لم يتوقف القصف نهائياً على مدن وبلدات محافظة إدلب، مع دخول الإعلان التركي الروسي لوقف إطلاق نار شمال غرب سوريا حيز التنفيذ منتصف ليل السبت 11 كانون الثاني (يناير) 2020، إذ قصفت مدفعية النظام مدينة معرة النعمان وقرى تلمنس ومعرشمشة ومعرشورين جنوبي محافظة إدلب صباح يوم الأحد. وعلى الرغم من تراجع حدة القصف في وقت لاحق، إلا أنّ الهدنة التي تم الإعلان عنها لا يبدو أنها تعني وقفاً تاماً لإطلاق النار.
وكانت موسكو قد أعلنت يوم الخميس الفائت عن بدء وقف إطلاق نار في إدلب نتيجة اتفاق مع أنقرة، لتعلن بعدها تركيا عن وقف إطلاق نار بدورها، مُعلنةً ليل السبت الأحد موعداً لبدء تنفيذه، وهو الموعد الذي أكّده بوتين خلال مؤتمر صحفي جمعه مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يوم السبت، بينما كانت طائرات النظام تغير على مدينة إدلب وقُرىً في ريفها وريف حلب موقعة عشرات الضحايا والجرحى. وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان إنّ ثمانية عشر مدنياً قضوا نتيجة القصف والغارات يوم السبت فقط، فيما بدا أنه جولة ترهيب وقتل تستبق دخول وقف النار حيّز التنفيذ، وهو وقف النار الذي أعرب مسؤولون أتراك عن أملهم في أن يكون هدنة دائمة.
لكن يوم الأحد التالي ليوم السبت الدامي لم يأتِ بوقف تام لإطلاق النار، إذ استمرت قوات النظام بقصفها المدفعي على قرى وبلدات ريف إدلب الجنوبي، وفي الوقت ذاته قامت طائرات النظام برمي مناشير ورقية على بعض مناطق ريف حلب، تدعو المدنيين فيها للخروج من المنطقة عبر ثلاثة معابر افتتحتها، في كل من بلدات الهبيط وأبو الضهور والحاضر.
ويمكن اعتبار تلك المناشير، التي تم تداول الأخبار عنها بكثافة على مواقع إلكترونية تابعة للنظام وحلفائه، مقدمة لعملية عسكرية جديدة على إدلب وريف حلب، يجري التحضير لها خلال الهدنة، خاصةً بعد ملاحظة تحركات عسكرية لقوات النظام خلف الجبهات. وقد نقل موقع المدن عن مصادر في فصائل المعارضة رصد تحركات لقوات النظام نحو جبهات ريف حلب والراشدين في ضواحي مدينة حلب، تم بالتوازي معها نقل مروحيات من مطار حماة إلى مطار النيرب العسكري جنوب حلب، وهو ما قد يكون ترتيبات ما قبل بدء معركة على جبهات ريفي حلب الجنوبي والشمالي الغربي، الأمر الذي يعني في حال حدوثه اتساع الجبهات لتشمل مساحات واسعة سهلية ومفتوحة.
من جهته، نشر الدفاع المدني السوري يوم أمس بياناً يحذر فيه من استمرار الأوضاع في إدلب على حالها، ما يدفع بالكارثة الإنسانية إلى حدود جديدة، مؤكداً عدم التزام قوات النظام وحليفته موسكو بالهدنة التي تمّ الإعلان عنها. وقال البيان: «في كل مرة تدعي روسيا حليفة النظام السوري بمصداقيتها في تنفيذ اتفاقيات وقف إطلاق النار، وما إن يحاول المدنيون العودة لحياتهم الطبيعية بعيدًا عن القصف، إلا وتعاود قصفهم وقتلهم لتستمر حالة الذعر والرعب في قلوب الناس»؛ وأضاف البيان بأن «الكارثة الإنسانية التي نواجهها في إدلب اليوم، ربما تكون الأكبر على الإطلاق مع استمرار عدم التزام روسيا ونظام الأسد بوقف إطلاق النار، حيث أن هناك أكثر من 1182772 شخصاً أُجبروا على ترك منازلهم بفترات متفاوتة نتيجة القصف المستمر هرباً من الموت، مما شكّل أكبر حملة نزوح شهدتها سوريا».
تُحِيلُ الأوضاع الراهنة في إدلب والأرياف المحيطة بها إلى توجه لدى النظام وموسكو يفضي إلى الاستمرار في العملية العسكرية على المنطقة، ضمن استراتيجية الضربات السريعة والهدن المتقطعة، بهدف امتصاص أي ضغط سياسي دولي على روسيا لوقف العمليات العسكرية. وفي ظل توقيع روسيا مزيداً من الاتفاقات والتفاهمات مع تركيا، لا يبدو أنّ أنقرة معنية بالضغط لإلزام موسكو بتلك الاتفاقات بشكل نهائي، بقدر ما هي معنية بمحاولة استيعاب عمليات النزوح بشكل تدريجي، لمنع توجه موجة كبيرة من اللاجئين نحو الحدود التركية. وفيما تقف حواجز هيئة تحرير الشام لتطلق النار على أي مظاهرة للنازحين باتجاه المعبر أو الشريط الحدودي، تبدو فصائل المعارضة في إدلب وكأنها قد انخرطت نهائياً في اتفاق لتقاسم إدلب بين موسكو وأنقرة، ربما يُفضي في النهاية إلى الإبقاء على جيب صغير لاستيعاب النازحين.
لم تكن خطوط الجبهات خلال الأيام الماضية مُشتعلةً كما قد يتخيل المرء عندما يتابع أخبار القصف العنيف، إذ أنّ الطائرات والمدفعية التابعة لموسكو والنظام تضع تركيزها الأساسي على مدن وبلدات بعينها بهدف تفريغها من السكان، بينما يعيش النازحون أوضاعاً قد لا تقل مأساوية عن القصف نفسه. المعركة ليست على الجبهات كما يبدو، بل إنها هناك في البيوت والحارات، التي يريدها النظام خاليةً أمام زحف مدرعاته المهترئة وجنوده المنهكين.