي الكتابة عن يوميات موثّقة، فالمشروع الذي تصورته هو الحديث عن المواجهة بين أوشفيتز والذهن البشري. حين أشرع بذلك، لن يكون بمقدوري البتة التحايل أو الالتفاف على ما يُسمى «الفظائع»، تلك الأحداث التي يقوى القلب في مواجهتها وتضعف الأعصاب، كما قال بريخت يوماً. وسمتُ كلامي بـ «على تخوم الذهن» ولا ذنب لي إن كانت تلك الحدود تحاذي الفظائع غير المستحبة. 

إن كنتُ أريدُ الكلام على المثقف، أو «رجل العلم» كما كان يستخدم في الماضي، عليَّ بادئ ذي بدء أن أعرف مبحثي، أي المثقف. من هو المثقف أو صاحب العلم بالمعنى الذي أرمي إليه؟ هو حتماً ليس كل شخص يمارس مهنة تتطلب الذكاء، فبهذا المعنى سيكون التأهيل العالي شرطاً لازماً وليس كافياً. نعرف كلنا أشخاصاً من أهل القانون، أو مهندسين أو أطباء، وربما فقهاء لغة، أذكياء دون أدنى شك، وربما لامعين في اختصاصاتهم، لكن دون أن يستحقوا لقب المثقف. المثقف، بالمعنى الذي أريد أن أحيل إليه، هو شخص يعيش ضمن منظومة من المرجعيات الفكرية، وصفة فكرية هنا ترتبط بالمعنى الأوسع. إن مساحة الارتباطات الفكرية للمثقف أكثر إنسانية، ومتمحورة حول الإنسانيات والآداب. وعيه الإسطاطيقي غنيّ. ميوله وملكاته تدفعه نحو محاكمات مجردة. يمكنه في كل مناسبة أن يغترف من تاريخ الأفكار ويطور أفكاره وارتباطاتها المفاهيمية. إن سألناه، على سبيل المثال، أي اسم شهير يبتدئ بالمقطعين الصوتيين «ليليان»، سيخطر له الشاعر ديتليف فون ليليانكرونشاعر غنائي ألماني (1844-1909). المترجمة. قبل أن يفكر برائد صناعة الطيارات أوتو فون ليليانتال. نقترح عليه كلمة «مجتمع» فيضعها فوراً في منظور سوسيولوجي قبل أن يفكر بها بالمعنى المجتمعي الدنيوي. لا تهمه الظواهر الفيزيائية، ولكنه يعرف الكثير عن تروبادورالتروبادور هو نوع من المؤلفين الموسيقيين والشعراء والمغنيين الذين انتشروا في أوربا في العصور الوسطى، والموطن الأصلي لنوع الشعر الغنائي هذا هو وسط فرنسا. والاسم الذي يذكره الكاتب هو اسم تروبادور ألماني عاش في القرن الثامن. المترجمة. الشعر الريفي لقُرانا: نيدارت فون روينتال. 

إذاً هو هذا النوع من المثقفين، شخص يتقن عن ظهر قلب أبيات ومقاطع الشعر العظيم، ويعرف اللوحات الشهيرة لعصر النهضة بقدر ما يعرف لوحات الحقبة السريالية. بالنسبة له، لا أسرار مخبأة في تاريخ الفلسفة أو تاريخ الموسيقى. الآن، سنضع هذا الصنف من المثقفين في المكان الذي يتوجب عليه فيه أن يقسيّ من واقع وفضيلة علمه ونفسه، أو أن يشلّه تماماً، في ظرف أقصى حدّي: في أوشفيتز. 

والحال أنني أنا من سيحل مكان المثقف في ذلك المكان، بصفتين اثنتين، بصفتي يهودياً وعضواً في حركة المقاومة البلجيكية. لقد أقمت ليس في بوشنفالد، وبيرغت بلسن، وفي مخيمات اعتقال أخرى وحسب، ولكني أقمت كذلك سنةً كاملة في أوشفيتز، وبالتحديد في مخيم ملحق هو أوشفيتز مونوفيتز. ولهذا السبب سيظهر الضمير «أنا» في هذا النص أكثر مما أحبذ، أي  في المواضع التي لا أستطيع فيها أن أُحمّل الآخرين ما كان تجربتي الشخصية الخاصة.

في السياق الحالي، من المناسب أن نتأمل في الظرف «الخارجي» للمثقف، أي الظرف الذي يتقاسمه مع أصحاب المهن التي تتطلب الذكاء من غير المثقفين. ذلك الظرف كان سيئاً ولا شيء جيداً فيه، ويصبح مأساوياً عندما يتعلق الأمر بالعمل، إذ يستحيل الأمر إلى قضية حياة أو موت. في أوشفيتز مونوفيتز، يُقسَّم العمال الذين لا يلقون مصير غرف الغاز لأسباب متعددة لن ندخل في تفاصيلها، إلى فئات بحسب مهنهم السابقة. فالميكانيكي على سبيل المثال كان شخصاً محظياً لأنه يمكن أن يعمل في أي-جي فاربن-فابريك (الشركة العمومية المساهمة لصناعة الأصبغة)، وبذلك يأمنُ صعوبات الطقس القاسي. وكذلك الأمر بالنسبة للكهربائي والنجار وعامل البناء. في بعض الأحيان كان من حظ الخيّاط أو الحذّاء أن يتواجدا في قاعة يعملون فيها مع الـ «إس إس». بالنسبة للبنّاء، أو الطبّاخ أو تقني الراديو، كان هناك فرصة ضئيلة بأن يرثوا مكاناً للعمل يمكن احتماله وأن ينجوا بذلك. 

ما تبقى عدا ذلك هو ظروف الذين مارسوا مهنة ذهنية، كمصير التاجر الذي كان يُعتبر في المعتقل ما دون البروليتاريا (Lumpenproletariat)، أي بعبارة أخرى أولئك الذين تخصص لهم أعمال الحفريات والكابلات وعتالة أكياس الإسمنت وأثقال الحديد. في المعتقل، يصبح صاحب المهنة الذهنية عاملاً غير مؤهل لتأدية المهمات الخارجية، وهي تهمة بحد ذاتها. وكانت هناك فروقات في ذلك أيضاً. في المعسكر-المعتقل الذي نأخذه على سبيل المثال، كان الكيميائيون يعملون في اختصاصهم، كحال رفيقي في المهجع بريمو ليفي، ابن تورين، والذي كتب كتابه عن أوشفيتز بعنوان ماذا لو كان إنساناً. كان بوسع الأطباء أن يتحصلوا على ملاذٍ فيما كان يسمى مستوصف، ليس جميعهم بطبيعة الحال. فالطبيب ابن مدينة فيينا، فيكتور فرانكل، وهو اليوم طبيب نفسي ذو صيت عالمي، عمل كرصّافٍ في أعمال الطرقات ضمن معسكر أوشفتز مونوفيتز لسنوات. إجمالاً، يمكننا القول إن أصحاب المهن الذهنية كانوا سيئي الحظ في معسكرات العمل، وكان كثيرون منهم إضافة إلى ذلك يحاولون إبقاء مهنهم سراً. عديم أو قليل الخبرة في الأعمال اليدوية، وغير القادر على القيام بأعمال متنوعة يدوية، كان يحاول بطريقة متهورة أحياناً أن يستلم بعض الأعمال الصغيرة، مما كان يمكن أن يؤدي به إلى المخاطرة بحياته في حال اكتُشفت كذبته. الكثير من المعتقلين كانوا يجربون حظهم مقللين من شأن مهنهم وتاريخهم السابق تماماً. فالمدّرس الثانوي أو أستاذ الجامعة كان يجيب بوجل على السؤال حول مهنته، بِردٍّ مثل «معلم مدرسة» كي لا يستثير الغضب المفرط للـ «إس اس» أو شاويش المهجع. كان الصحفي يقدم نفسه كعامل مطبعة بسيط لما يتيحه ذلك من إمكانية أن يثبت قدراته اليدوية. وبهذا أضحى كل هؤلاء الرجال: أساتذة الجامعة والمحامون وأمناء المكتبات ومؤرخو الفن والاقتصاديون والرياضيون، يحملون الأنابيب والسكك وأخشاب الأسقف والدعائم.  مهمات ينجزونها بإتقان قليل وبقوة عضلية ليست كبيرة، مما يعني أنه بعد برهة قصيرة من الممكن أن يُقالوا من دائرة العمل تلك ويُرسَلوا إلى غرف الغاز والأفران. 

وإن كان وضعهم صعباً في أمكنة العمل، فهو ليس أقل سوءاً في داخل المعسكر. فالحياة هناك كانت تتطلب الكثير من المهارة والتمكن الجسدي والشجاعة، والتي تبلغ بطبيعة الحال حد الخشونة، إلا أن المشتغلين بأذهانهم نادراً ما كانوا يتمتعون بتلك المزايا، والاستقامة الأخلاقية التي كانوا يحاولون اللجوء إليها في استعاضة عن الخشونة الجسدية لم تكن تُثمَّن بفلس صدئ. لا يتعدى الأمر أحياناً أن نمنع نشالاً في وارسو من سرقة أشرطة أحذيتنا، في هذه الحالة، لكمة ماكنة تكفي لحسم القضية، وحتماً ليست الاستماتة الروحية التي يعرض فيها صحفي سياسي حياته للخطر حين ينشر مقالاً غير محبذ. ومن النافل أن نضيف أن أياً من الأطباء أو أساتذة الثانويات لم يتمكن من إطالة لكمته في حنك عدوه كما تقتضي قواعد اللعبة، بل على العكس كانوا يتلقون منها أكثر مما ينهالون بها على خصومهم، وكانوا أقل موهبة في تلقي الضربات مما هم في تلقينها. ولم تكن الأمور بأحسن حالٍ فيما يخص انضباط الحياة في المعسكر، فمَن مارس مهنة ذهنية كانت تنجلي قلة مواهبه بسرعة في «توضيب سريره». ما زلت أذكر أولئك الرفاق المتعلمين المثقفين المرتبكين في كل الصباحات أمام أكياس القش والأغطية دون أن يتوصلوا لأدنى نتيجة مُرضية، وما أن يصلوا إلى أمكنة عملهم حتى تتلبسهم الخشية وتصير وسواساً من أن يُعاقبوا أو أن يُضربوا أو أن يُحرموا من الطعام. لم يكونوا على مستوى أن يرتّبوا أسرّتهم أو أن يتلقوا أوامر مجنونة من نمط «أنزلوا قبعاتكم!». أكثر من ذلك، هم لم يتمكنوا بسهولة من إيجاد النبرة المناسبة التي يتوجهون بها إلى شاويش المهجع (Blockälteste) أو إلى الـ«أس أس»، نبرة مستكينة دون أن تكون خانعة تماماً وتحفظ الحد الأدنى من الكرامة، علماً أن إيجاد النبرة والطريقة المناسبة لمخاطبة هؤلاء كانت كافية لتجنب خطر مُحدق. لذا لم يكن رفاقهم ورؤساؤهم في المعسكر يقدّرونهم، ولا الشاويش والعمال المدنيون في أمكنة العمل.  

الأنكى من ذلك كله أنهم لم يتمكنوا من إقامة صداقات. كانوا في الواقع في استحالة فيزيائية جسدية لأن يستخدموا دون تحفظ اللغة المتداولة في المعسكر، والتي كانت الوسيلة الوحيدة المتعارف عليها في التخاطب. في السجالات الفكرية الحديثة، يُحكى كثيراً على مشاكل التواصل عند الإنسان المعاصر، ويُهدر في هذا السجال الكثير من العبث، وقد يكون من المناسب أن يحتفظ به كلٌ لنفسه. في معسكر الاعتقال ثمة مشكلةُ حقيقية في التواصل بين المثقف ومعظم رفاقه، وهذه الإشكالية كانت تُطرح في كل لحظة وبطريقة موجعة. فالمعتقل المتعود على طرائق معينة في التعبير دون تلاوين كثيرة، عليه أن يبذل جهوداً هائلة لينطق بتعبير مثل «انقلع!» أو أن يخاطب زميل اعتقال آخر بقوله «يا صاح!». ما زلتُ أذكر بكل جوارحي القرف الذي كان يستحوذ عليَّ حين كان أحد الرفاق يناديني بـ «صديقي العزيز» على الرغم من ودّه وقدرته على الاستماع. كان المثقف يعاني حين يسمع تعابير مثل «طبّاخ» أو «منظِم» ( والتي كانت تدّل على الشخص الذي يستولي على الأغراض بطريقة غير مستقيمة)، وكان يترتب عليه جرّاء كل هذا أن يستخدم تعابير من قبيل «الذهاب إلى القافلة»لا بد أن في ذلك إشارة إلى قوافل المعتقلين التي تذهب إلى الأفران. المترجمة.، والتي لم يكن بإمكانه نطقها إلا بمشقة. 

يقودني الحديث الآن للكلام على المشاكل الأكثر جوهرية، النفسانية والوجودية، للكلام على الحياة داخل معسكر الاعتقال، وللكلام على المثقف بالمعنى الأضيق للتعريف، والذي حاولت أن أصفه في البداية. السؤال الذي يفرض نفسه، وبالتعبير الأبسط، هو التالي: هل خدمت الثقافة والقابلية الذهنية صاحبها في المعتقل وفي اللحظات الأشد حرجاً؟ هل ساعدته على الخروج من الجحيم؟ حين طرحتُ السؤال على نفسي، لم أفكر يومها بوجودي اليومي في أوشفيتز، ولكني فكرتُ أولاً بكتاب جميل كتبه صديق هولندي تقاسم معنا المصير هناك في أوشفيتز، هو الكاتب نيكو روست، والكتاب بعنوان غوته في داشاو. بحثت عنه بعد سنوات واستطعت أن أقرأ فيه جمل بدت لي خارجة من حلم. قرأت فيه على سبيل المثال: «هذا الصباح أردت العودة إلى ملاحظاتي حول هيبيريون»، أو مثلاً «رجعت إلى النص الذي يتناول بن ميمون وأثره على الفيلسوف ألبرتوس الكبير وعلى توما الأكويني ودانس سكوت». مثال آخر: «أجبرت نفسي اليوم على التفكير أكثر بهيردر أثناء الغارة الجويّة…». وأيضاً، ولعله المثال الأكثر إدهاشاً: «القراءة أكثر فأكثر، الدراسة أيضاً أكثر وبكثافة. في كل دقيقة حرية متاحة! الأدب الكلاسيكي بدل كراتين الصليب الأحمر». وبتتبّعي لتلك الجمل ومشابكتها مع ذكرياتي الخاصة حول الحياة في المعسكر المعتقل، شعرتُ بخجل هائل يعتريني لأن لا شيء لديّ يمكنني اقتباسه ومقارنته مع سلوك نيكو سكوت الذهني المثير للإعجاب. بكل تأكيد، لم أكن لأقرأ شيئاً لابن ميمون حتى لو وقع الكتاب بين يديّ، وهو أمر لا يمكن تخليه في أوشفيتز بكل الأحوال. وقطعاً لم أكن لأفكر بهيردر أثناء غارة جويّة. أما بالنسبة لزعم الكاتب تفضيله للأدب الكلاسيكي على كرتونة مؤونة، فكنت لأشكك بالأمر قبل أن أسخر سخرية لاذعة من الفكرة. كما قلت لتوي، كنت أشعر بالخجل العارم عند قراءتي كتاب رفيق داشاو إلى حين تخلصت تماماً من الذنب إلى حد ما. كان عليَّ لأتخلص من الذنب أن أتذكر أن نيكو روست كان في موقعٍ ذي امتيازات نسبياً بما أنه كان يعمل كمرافق وحارس مرضى في مستوصف، بينما كنت أنا من جهتي ضمن الكتلة المغفلة من السجناء، ولكن قبل كل شيء كان عليَّ التذكر بأن الهولندي كان موجوداً في داشاو وليس في أوشفيتز. في الواقع، هاذان المعسكران لا يتقاسمان الشروط والمصير ذاته. 

كانت داشاو أولى معسكرات العمل الوطنية الاجتماعية وتملك إذاً تقليداً ما، لم ينشأ أوشفيتز إلا عام 1940 وظل يعمل حتى النهاية يوماً بيوم وفق قانون الارتجال والساعة. في داشاو كان العنصر السائد هو العنصر السياسي، بينما ضم معسكر أوشفيتز الأكثرية الكبرى من اليهود غير المسيّسين، وضمّ كذلك بولونيين غير واضحين سياسياً على الإطلاق. كانت الإدارة الداخلية لمعسكر داشاو بيد السجناء السياسيين، بينما في أوشفيتز كان المشرفون هم  محترفو جرائم ألمان، وهم من يحددون منحى الحياة. في داشاو كان ثمة مكتبة، بينما في أوشفيتز كان الكتاب موضوعاً يكاد السجناء لا يتخيلونه. في داشاو كما في بوشنفالد، كان يمكن للمعتقلين أن يناهضوا البنية الذهنية لدولة الـ«أس أس»، كان للذهن «وظيفة اجتماعية» هناك، والتي كانت تظهر بشكل أساسي في المجالات السياسية والدينية والإيديولوجية وربما نادراً في المجالات الفلسفية، كالتي كان نيكو روست يمارسها. بالمقابل في أوشفيتز كان المثقف معزولاً ومتروكاً لوحده. لهذا فإن مشكلة التقاء الذهن والعلم مع الفظائع كانت تظهر بطريقة حادّة، واعذروني إن صغتها على النحو التالي: في أوشفيتز لم يكن الذهن إلا ذاته ولم تُتَح له أي فرصة ليتعلق ببنية اجتماعية، لِما كانت عليه تلك البنى من هشاشة وعدم وضوح. وبهذا كان المثقف يجد نفسه هناك وحيداً مع ذهنه وهو ليس إلا وعياً مجرداً من كل إمكانية لأن يستقر ويشتد عوده باحتكاكه مع واقع اجتماعي. الأمثلة التي يمكن الاتكاء عليها هي في جزء منها عادية، إلا أنه ينبغي اقتباس الأمثلة من مساحات المرء التي لا يمكن الولوج إليها إلا بصعوبة. 

في البداية على الأقل، يرصد المثقف دون توقف البرهة التي يمكن للذهن انتهازها اجتماعياً. على سبيل المثال، أثناء الحديث مع رفيق المنامة الذي يصف له بالتفصيل كل الأطباق الطيبة التي كانت تعدها له زوجته، يُسعد المثقف بأن يقحم بشكل عابر ضمن الحديث أنه كان يقرأ كثيراً في حياته قبل معسكر الاعتقال، ولكنه حين لا يجد بعد المرة الثلاثين لمحاولته الحديث عن قراءاته إلا جواباً من نمط «ملّلتني بهذا الحديث!» فلن يعاود محاولاته مرة أخرى. لهذا فالبعد الذهني يأخذ في أوشفيتز شكلاً جديداً مرتين: من جهة وعلى المستوى النفساني يستحيل إلى أمر غير واقعي بالمطلق؛ ومن جهة ثانية ولتعريفه وفق مصطلحات اجتماعية، فهو يتخذ سمة الترف غير المسموح به. في بعض الأحيان، من الممكن أن تستشعر هذه الأمور الجديدة في طبقات أعمق من تلك التي نشعر بها أثناء محادثة على قش المنامة. في تلك اللحظات يفقد الذهن فجأة سمته الجوهرية: التسامي. 

أتذكر ذلك المساء الشتوي حين كنا عائدين من ورشة أي-جي فاربن، كنا نجرّ خطواتنا المرهقة على الإيقاع المغيظ الذي يفرضه الشاويش على مشيتنا، «يسار، اثنان، ثلاثة، أربعة». لحظتُ أمام بناء ضخم دميم علماً يرفرف ولا أعرف لِم وُضع هنا والله أعلم. تمتمتُ لنفسي بتداعٍ عفوي: «الجدران تنتصب خرساء وباردة، والبيارق تصفق في الهواء» ومن ثم أخذت أكرر البيت بصوت أعلى مصغياً إلى موسيقى الكلمات ومحاولاً استعادة أثر الإيقاع على أمل إعمال كتلة المشاعر الداخلية المرتبطة عندي منذ سنوات بقصيدة «هولدرلين» تلك. لا شيء. لم تعد القصيدة تتسامى فوق الواقع، هي هنا أتذكرها ولكنها ليست إلا قولاً بارداً عن شيئين: الجدران والبيارق. صرخ الشاويش «إلى اليسار!»… والحساء سائل جداً، والبيارق تصفق في الهواء. ربما كان يمكن للشعور الهولدريني ذاك والمكمون ضمن النفس أن يبزغ من جديد لو كان إلى جانبي رفيق له قليل من ميولي وحساسيتي أتلو عليه البيت الشعري، بكل الأحوال لن يكون الرفيق المُتخيَّل ضمن صفوفي حيث فُرزت، وإلا أين يمكن أن يتواجد ضمن المعسكر؟ هل كان يمكن الوقوع على هكذا رفيق مُتخيَّل، عزلته الخاصة غَرَّبته إلى هذا الحد حتى أنه لم يعد يرتكس لشيء؟ الشيء بالشيء يُذكر، أذكر لقائي مع فيلسوف ذي صيت من باريس كان موجوداً في المعسكر. عرفتُ أنه موجود وأردتُ عيادته في مهجعه، ووجدته لاحقاً بعد مشقة وبعض المخاطرة. كنا نتمشى وزوادتنا من الأكل تحت إبطنا في طُرُق المعسكر، وعبثاً حاولت أن أشده إلى محادثة فكرية. لم يكن فيلسوف السوربون يرد إلا بمقاطع صوتية أحادية وميكانيكية وينتهي بأن يصمت تماماً. من يتحدث عن تخشّن وتجلّف؟ لا لا شيء من ذلك، فالرجل ليس خشناً جلفاً، حتى أنه أقل مني خشونة. ببساطة، كل ما في الأمر أنه لم يعد يؤمن بواقعية عالم الذهن والفكر، ويرفض أن يسترسل في ألعاب لغوية فكرية منقطعة عن كل مرجعية اجتماعية في المعسكر. 

فيما يتعلق بغياب الوظيفة الاجتماعية للذهن، هناك إشكالية خاصة كانت تُطرح على المفكر اليهودي الحائز على زادٍ ثقافي ألماني الهوية. فكل ما يمكن أن يتكلم به لم يعد يخصه، أصبح ما يمتلكه من ثقافة يخص عدوه. بيتهوفن مثلاً، كان يعزف في برلين تحت قيادة فورتفانغلر، وهو شخصية بارزة عند الرايخ الثالث. أسبوعية فولكيخر بيوباختر كانت تنشر مقالاتٍ تتناول فيها نوفاليس ولم تكن مقالاتٍ دون قيمة؛ نيتشه لم يعد يخص هتلر وحسب، وهو أمر يمكن أن نتغاضى عنه، ولكنه أصبح يخص شاعراً موالياً للنازية، إرنست بيرترام، الذي كان يفهم نيتشه جيداً. من «وثائق مرسبورغ» العجيبة إلى غوتفيرد بين، ومن بوكستهود إلى ريتشارد شتراوسن، انتقل الموروث الفكري والجمالي  دون ريب إلى أيدي العدو. جُنّ أحد الرفاق حين أجاب على سؤال حول مهنته السابقة «مختص بالجرمانيات»، مما كان من شأنه أن أفقد أحد الـ«أس أس»صوابه وأدخله في حالة غضب قاتلة. في تلك الحقبة نفسها على ما أعتقد، قال توماس مان من الولايات المتحدة «حيث أكون أنا تكون الثقافة الألمانية». إن المعتقل اليهودي الألماني لا يمكنه أن يخاطر بهكذا تصريح متهور، حتى لو كان توماس مان نفسه. لم يكن يمكن للمعتقل ادّعاء أن الثقافة الألمانية هي جزء من ثقافته الخاصة لأن لا مبرر اجتماعياً وواقعياً لزعمه هذا. قلّة قليلة من المهاجرين استطاعت أن تتجمع حول نواة من الثقافة الألمانية، وبالمناسبة توماس مان لم يكن منها، ولكن في أوشفيتز كان الفرد المعزول مرغماً على تسليم ثقافته الألمانية حتى آخر نفر من الـ«أس أس»، بما في ذلك تسليم دورر وروجيه وغريفيوس وتراكل. 

مع ذلك، وحتى حين نلوذ بالوهم الساذج والإشكالي، أن ثمة ألمانيا «خيّرة» وألمانيا «سيئة»، فمع وجود توراك القميء الذي انضوى إلى جانب هتلر، أو العظيم تيلمان ريمينشنايدر الذي فُرض عليه التضامن مع النازية، حتى حينها يبقى الذهن مجبراً على الإمحاء أمام الواقع. لذلك دوافع كثيرة، ومن الصعب التمييز بينها لنستخلص منها شيئاً. لن آخذ بعين الاعتبار الدوافع البدنية، ولا أعرف إن كان ذلك مقبولاً، لأن كل معتقل في المعسكر كان  خاضعاً لمقاومته البدنية الخاصة، كبرت أم ضعفت. بكل الأحوال فمن الواضح أن كل مسألة النشاط الذهني والفكري لا يمكن طرحها في اللحظة التي يكون فيها المرء على وشك الموت جوعاً أو إعياءً، وليس محروماً من ملكاته الذهنية وحسب بل يكفّ عن أن يكون إنساناً. يصبح ما نطلق عليه في لغة المعسكر «المسلم»، للدلالة على المعتقل الذي استنكف عن النضال والمقاومة، الذي يتركه رفاقه لمصيره، هو الذي لم يعد في وعيه متسع يتشابك ضمنه الخير والشر ويتضاربان، أو النبيل مع الوضيع أو الذهني والفكري مع اللافكري . لم يكن إلا جثة جوالة، مجرد تجميع لبعض الوظائف الحيوية في صحوتها الأخيرة. مهما بدا لنا ذلك قاسياً، فإنه ينبغي إقصاؤه من اعتباراتنا. ربما لا يمكنني الانطلاق إلّا من تجربتي وشرطي الخاص، شرط المعتقل الذي جاع دون أن يموت جوعاً، الذي ضُرب ولكن ليس إلى حد الموت، الذي جُرح جروحاً لم تكن قاتلة. والذي كان يمتلك موضوعياً القاعدة العميقة التي يقوم عليها الذهن ويحافظ وفقها على وجوده بالحد الأدنى. إلا أن ذلك المُستقَرَّ الذي كان الذهن يحاول الاتكاء عليه كان واهياً هشاً، وكان يجهد كي يبقى فوقه، تلك هي كل الحقيقة الحزينة. كنت قد لمّحت إلى إفلاس أو غياب  بقايا من الروابط الجمالية، وفي معظم الأحيان لا تحمل تلك البقايا أي عزاء ممكن، بل إنها غالباً ما تحمل معاناة وتهكم وسخرية؛ ولكنها على الأرجح تبقى ضمن جو من اللامبالاة المطلقة. 

غير أنه كان ثمة استثناءات، حين كان المرء يدخل في حالة ثمالة ما. أذكر مثلاً يوم أعطاني حارس للمرضى في المستوصف صحناً من السميد المسّكر والتهمته دفعة واحدة، كان لذلك عليَّ وقعٌ كبير في أن دخل ذهني في حالة من النشوة غير المعهودة. كنتُ ممتلأ بشعور عارم جعلني أفكر بظاهرة الطيبة الإنسانية. هذا التأمل ارتبط في تلك اللحظة بصورة الشجاع جواكيم زيمسن في رواية الجبل السحري لتوماس مان، وفجأةً غُمر وعيي وطاف بمضامين كتب ونثرات موسيقا وأفكار فلسفية أردتُ قطعاً أن أعتبرها أفكاري الخاصة. واعترتني رغبة فكرية غير قابلة للكبح، رغبة توازت مع شعور حاد بالحنو والتعاطف مع الذات أدمعَ عينّي. غير أني، في طبقةٍ ظلّت صافيةً من وعيي، كنتُ مدركاً تمام الإدراك ماهية تلك الطفرة المشبوهة في نشاطي الذهني الذي لم يستمر بطبيعة الحال لأكثر من دقائق معدودة. ما كان ذلك سوى حالة سُكر سبّبها البدن. فيما بعد، كشف لي رفاق آخرون بأنني لم أكن المعتقل الوحيد الذي استشعر استثارة مشابهة للذهن في ظروف مماثلة. كانت مشاعر الثمالة تعتري غالباً رفاقي حين يأكلون أو حين يدخنّون سيجارة، متعٌ نسوها. ومثل كل السكرات، كانت تنتهي هذه السكرة بشعور كمد من الخجل والخواء، هي غير أصيلة وبعمق. فقيمة الذهن والعقل لا تتعزز في حالات مماثلة، التمثيلات الجمالية وكل ما يتبعها لا تحتل من الداخل الذهني للمثقف إلا حيزاً ضيقاً، وليس الأهم بكل الاحوال. فالأهم هو الفكر التحليلي، هو وحده ما يُتوخى منه الدعم والإرشاد على دروب الفظائع.

ولكن حتى هنا لم يكن لديَّ إلا محصلات مخيبة. في المعسكر وخاصةً في أوشفيتز، لم يكن الفكر العقلاني والتحليلي ليؤدي سوى إلى جدلية مأساوية في تدمير الذات. ما أنوي قوله هنا يمكن أن يُفسَّرَ بسهولة. أولاً، المثقف لا يمكنه تصور وارتضاء ما هو غير قابل للتصور كما يتسنى لغير المثقف أن يفعل. هو مُدرَّب على الاشتباك ومُساءلة ظواهر الواقع اليومي، وبالتالي سيصعب عليه ألا تكون الظواهر مرتبطة بمعسكر الاعتقال، وهذا الأخير يبرز تناقضاً فجاً مع كل ما تخيل المثقف أن الإنسان قادر عليه. كإنسانٍ حر لم يكن قد عاشر إلا أناساً حسّاسين لمحاججة العقل البشري، وها هو اليوم يرفض قطعياً أن يفهم ما هو في حقيقة الأمر بسيط للغاية: أن الـ «أس أس» يستخدمون في مواجهة المعتقل منطق الإعدام وإنهاء الحياة، وهو منطق يعمل بالقدر الذي كان منطق الحفاظ على الحياة يعمل وفقه خارج المعسكر. كان ينبغي أن يبقى المعتقلون حليقي الرؤوس تماماً، ولكن من الممنوع عليهم اقتناء شفرة حلاقة، وزيارة الحلّاق لم تكن تتم إلا كل خمسة عشر يوماً، كان المرء يُعاقَب إن نقص من زيه المخطط زرٌ واحد أثناء العمل، وهو أمر لم يكن يمكن تجنبه ولم يكن بإمكاننا استبدال الأزرار. كان ينبغي أن يبقى المعتقل قوياً رغم أنه يُضعَفُ منهجياً. حين يدخل المعتقل المعسكر ينزع منه كل ما يملك، فيصبح بعدها موضوع تهكم اللصوص لأنه لا يملك شيئاً. المرء غير المُدرَّب على التمارين الذهنية كان يقبل هذه الأمور دون التفكر كثيراً، ودون تقلب مزاج كبير، ومن الممكن أن يرفق ذلك بجمل من قبيل: «ينبغي أن يكون هناك فقراء وأغنياء»، أو «سيكون هناك حروب دائماً». غير المثقف يستوعب ذلك، وفي أحسن الأحوال يتنصر في مواقف مماثلة. المثقف من جهته سينتفض أمام عجز الفكر، لأنه بدايةً سيستسلم لتلك الحكمة المجنونة والتي تقضي بأن «ما ليس من حقه أن يوجد لا ينبغي ولا يمكن أن يوجد». ذلك في البداية فقط. 

إلا أن رفض منطق الـ«أس أس» والتمرد والتلفظ بعبارات سحرية من قبيل «لا، لا، إن هذا غير ممكن»، كل ذلك لن يستمر طويلاً. شيئاً فشيئاً كان يحل لا محالة شيءٌ من القبول أكثر مما هو الاستسلام، ليس قبول المنطق السائد وحسب، بل حتى منظومة قيم الـ«أس أس». ومرّة أخرى، فالمعتقل المثقف لم تكن له ميّزات المعتقل غير المثقف، فبالنسبة لهذا الأخير لم يكن هناك يوماً أي منطق إنساني معمم، ولكن فقط نظام مترابط  غايته الحفاظ على النفس في كل موقف. صحيح أنه أعلن علانية أنه «ينبغي أن يكون هناك فقراء وأغنياء» ولكنه رغم ذلك كان يخوض معركته كفقير ضد الغني دون أن يشعر بتناقضات معركته. منطق المعسكر بالنسبة له لم يكن سوى تطبيق مكثف للمنطق الاقتصادي، وكان يتعامل معه بمزيج متناغم من التسليم وإرادة المقاومة. بالمقابل، كان على المثقف الذي خارت إرادة المقاومة عنده، كان عليه أن يقبل بأن ما هو مستحيل مبدأياً موجود في الحياة، يمكن له أن يتواجد. كان منطق الـ«أس أس» يثبت له في كل لحظة أنه واقع قائم، فلم يكن ليتقدم في حياته إلا بخطوات كارثية. ألم يكن الحق في جانب أولئك الذين كانوا يتأهبون لإنهائه، بما أنهم ودون أدنى شك أقوى منه؟ بهذا ينقلب التشكك المنهجي للمثقف واعتداله الجوهري إلى عوامل تدمير للذات. نعم فالـ«أس أس» يمكنهم أن يتصرفوا كما يتصرفون، فليس هناك حق طبيعي، والمفاهيم الأخلاقية تولد وتنقضي كما هو حال الموضة. كان ثمة ألمانيا تقود اليهود والخصوم السياسيين إلى الموت لأنها كانت تعتقد أنها الوسيلة الوحيدة لتحقق ذاتها. وبعد؟ لقد بُنيت الحضارة اليونانية على العبودية، أولم يقم الجيش الأثيني في جزيرة ميلوس مثلما أقام الـ«أس أس» في أوكرانيا؟ هناك عدد لا يحصى من الأضاحي البشرية في الماضي حتى يتسنى لحزمة ضوء تاريخية أن تضيء عليها كلها، وبالنهاية فالتقدم المستمر للبشرية كان تصوراً ساذجاً للقرن التاسع عشر. «يساااار، إثنان، ثلاثة، أربعة»: كان ذلك طقساً مثل غيره من الطقوس. ولم يكن هناك الكثير لمناهضة الفظيع. لقد طُرِّزَ طريق الـ «فيا أبيا»فيا أبيا (Via Apea) أحد أهم طرقات روما القديمة، كان يصل روما ببرنديسي، الميناء التجاري المهم في علاقته بشرق حوض المتوسط. الروماني على جانبيه بالعبيد المصلوبين، وهناك في بيركيناو كانت تنبعث رائحة الأجساد المتفحمة إلى السماء. هنا لم نكن كراسوس بل كنا سبارتاكوس، هذا كل شيء. «حدّوا من دفق الراين ببقايا جثثهم، وحين يزبد النهر سيلفظ عظامهم عند المرقب» هكذا كان يغني «كلايست» نهر الراين، ومن يعرف إن كان سينفذ تهويماته عن الموت ورفات الناس لو تسنت له فرصة السلطة؟ الجنرال فون كلايست اضطلع بمهماته في مكان ما على الجبهة الروسية، وربما كان يُمترس هناك بأجساد ورفات يهود وسياسيين. هكذا كان التاريخ وهكذا سيبقى دائماً. لقد وقعنا تحت عجلته وفي كل مرة يمر جلادٌ، كنّا ننزع قبعاتنا. المثقف الذي لم يعد يملك قوة المقاومة كما في البداية، بالرغم من كل معارفه وملكاته التحليلية، يناهض مدمريه أقل مما يفعل غير المثقف، فهذا الأخير ينضبط في حضرة مضطهديه فيُقدرونه أكثر، ولكنه بالمقابل يحاربهم بشكل عفوي وفعّال أكثر بكثير مما يفعل رفيقه المُفكّر، لأنه قادر على التسلل وتجنب المآزق، وهو فوق ذلك لص موهوب. 

ما كان يشلّ المثقف أيضاً أكثر بكثير من رفيقه غير المُفكّر هو احترامه الأعمق للسلطة، وهو احترام له أسباب تاريخية وسوسيولوجية. في الواقع، المُفكّر كان دائماً معتمداً بشكل كامل على السلطة. كان يشكك بها ويخضعها لنقده ولكنه في الوقت عينه كان يستسلم دائماً أمامها. إلا أن الاستسلام الكامل يصبح حتمياً لا يمكن تجنبه حين لا تظهر أي قوة مضادة مرئية تقارع العدو. في الخارج كان هناك جيوش جرارة تقارع القاتل المبيد، ولكن في المعسكر كانت الأخبار تأتي متأخرة من بعيد، ولم يكن أحد يريد أن يتعلق بإيمان ما. كانت سلطة الـ «أس أس» تبسط قوتها الهائلة والوحشية والحصينة أمام المعتقل، وهو واقع لا يمكن الالتفاف عليه، وينتهي الأمر بأن يبدو هذا الواقع وكأنه عقلاني. بهذا المعنى الكل يصبح هيغلياً هنا، مهما كان موقعه الفكري والثقافي قبل الدخول إلى المعسكر: تبدو دولة الـ«أس أس» في لمعانها المعدني وكأنها دولة تتحقق فيها الفكرة.

آن الأوان لأن نفتح قوسين نتناول ضمنهما المعتقل المتدين والمتشبث بدينه، أو المعتقل المتشبث بإيديولوجيته السياسية، حيث أن موضعيهما مختلفان  جوهرياً عن موضع المثقف الإنسانياتي.

بِدءاً دعوني أعترف: عندما دخلت السجون والمعسكرات النازية كنت لاأدرياً، وعندما تركت الجحيم الذي حرره الإنكليز في برغن بلسن بتاريخ 15 نيسان 1945 كنت لا أزال لاأدرياً. لم أستشعر في نفسي للحظة أي سبب يحملني على الإيمان، حتى حين كنت أختلي بنفسي، مقيداً في زنزانتي ومدركاً تماماً أن ملفي يتضمن عبارة «كسر كل مقاومة»، وأنه كان عليَّ دائماً أن أتوقع أمر إعدامي. ولم أكن كذلك النصير الملتزم بإيديولوجيا سياسية محدّدة. إلا أنني لا أنكر كم أعجبت بالرفاق المتدينين والسياسيين الملتزمين، ولا يؤخذ بالحسبان إن كانوا رجال علم وفكر أم لا، بالمعنى الذي تكلمنا عليه أعلاه. بطريقة ما، كان تُقاهم الديني أو إيمانهم السياسي ملاذاً لا يُقدر بثمن في اللحظات الحرجة، بينما نجهد نحن المثقفون الإنسانياتيون المتشككون، نجهد عبثاً بالتضرع لربات الأدب والفلسفة والفن الشفيعات. إن كانوا ماركسيين مناضلين أو فرقاً ضيقة من مجتهدي التوراة أو كاثوليكيين ملتزمين، اقتصاديين أو منظرين في الأديان عَاليّ الثقافة، عمالاً أو مزارعين ضَحليّ الثقافة، كان إيمانهم وإيديولوجيتهم يقدمان لهم نقطة ثابتة في العالم، يستطيعون من منطلقها أن يزعزعوا مفاصل دولة الـ«أس أس». كانوا يرتلون القداديس في ظروف لا يمكن تصورها، كان اليهود يصومون صيام الكفّارة بينما كان الجوع القاتل يملأ أيامنا طوال السنة. كانوا يعقدون نقاشات ماركسية خيالية حول مستقبل أوروبا أو يصرون على ترداد أن الاتحاد السوفياتي عليه أن ينتصر وسينتصر. كانوا يتحملون أكثر أو يموتون بعزة وكرامة أكثر من رفاقهم المثقفين غير المؤمنين أو غير المسيّسين، مع أن الأخيرين كانوا مؤهلين أحسن تأهيل للمحاكمة والتفكير. وكأنني أراه اليوم، ذلك الكاهن البولوني الذي لم يكن يتقن أياً من اللغات التي أعرفها، ولكنه كان يلقنني إيمانه باللاتينية حين يقول لي: voluntus hominis it ad malum (إرادة الإنسان تنحو نحو الشر)، مشيراً إلى شاويش كان معروفاً بيده الضاربة. «ولكن رحمة الله لا سعة لها، لذا سننتصر». لم يكن الرفاق المتدينون أو الملتزمون سياسياً يتفاجؤون برؤية الفظيع غير القابل للتصور يحصل في المعسكر. كان المسيحيون واليهود المؤمنون يقولون أن على من ضلّ طريق الربّ أن يتساءل لِمَ يعاني بهذا القدر من فظائع أوشفيتز. وكان الماركسيون يرددون أنه من المحتم حين تدخل الرأسمالية في مرحلتها الأخيرة، المرحلة الفاشية، أن تتحول إلى جلّاد للإنسانية. لم يكن ثمة مستجد فيما يحصل في المعسكر، بل بكل بساطة ما كان يتنبأ به الماركسيون والمؤمنون، أو يعتبرونه ممكناً. مؤمنون أو عقائديون مسيسون على حد سواء، كانوا يأخذون المسافة المطلوبة مع الواقع الحاضر لأنهم تداولوا بشأنه قبل القدوم إلى المعسكر. بكل الأحوال، فمملكتهم لم تكن الآن وهنا، بل غداً وفي مكان آخر. سواء كان الغد غداً بعيداً مغموراً بضياء ملكوت بالنسبة للمسيحي أو مستقبلاً أرضياً  طوباوياً بالنسبة للماركسي. كان وقع سطوة الواقع أخف حين يسمو الواقع إلى ذرى الطريق الروحي الثابت الذي لا يختلجه شيء. الجوع لم يكون جوعاً بل النتيجة الضرورية للإلحاد أو لدرن الرأسمالية. الضرب أو الإعدام في حُجر الغاز ليسا إلا محنة إلهية جديدة أو استشهاداً سياسياً بديهياً. المسيحيون الأوائل عانوا كذلك كما عانى الفلاحون المستغلون في حرب الفلاحين الألمان، كل مسيحي كان سان سيبستيان وكل ماركسي كان توماس مونزر. 

أما نحن، المثقفين المتشككين والإنسانياتين، فقد كنا موضوع احتقار عند المسيحيين كما عند الماركسيين، مع بعض الرحمة من قبل الأولين والكثير من الغيظ والتململ بالنسبة للأخيرين. كنتُ أتساءل أحياناً في المعسكر إن لم يكونوا محقين باحتقارهم هذا لنا. ليس الأمر أني تمنيت أن أكون أو تخيلت نفسي مؤمناً أو عقائدياً سياسياً، فأنا لم أعرف ولم أُرِد أن أعرف النعمة الإلهية التي لم تكن نعمة بالنسبة لي، ولا نعمة الإيديولوجيا التي أظنني سبرتُ مشاكلها ومحصلاتها الخاطئة. لم أكن أريد أن أكون فرداً من جماعة رفاقي المؤمنين ولكني وودتُ أن أكون مثلهم: لا يهزني شيء، هادئاً، وقوياً. ما فهمته ظهر لي أكثر فأكثر كحقيقة مؤكدة: الرجل المؤمن بالمعنيين الديني والسياسي يمكنه أن يتجاوز نفسه، ليس أسير فردانيته، هو جزء من طيف روحاني متصل لا يقطعه شيء، حتى في أوشفيتز. إنه أكثر بعداً وأكثر قرباً من الواقع في آن. أكثر مما هو عليه غير المؤمن. أكثر بعداً في سلوكه الغائيّ بشكل أساسي، فهو يسقط من اعتباره معطيات الواقع ويضع نصب عينيه مستقبلاً آخر قريباً أو بعيداً، وهو مع ذلك أكثر قرباً من الواقع لأنه لا يترك نفسه تهولها الوقائع التي يعيشها، مما يتيح له أن يتعامل ويتصرف بحيوية أكثر تجاه هذه الوقائع. بالنسبة لغير المؤمن، فالواقع هو في أسوأ الحالات عنفٌ ينبغي الاستسلام له وفي أحسن الحالات موضوع تحليل. بالنسبة للمؤمن الواقع هو صلصال يشكّله، مسألة يحلها. ومن النافل القول إن مساحة التفاهم بين هذين الشخصين، المؤمن وغير المؤمن، بقيت محدودة ضمن المعسكر كما كانت قبل المعسكر. الرفاق المؤمنون والسياسيون كان يحفظون مسافة ما معنا، نحن المتشككين، وكان واحدهم يحفظ هذه المسافة وهو متسامح وخدوم من جهة، أو وهو غاضب منّا من جهة أخرى. قال لي يهوديٌ مؤمن يوماً: «عليك أن تفهم شيئاً وهو أن ثقافتك وذكاءك لن ينفعاك بشيء هنا، بينما أنا متيقن أن الله سينتقم لنا». رفيق آخر ألماني، من أقصى اليسار السياسي، كان قد وصل إلى المعسكر عام 1943 قال لي ببعض العصبية: «ها أنتم هنا الآن، أنتم العقلانيون البرجوازيون، وها أنتم ترتعدون أمام الـ’أس أس’. نحن لا نرتعد حتى لو فطسنا هنا مثل الكلاب، نعرف حق المعرفة بأن رفاقنا سيدعسون كل العصابة». واحدهم كان يتطلع إلى المستقبل. لم يكونوا كائنات أحادية دون نوافذ، بقوا منفتحين على عالم ليس عالم أوشفيتز. 

هذه الطباع كانت تبهر المثقفين غير المؤمنين. هذا أكيد. ولم أشهد إلا على قليل جداً من الارتدادات. في هذه الحالات الاستثنائية كان المتشكك يتأثر ويمسّ بمثال ناصع لبعض الرفاق فيصبح مسيحياً أو ماركسياً ملتزماً. في معظم الأحيان كان يحدث نفسه قائلاً: «ها هو، وهمٌ مثير للإعجاب ومخلّص دون شك، ولكنه ليس إلا وهماً». وكان يحدث أيضاً أن ينتفض ويطلق غضبه في وجه الذين يدّعون حُسن المعرفة. بالنسبة له، كان الكلام عن رحمة إلهية لا تعرف الحدود فضيحة حين نعرف المعتقل الشاويش الألماني محترف الجريمة والذي دعس حرفياً على بعض المعتقلين بقدميه. بالتوازي مع ذلك، كانت الثقة العمياء التي يتهم بها الماركسيون تركيبة الـ«أس أس» بأنها عاهرة البرجوازية، وبأن المعسكر هو الثمرة الطبيعية للرأسمالية، تلك الثقة كانت تبدو لغير المؤمن نفسه حماقة مثيرة للغضب، لأن كل إنسان ذا حس سليم عليه أن يفهم أن لا علاقة لأوشفيتز بالرأسمالية ولا بأي شكل من الأشكال الاقتصادية، ولكنه نتاج عقول مريضة وكائنات منحرفة على مستوى الشعور. كان يمكن إذاً أن يحترم المرء الرفاق المؤمنين وأن يهز رأسه في الوقت عينه قائلاً «أي شطط، أي شطط؟!»، إلا أن المثقفين كانوا يخفضون نبرتهم ويبقون دون حجة عندما كان الآخرون يلومونهم على عجرفة قيمهم الذهنية الفكرية. سأغلق هنا القوسين الذين فتحتهما أعلاه لأعود إلى دور الذهن في أوشفيتز، وسأبدأ بتكرار واضح لما قلته سابقاً: لم يكن الذهن عوناً أبداً لأنه لم يرد أو لم يستطع المنافسة مع العقيدة الدينية أو السياسية. كان الذهن يتركنا وحيدين.

كيف كان المثقف في أوشفيتز يتعامل مع الموت على سبيل المثال؟ ها هو ميدان واسع ومعقد نعرج عليه على عجل! أنطلق من أن الكل يعرف أن المعتقل يعيش مع الموت في غرفة واحدة وليس الباب على الباب وحسب. كان الموت حَلولاً دائم الوجود. كان فرز المعتقلين إلى غرف الغاز يتم دورياً، ولأسباب تافهة كان يتم شنق المعتقلين في ساحة «أبل»، وكان يجبر رفاقهم أن يسيروا ورؤوسهم متجهة نحو اليمين على صوت المارش العسكري العالي أمام الأجساد المتأرجحة من المشنقة. كان الناس يموتون بكثافة، في أماكن العمل، في المستوصفات، في المنفردات والأبنية. أتذكر بعض الفترات التي كنت أفشخ فيها فوق الجثث المتكدسة حتى دون أن أعيرها انتباهاً حين كنّا كلنا من الضعف واللامبالاة بمكان لا نستطيع معهما حتى أن نُخرِجَ الجثث من المهاجع، ولكن كما قيل لنا فهذه التفاصيل كُررت كثيراً وأصبحت جزءاً من الفظيع الذي حذرني صديقي الحريص من الكلام عليه هنا. 

قد يعترض البعض بالقول إن الجندي على الجبهة يجاور الموت في كل لحظة وبأن لا شيء خاص، أو لا إشكالية خاصة، في الموت ضمن معسكر الاعتقال. أيتوجب عليَّ أن أكرّر بأن المقارنة ليست سديدة؟ مهما بلغت معاناة الجندي على الجبهة فلا يمكن مقارنة حياته بحياة المعتقل في معسكر. على المنوال نفسه، فموت الجندي وموت المعتقل لا يمكن أن يُقاسا بالمقياس نفسه. الجندي يموت كبطل مقدماً حياته كأضحية، المعتقل كان يقتل كما يقتل قطيع حيوانات. الجندي يُساق إلى المعركة وليست لحياته قيمة، هذا صحيح، ولكن الدولة تأمره بالبقاء وليس بالموت. أما الواجب الأسمى لمعتقل المعسكر فهو الموت. الفارق الأساسي هو أن الجندي على الجبهة، بعكس المعتقل، لم يكن دريئة الموت وحسب بل مقترفه، لنقولها بشكل مجازي: لم يكن الموت الساطور الذي يهبط على رقبته ولكن كذلك السيف الذي يستله بيده. في حين كان يأتيه الموت من الخارج، كان يمكنه أن يذيقه للآخرين. كان الموت يأتي من الخارج كقدرٍ يمسك به ولكنه كان ينمو في داخله كإرادة للقتل. كان تهديداً وحظاً بينما كان يأخذ بالنسبة للمعتقل شكل الحل النهائي. في هكذا شروط، كان يصطدم المثقف مع الموت. كان أمامه، وبه كان الذهن يقظاً دائماً. كان يناهضه ويبحث، عبثاً، عن أن يصون كرامته. 

ما كان يحصل أولاً هو الانهيار الكامل والتمثل «الجمالي» للموت. نعرف عما نتكلم. فرجل الفكر، المثقف الذي يحمل زاداً ثقافياً ألمانياً على وجه الخصوص، كان يحمل مقاربةً جمالية للموت. كانت متأتية من مكان بعيد، تعود إلى الرومانسية الألمانية، سنفهم ما هي تلك المقاربة حين تتلبس أسماءَ مثل نوفاليس، شوبنهاور، فاغنر، أو توماس مان. لم يكن هناك مكاناً لأوشفيتز في تصور الموت كشكلٍ أدبي أو فلسفي أو موسيقي. لم يكن هناك جسرٌ يصل الموت في أوشفيتز مع الموت في البندقية. كل آثار شاعرية للموت غير مُرحَّب بها، سواء أختي الموت لهسه، أو الموت كما يغنيه ريلكه: «يا إلهي امنح كل إنسان موته الخاص». بالنسبة للمثقف، المقاربة الجمالية للموت كانت جزءاً لا يتجزأ من نمط حياة جمالي، وحيث يمكن بالكاد استحضار طيف تلك الحياة تصبح تلك الذكرى غروراً متأنقاً. في المعسكر لا لحن لتريستان يرافق الموت، لم يكن هناك إلا زئير الـ«أس أس» والشاويش. إن موت الإنسان الذي كان حدثاً اجتماعياً يُدوَّنُ في «القسم السياسي» تحت عبارة «أُخرج جراء الموت». كان يفقد بالنهاية مضمونه الخاص على المستوى الفردي، لدرجة أن إضفاء جمالية ما عليه كان يبدو لمن سيموت إدعاءً مهيناً، وتجاه رفاقه كان يغدو مطالبة غير لائقة على الإطلاق. 

وجد المعتقل المثقف نفسه إذاً أعزل في مواجهة موت انهار كل تمثيل جمالي له. وإن حاول استعادة رابط روحي وماورائي معه، أي الموت، سيصطدم مرة أخرى بواقع المخيم الذي يدين محاولات مماثلة ويائسة. ماذا كان يحصل عملياً؟ لنقل بإيجاز وبساطة: ما كان يشغل رجل الفكر مثلما كان يشغل رفيقه غير المثقف لم يكن الموت بل طريقة الموت؛ بهذا كانت المسألة تتلخص ببعض الاعتبارات الملموسة، كنا نتحدث مثلاً على «أس أس» بعج بطن أحد المعتقلين ومن ثم ملأ جوفه بالرمل، من البديهي بعد تخيل هكذا نهاية ألا نعود نهتم إطلاقاً إن كنا سنموت أم لا، ولكن فقط بـ «كيف» سيتم الأمر. كنا نناقش المدة التي يأخذها الغاز في حجر الغاز قبل أن يتمم مفعوله. كنا نتداول تخميناتنا حول الآلام التي يسببها حقن الفينول. هل يُحبذ الموت جراء ضربة على الجمجمة أم الموت ببطء في المستوصف نتيجة سوء التغذية الحادّ؟ ما كان لافتاً في سلوك المعتقل في مواجهة الموت أن قلةً منّا قررت «الركض باتجاه الأسلاك» كما كنا نقول، ما يعني الانتحار بملامسة الأسلاك الشائكة المكهربة بتوتر عالٍ. كان السور يقدم مخرجاً جيداً، مخرجاً أميناً، ولكن قد يحصل أن يُمسك بنا قبل أن نبلغه فنودع في المنفردة حيث ينتظرنا موتٌ أقسى وأكثر إيلاماً. كان الرجال يموتون في كل مكان، بيد أن وجه الموت اختفى تماماً. 

يبدو لي مع ذلك أن الخشية من الموت تقود جوهرياً إلى الخوف من أن نموت. ما قاله فرانتز بوركيناو يوماً يبقى سديداً بالنسبة لمعتقلي المعسكر: في الحقيقة، الخوف من الموت هو الخوف من الاختناق. حراً، يمكن للمرء أن يبني تأملات حول الموت لا ترتبط بالتأملات حول كيفية الموت أو قلق الاحتضار. حين يكون المرء حراً يمكنه، في فكره أو مبدأياً على الأقل، أن يفصل بين الموت ومُعاش لحظات الموت: على المستوى الاجتماعي، سيقلق على مصير الأسرة التي سيتركها وراءه أو العمل الذي سيتركه؛ على المستوى المثالي سيتخيل، هو الذي ما زال حياً، كيف سيكون العدم. من النافل قول إن هكذا محاولات لا تقود إلى شيء، وإن تناقض الموت لا يزال لغزاً. هذا لا يمنع أن المحاولة بحد ذاتها كريمة، إن كان الإنسان الحر في مواجهة الموت قادراً على أداءٍ ذهني ما فذلك لأن الموت لا يختلط تماماً بعذابات الاحتضار. إن كان الإنسان الحر قادراً على التقدم نحو نهايات إمكانيات التفكير فذلك لأنه يحمل في داخله حيزاً متاحاً للقلق مهما صغر. بالنسبة للمعتقل، فقد الموت عصاه التي ينكز بها للإيلام أو للتحفيز على التفكير. هذا ما يفسر ربما أن معتقل المعسكر، مثقفاً كان أم غير مثقف، عرف القلق الفظيع من طرائق الموت أكثر من قلقه من الموت بحد ذاته. الآن، إن أمكنني أن أستأذن وأحكي على نفسي، فسأقول إنني لم أزعم يوماً شجاعة خاصةً وقد لا أكون شجاعاً بالفعل، ولكن بعد قضائي أشهراً في المعسكر جاءوا يبحثون عني في زنزانتي وأكد لي الـ «أس أس» الدمث أني سأعدم رمياً بالرصاص، تلقيت الخبر بلا مبالاة تامّة. وأكمل الرجل الذي بدا أنه يتسلى «والآن لا بد أنك خائف؟» فأجبته بنعم لأسايره وكي لا أحرض غضبه الوحشي حين أخيّب آماله. لا، لم نكن نخاف من الموت. أذكر بوضوح أنه في بعض المهاجع حين كان الرجال ينتظرون الفرز إلى غرف الغاز، لم يكن الرفاق يتكلمون على هذا الحدث بل كانوا يعبرون عن قلقهم حول قوام الحساء الذي سيوزع. إذاً كان واقع الحياة في المعسكر هو المنتصر على الموت وعلى كل تعقيدات الأسئلة التي نطلق عليها اسم الأسئلة الأخيرة. هنا أيضاً يجد الذهن نفسه محكوماً بحدود مفروضة. كل تلك المسائل التي يصطلح على تسميتها بـ«الماورائية» تصبح دون موضوع ومحتوى للتفكير به. ولكن مرة أخرى أقولها: ليس التخشن والتبله هو الذي يجعل التفكير مستحيلاً، ولكن بالعكس تماماً: حدة ذكاء مثقف ذي عقل شُحذ ذهنه وقسى بفعل واقع المعسكر. أضف إلى ذلك أننا فقدنا ملكاتنا الشعورية والعاطفية، والتي كان من الممكن أن نستثمر مفاهيمها الفلسفية الغائمة وإضفاء دلالات ذاتية ونفسانية عليها. من وقت لآخر نفكر بساحر بلاد الألمان فاعل السوءيبدو أن الكاتب يتكلم على هايدغر، الفيلسوف الألماني. المترجم ذلك الذي أكد يوماً أن الكائن لا يتجلى للإنسان إلا من خلال نور الكينونة، ولكن الإنسان لن يلحظ بأن نور الكينونة سيلتمع فوق الكائن. خذ الكينونة مثلاً، في المعسكر تَبيّنَ لنا بشكل أوضح من الخارج ما نفعله بالكائن وبنور الكينونة. كان يمكن أن «نكون» جوعى، أن «نكون» متعبين، أن «نكون» مرضى، ولكن أن «نكون» هكذا دون إضافات لا معنى لها. وأما الذات الكائنة بحد ذاتها فقد أضحت مفهوماً لا يمكن تمثلّه، بدا لنا أجوف لا يتضمن أي معنى. التسامي بالكلام لما فوق الوجود الحقيقي أصبح ترفاً غير مقبول ولعبةً ليست سخيفة وحسب، لا وبل مدعاة احتقار. كان عالم الظواهر يثبت بقوة وفي كل لحظة أن أدواته التي تخصه وحده يمكنها أن تساعد على تحمله. بعبارة أخرى، لا مكان في العالم كان الواقع يمارس فيه ذلك الفعل المباشر كما كان يفعل في معسكر الاعتقال. لا مكان في العالم تبدو فيه محاولة تجاوز الواقع سخيفة ويائسة كما هي في المعسكر. مثلما خرس بيت الشعر الذي يتحدث على الأعلام التي تصفق في الهواء والجدران، كذلك فقدت العبارات الفلسفية قدرتها على التسامي، لم تعد إلا ملاحظات ملموسة، لغواً عقيماً. حين تدلّ على شيء تبدو لنا تافهة، وحين لا تكون تافهة لا تعني شيئاً. لم نكن بحاجة إلى تحليل دلالي أو إلى تراكيب منطقية لنعرف ذلك، كان يكفي أن نلقي نظرة سريعة على المحارس في المعسكر، أو أن نشتم رائحة الدهن المحروق المنبعث من الأفران. 

أظهر الذهن بمجمله أنه غير كفوء. لقد توقفت وظيفته كأداة قادرة على حل المشاكل التي واجهتنا، ولكن كان يمكنه أن يحافظ على نفسه بينما يدمر نفسه، وهي نقطة أساسية أردت التطرق إليها، لأنه من الخطأ الاعتقاد أن المثقف يفقد كل ملكة ذهنية ويصبح عاجزاً عن التفكير، شرط ألا يُدمّر على المستوى الجسدي. على العكس تماماً، فالفكر لا يمنح نفسه أي استراحة، ولكنه يدمر نفسه ويصون نفسه في آن معاً، بما أنه يصطدم مع كل خطوة يخطوها بحدود لا يمكن تجاوزها. بخطواته واصطداماته، تنهار إحداثيات مرجعياته التقليدية. الجمال؟ ليس إلا وهماً. المعرفة تبدو وكأنها ليست إلا لعبة ذهنية، يختبئ الموت في كل مكان ليستحيل غير متمايز.  

ربما لا أحد سيسألني في محادثة افتراضية عن ما يمكن للمثقف أن يحمله من المعسكر إلى العالم «الطبيعي»، عمّا تعلّمه وعمّا احتفظ به من زمن المعتقل. سأحاول مع ذلك أن أجيب في حال لم أفعل مسبقاً في سردي هذا. 

بداية، لنبدأ ببعض المنقوضات: في أوشفيتز لم نصبح أكثر حكمةً، إن كان المقصود بالحكمة المعرفة الإيجابية، لا شيء مما تعلمناه هناك لم نكن قد تعلمناه، لم يتحول شيء من كل ذلك إلى دليل عملي. لم نصبح كذلك «أكثر عمقاً» إن كان العمق يمكنه أن يصبح بُعداً روحياً قابلاً للتعريف. وسيكون بديهياً على ما أعتقد أن أقول إننا في أوشفيتز لم نصبح أفضل أو أكثر إنسانية أو أكثر إيثارية وأخلاقياً وأكثر نضجاً. لا يمكن أن نتأمل مشهد الإنسان الذي نُزعت عنه إنسانيته، والذي يقترف الجرائم الأكثر وحشيةً دون أن تُساءل المفاهيم الفطرية للكرامة الإنسانية ويُشكَّكَ بها من جديد. خرجنا من المعتقل معرين تماماً، منهوبين من كل شيء، مفرغين وتائهين. لقد لزم الكثير من الوقت حتى نعود لنتعلم اللغة اليومية للحرية. ونتكلمها اليوم بعدم ارتياح ودون الكثير من الثقة بنجاعتها. 

مع ذلك، لم تكن الإقامة في المعسكر مجردة تماماً من كل قيمة بالنسبة لنا، وحين أقول «نحن» أقصد المثقفين غير المؤمنين وغير الملتزمين بعقيدة سياسية. في الحقيقة، لقد جلبنا معنا الحقيقة غير القابلة للتغيير بنظرنا، والتي مفادها أن الذهن في اتساعه الكبير ليس إلا كائناً لاعباً (ludus)ونحن لسنا إلا بشراً لاعبين (homines ludentes). هذه المعرفة وضعت حداً لكثير من الافتراضات والميتافيزيقيات، وأيضاً لكثير من الألعاب الروحية الساذجة، ولمعنى خيالي ما للحياة. في كتابه الكلمات كتب جان بول سارتر أنه لزمه ثلاثون عاماً حتى يصبح في حِلٍّ من الفلسفة التقليدية. يمكنني أن أؤكد أن سيرورة مماثلة تأخذ وقتاً أقل من ذلك بكثير. بضع أسابيع تُقضى في المعسكر تكفي على العموم لإزالة سر وسحر الفلسفة، إزالة السحر والسر التي تتطلب من عقول أخرى، ربما أكثر اتقاداً وأكثر موهبة ودقة، تتطلب منها حياة كاملة. 

أتجرأ إذاً أن أزعم أنه يوم تركنا أوشفيتز لم نكن قد أصبحنا أكثر حكمةً أو أكثر عمقاً، ولكننا بالتأكيد أصبحنا أكثر حذاقةً ومكراً. لقد قال أرتور شنيتزلر يوماً «لم يضئ عمق العقل يوماً على العالم، ولكن وضوح العقل يرى أعمق في ذاته». لا مكان مؤاتٍ أكثر من معسكر الاعتقال، أي أوشفيتز، لهضم مقولة شنيتزلر. إن كان ما زال بإمكاني أن أضيف اقتباساً آخر، أستلهمه هذه المرة من نمساوي، أود التذكير بكلامٍ قاله يوماً كارل كراوس في السنوات الأولى للرايخ الثالث: «لقد انطفأ الكلام من اللحظة الأولى التي رأى فيها العالم النور». وقد قال جملته في معرض دفاعه عن «الكلام» الميتافيزيقي، بينما نحن، المعتقلون السابقون لمعسكرات الاعتقال، نستعير منه جملته لنعيد قولها في معرض تشكك. ينطفئ الكلام في كل مكان يكون فيه مطلب شمولي. بالنسبة لنا، فقد انطفأ الكلام منذ زمن بعيد. ولم يبق لنا حتى عزاءُ أن نأسف لزواله.