شهدت مدينة سرمين بريف إدلب، في الثاني من كانون الثاني (يناير) الجاري، استهدافاً بالقنابل العنقودية أصاب مدرسة ابتدائية، وراح ضحيته ثلاثة تلاميذ بالإضافة إلى خمسة مدنيين آخرين كانوا في المكان. وسقطت حاضنة الصاروخ، وهي من نوع «توشكا»، على بعد ثمانمئة وخمسين متراً، لتنطلق منها نحو خمسين قنبلة عنقودية غطت موقع المدرسة والمنازل المجاورة لها.
يستخدم هذا النوع من القنابل عادة للتخلص من أكبر عدد ممكن الأفراد، وقد انتهج نظام الأسد خلال السنوات الماضية سياسة بث الذعر في نفوس المدنيين بهدف إجبارهم على إخلاء المناطق السكنية والنزوح، من خلال الاستخدام العشوائي للذخائر العنقودية والبراميل المتفجرة التي لا تصيب أهدافاً دقيقة ولا تميز بين مدني وعسكري.
وبحسب القاضي كيفين ريوردان، المدير العام السابق لخدمات الدفاع القانونية في قوات الدفاع النيوزيلندية، وذلك في دراسة له عن الذخائر العنقودية واتفاقية دبلن المتعلقة بها، فإن مصطلح القنابل العنقودية يُطلق على أي نظام من نظم الأسلحة التي تطلق مجموعة من الذخائر المتفجرة الأصغر حجماً على مساحات معينة، ويمكن إطلاقها بواسطة القذائف الصاروخية أو المدفعية، أو إلقاؤها من موزعات ثابتة، كما يمكن إلقاؤها على شكل قنابل من الطائرات. ويؤكد القاضي ريوردان أن تلك الأسلحة تغري مستخدميها بشكل خاص باعتبارها تغطي مناطق شاسعة من أرض المعركة، بدرجة عالية من التيقن من قتل جميع من هم في المنطقة المستهدفة، أو إصابتهم إصابات بليغة على الأقل.
مئات القتلى ومناطق كبيرة غير آمنة
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقريرها الصادر في 13 كانون الأول (ديسمبر) 2019، ما لا يقل عن 487 هجوماً بذخائر عنقودية على مناطق سورية منذ أول استخدام موثق لها في تموز (يوليو) 2012 وحتى العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، تتحمل قوات النظام المسؤولية عن 243 هجوماً، فيما استخدمت القوات الروسية تلك الذخائر في 236 هجوماً، بالإضافة إلى 8 استهدافات مشتركة للقوات السورية والروسية معاً. وأسفرت تلك الهجمات عن مقتل 1019 مدنياً بينهم 375 طفلاً و215 سيدة، كما وثقت الشبكة مقتل ما لا يقل عن 357 مدنياً بينهم 107 أطفال إثر انفجار ذخائر عنقودية تعود لهجمات سابقة، وتعرَّضَ نحو 4300 مدني للإصابة، كثيرون منهم تعرضوا لبتر في الأطراف أو تشوهات.
ويقول مصطفى حاج يوسف، مدير إدارة إدلب للدفاع المدني، في حديث له مع الجمهورية إن عدد الاستهدافات بالذخائر العنقودية بحسب الإدارة العامة للدفاع المدني، منذ أيلول (سبتمبر) 2016 وحتى نهاية العام 2019، قد بلغ 1504 هجمات، أسفرت عن مقتل 326 شخصاً وإصابة نحو 1657 آخرين.
من جهته، صرّح يونس أمين، مدير العمليات في المركز السوري للأعمال المتعلقة بالألغام ومخلفات الحرب للجمهورية إن نظام الأسد وروسيا يستخدمان أربعة أنواع من الذخائر العنقودية؛ أولاها بيضوية الشكل بلون فضي، مخصصة للأفراد، تضم الواحدة منها نحو ألف كرة حديدية بقطر ثمان مليمترات، وتحتوي الكرات على مادة الـ TNT؛ أما النوع الثاني فهو كروي الشكل بلون فضي، تستخدم ضد الأفراد أيضاً، وتضمّ نحو سبعمائة كرة حديدية من الحجم نفسه، وتحتوي على الـ TNT أيضاً. وهناك نوعان آخران بشكل أسطواني، طول الأول نحو 20 سم بقطر 5 سم، يستخدم كمضاد للدروع ولا يطلق الشظايا، ومادته المتفجرة هي السي فور؛ والآخر بطول 15 سم وقطر 5 سم، يحوي المادة المتفجرة نفسها. وباستطاعة هذين النوعين اختراق الآليات والمصفحات بسماكة من 20 إلى 25 سم.
قنابل موقوتة
للذخائر العنقودية آثار واسعة النطاق، وتلعب عشوائيتها دوراً رئيسياً في مدى تسببها بالأذى للمدنيين، إذ تقدر نسبة الخطأ في الذخائر الأرضية منها بنحو 150 متراً عن الهدف، إضافة إلى فشل انفجار قسم منها، تقدره الشبكة السورية لحقوق الإنسان بنحو 10 إلى 40 % من إجمالي عدد القنيبلات الصغيرة، وهو ما يؤدي إلى تحوّلها إلى ما يشبه الألغام الأرضية.
يقول مصطفى حاج يوسف إن مناطق واسعة في الشمال السوري تحتوي على ذخائر عنقودية غير منفجرة، وتحتاج لسنوات من العمل وتضافر الجهود للكشف عنها وإزالتها أو إتلافها. ويعتبر الأطفال أكبر المعرضين للإصابة بهذه الذخائر، التي تتحول إلى «قنابل موقوتة» بحسب الحاج يوسف، كونها تمتلك أشكالاً براقة وصغيرة يمكن أن تغري الطفل بملامستها والاقتراب منها.
ويشرح يونس الأمين أن بعض هذه القنابل تكون مزودة بمؤقت للانفجار بعد ساعات أو أيام، ما يجعل خطرها مستمراً، كما أن هناك بعض الأنواع التي تنفجر بالحرارة أو اللمس عند الاقتراب منها سواء من قبل الأفراد أو الآليات، وبعضها مغناطيسي ينجذب للعربات والسيارات، وهناك أنواع تنفجر بالاهتزاز، إضافة إلى تلك التي تنفجر عند الاصطدام بالأرض.
إتلاف وليس إزالة
يدير رائد حسون مركز (U.X.O) لإزالة الذخائر غير المنفجرة في قطاع معرة النعمان في الدفاع المدني السوري، وقد صرّح للجمهورية إن لدى مركزهم فرقاً مدربة للتعامل مع الذخائر غير المنفجرة، وهي تقوم بإتلافها (تفجيرها) في مكانها وليس إزالتها (نقلها وتفكيكها)، ويتم ذلك بطرق وصفها بأنها بِدائية، وذلك لعدم توفر المعدات اللازمة للنقل والتفكيك.
يقول الحسون إن المنظمة وافقت على الطُرُق التي يتم اتّباعها للتخلص من الذخائر العنقودية، وذلك بعد إرسال عدد من تقارير الأمان والتقارير عن آلية العمل. وهو يشرح أن هذه الفِرَقَ تتعامل مع أنواع محددة من الذخائر العنقودية، وذلك بتفجيرها بعد وضعها ضمن ساتر وتأمين الأفراد والمكان وإبلاغ الأهالي. ولا يُسمح لهذه الفِرق بالاقتراب من الألغام والبراميل والصواريخ الضخمة والحاويات التي تضم ذخيرة عنقودية غير منفجرة، والتي يتم التعامل معها بوضع إشارات تحذيرية حولها تمنع الاقتراب من المكان، ثم اللجوء إلى المخافر أو المجالس المحلية أو السلطة الاعتبارية في المكان، وإبلاغهم عن وجودها ليتم التعامل معها بالطرق المناسبة من قبلهم.
القنابل العنقودية والقانون
تحظر الاتفاقية التي تم إقرارها في دبلن عام 2008 استخدام وتخزين وإنتاج ونقل الذخائر العنقودية التي تسبب أضراراً غير مقبولة للمدنيين، وتفرض تقديم الرعاية الكافية للناجين وإعادة تأهيلهم وتطهير المناطق الملوثة. وقد وقعت على هذه الاتفاقية، التي دخلت حيز التنفيذ عام 2010، أكثر من مئة دولة، ليست سوريا من بينها.
ويرى القاضي ريوردان في دراسته أن طابع تلك الذخائر وخصائصها، التي تجعلها تصيب غالباً المدنيين والعسكريين على حد سواء، وتترك وراءها كميات كبيرة من الذخائر غير المنفجرة التي تودي عشوائياً بحياة عدد أكبر من المدنيين، هو ما أدّى إلى تصنيفها تحت بند الأسلحة غير المشروعة، والتي يجب إزالتها وإتلافها، وهو الأمر الذي نصّت عليه الاتفاقية التي أوجبت التخلص من مخزون الذخائر العنقودية لدى الدول الأطراف في الاتفاقية في مدة أقصاها ثماني سنوات، مع تقديم تقرير مفصّل بهذه الذخائر إلى الأمم المتحدة من حيث الأعداد والأنواع وأماكن التواجد.
حملات توعوية
يقول رائد حسون إن عمل مكتب إزالة الذخائر المنفجرة ينقسم إلى قسمين؛ أولهما القسم الميداني الذي تقوم من خلاله الفرق بإتلاف الذخائر العنقودية أو وضع شارات التحذير عليها؛ أما القسم الآخر فيكون على شكل حملات توعية لكافة فئات المجتمع، إذ يقوم المكتب بتحذير الأهالي، خاصة في المناطق التي تعرضت لهجوم بالذخائر العنقودية، من الاقتراب أو لمس هذه الذخائر، كما يقوم بزيارة المدارس والتجمعات والمراكز النسائية وورشات العمل والمساجد للحديث عن مخاطر القنابل العنقودية وأشكالها وألوانها.
ويعمل الفريق على نشر فيديوهات توضيحية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتوزيع بروشورات بأشكال مختلفة تضم صوراً للقنابل العنقودية ليتمكن الأهالي من معرفتها في حال مصادفتهم لها، كما تتضمن شرحاً وافياً للإشارات التحذيرية التي يتم وضعها حول الذخائر التي لم يتم التعامل معها، إضافة لوضع أرقام للتواصل مع مكتب إزالة الذخائر في حالة الشك بأي جسم غريب أو مشابه للصور المعروضة على الأهالي.
يُضاف استخدام الذخائر العنقودية إلى الجرائم التي يرتكبها النظام السوري وحلفاؤه بحق المدنيين في مناطق سيطرة فصائل المعارضة، ويمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الذي صنّفها ضمن الأسلحة غير الشرعية، والتي لا يجوز استخدامها حتى ضد العسكريين في المعارك بحسب اتفاقية دبلن، فكيف باستخدامها على الأحياء السكنية، والتي كان آخر ضحاياها أطفال ونساء في مدرسة ابتدائية في سرمين، سبقها استهدافٌ بالذخائر العنقودية أيضاً لمخيم قاح الذي يضم نازحين، ما أدى إلى مقتل نحو 16 مدنياً بينهم أطفال.