في الزواج، كل رغبة تصبح قراراً” 

– سوزان سونتاغ في مذاكرتها ولادة ثانية 

 

في اللحظة التي يقرر فيها أحد الشريكين أو كليهما الانفصال عن الآخر، يبدو للأشخاص الذين من حولهم (المراقبون الخارجيون) أنها لحظة النهاية التي تضع حداً لاستمرار العلاقة بينهما. لكن يبدو أن ما يحدث عند اتخاذ قرار الانفصال بعيدٌ كل البعد عن النهاية، وذلك بحسب ما نراه من تجارب الآخرين التي نسمع عنها، أو حتى تلك التي نراها في الأفلام. وقد كان آخرها فيلم قصة زواج (Marriage Story) لمخرجه وكاتب السيناريو نوح باومباخ (Noah Baumbach).

بدأ عرض فيلم قصة زواج على موقع نتفليكس في شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام المنصرم، بعد عرض أول له في مهرجان البندقية في 29 آب (أغسطس) 2019، وهو من بطولة كل من آدم درايفر وسكارليت جوهانسن. وقد حصل حتى الآن على مستوى 95% من التقييمات في موقع روتنتوميتو، ورُشِّحَ لست جوائز في الغولدن غلوب، نالت منها الممثلة لورا ديرن جائزة أفضل ممثلة مساعِدة عن  دور المحامية لموكلتها نيكول في الفيلم.

يتناول الفيلم قصة الزوجين نيكول وتشارلي، الذين يعملان في مجال صناعة المسرح. يعمل تشارلي مخرجاً مسرحياً بينما تعمل نيكول ممثلة في الفرقة المسرحية ذاتها التي يديرها زوجها في مدينة نيويورك. يبدأ الفيلم بسرد كل شخصية منهما للصفات البسيطة الناعمة التي يحبها أحدهما في الآخر، والتي لا يمكن إلا للحب الصادق وحده أن يفتح أعين المرء عليها. وترافق هذا السرد مع موسيقى متسقة مع صورة الحب الرقيق، وهي من تأليف راندي نيومان.

لكن، وبعد أن أثمر هذا الحب عن طفلهما الوحيد، هنري، ذي الثماني سنوات، قرر الزوجان الانفصال. 

يبدو لنا في المشاهد الأولى من الفيلم أننا أمام انفصال توافقي بين الشريكين، والأسباب غير معروفة  بوضوح سوى عدم ارتياح واضح، لدى الشريكين، إزاء شكل العلاقة الحالي. ولا يستمر ذلك الوضع طويلاً قبل أن تقرر نيكول  توكيل محامية، بعد نصيحة أحد الزملاء لها بالمحامية نورا، وبذلك تُخِلُّ نيكول بوعدها لتشارلي عندما اتفقا على الانفصال دون اللجوء إلى محامين؛ ليتحول الانفصال حينها من قرار بالتراضي إلى معركة طاحنة تعيد نيكول معها قراءة الماضي والتفكير بعلاقات القوة بين الشريكين والأمن العاطفي الذي يمنحه أحدهما للآخر، مضافاً إلى ذلك عبء الأمومة والأبوة، الذي ينقل الصراع إلى مسألة الحضانة بين الزوجين.

تبوح نيكول في لقائها الأول بالمحامية، مع بكاءٍ ممزوج بالغضب، بالأسباب القديمة المتراكمة التي دفعتها لاتخاذ قرار الانفصال، والتي تعود إلى بداية علاقتها بتشارلي. وليس مفاجئاً أن تكون الأسباب في غالبها متمحورة حول سلوك تشارلي السلطوي في علاقته مع زوجته، التي هي ممثلة تحت إدارته في فرقته المسرحية في آن واحد. لا شك أن نيكول كانت قد خاضت معركة حاسمة مع ذاتها أولاً قبل اتخاذ القرار، وأن قرارها بالانفصال جاء نتيجةً لوعيها بذاتها الذائبة في شخصية زوجها، ووعياً بمستقبل مهنتها التي أخذت تتلاشى وراء ظل المخرج اللامع والموهوب. «لا يراني كياناً منفصلاً عنه». هذا هو سرّ قرارها بالانفصال. وحتى اتهام الخيانة الذي تأتي نيكول على ذكره في نهاية المشهد، يبدو تفصيلاً ثانوياً في الفيلم، وليس هو سبب الانفصال، لأن نيكول لا تريد استعادة العلاقة، ولا أن تتحرر من زوجها فقط، بل ما تتطلع إليه فعلاً هو رؤية ذاتها ومعرفة رغباتها وذوقها بشكل مستقل ومنفصل عنه، ولو كان ذلك في أبسط الأمور، كأن تختار أثاث منزلها أو أن تمتلك حق الإجابة إذا ما خطر له أن يسألها «ماذا ستفعلين اليوم؟». 

تُعيدنا مشاهد عديدة من فيلم قصة زواج إلى مشاهد من الفيلم الإيراني انفصال (A Separation) لأصغر فرهادي، المُنتَج عام 2011. يختلف الفيلمان في نواح عديدة من الناحية الفنية والبنية الدرامية، إلا أن الشخصيتين النسائيتين في كلا الفيلمين تشتركان بالنزعة التحررية التي كانت سبباً وراء قرارهما بالانفصال، فالزوجة في فيلم فرهادي تقرر السفر بعد حصولها على موافقة على طلب هجرة، وذلك بعكس رغبة الزوج الذي يختار أن يبقى لرعاية والده؛ وفي فيلم قصة زواج، الدافع هو التحرر من سطوة الزوج/المخرج عاطفياً ومهنياً. قد يبدو للوهلة الأولى أن الانجرار وراء الرغبات الذاتية طيشٌ غير عقلاني وغير مقبول من الزوجة/ الأم في مؤسسة العائلة، لكن الأمر بالنسبة للزوجتين ليس مجرد تعارض رغبات، بل معركة لتقرير المصير. وقد جاءت النزعات التحررية هذه مبطنة وأقل مباشرة في الفيلم الإيراني، حيث ينطوي الإصرار على السفر ضمنياً على قرار الانفصال، ويأتي التحرر من مؤسسة الزواج  نتيجة حتمية له. أما في قصة زواج فالرسالة أكثر وضوحاً والوضع أكثر تعقيداً هذه المرة، لأنه مرتبطٌ بالمهنة وبالصورة الاجتماعية للممثلة النجمة، التي صارت لا تُرى إلا على ضوء أعمال زوجها. 

يميل التأويل السابق لتقديس حريات المرأة ورفض أي شكل من أشكال تلاشي شخصيتها المستقلة في دوامة العائلة والأمومة على وجه التحديد؛ الأمومة التي وجدت فيها نيكول المأوى الذي يمكن أن تمتلك فيه شيئاً ما وتستعيد فيه دورها في هذه العائلة من خلال ابنها: «هذا ابني، لي». ولعل ذلك يجعلنا نفهم بدقة أن معركة الحضانة كانت جزءاً هاماً من معركة استعادة الذات والقوة أمام الزوج. 

من جهة أخرى، يتلمّس المتفرّج تعقيد الانفصال في الفيلم، النابع من إظهار نقاط القوة والضعف لكل من الشريكين تشارلي ونيكول بالتوازي. فنرى تشارلي في الفيلم أباً محباً وعاطفياً، متعلقاً بعائلته ويبذل جهداً لاستعادتها، فينتقل من نيويورك إلى لوس أنجلس ويتخلى عن فرصة هامّة في عمله من أجل الحصول على حضانة ابنه. لو كان تشارلي أباً سيئاً أو عنيفاً في البيت، فلربما سهّلَ علينا أن نقف في صف الزوجة، لكنه ليس ذلك، وفي مشهد متقن وحسّاس، ولربما من أجمل المشاهد التي رأيناها في السينما خلال العام 2019، يتشاجر نيكول وتشارلي وجهاً لوجه، ويتقيأ كل واحد منهما كل ما يخبئه من أسباب منذ بدايات العلاقة، حول سلوكهما تجاه حياتهما العاطفية والزوجية وحول مستقبل طفلهما، رفقةً بكثير من اتهامات الخيانة وتصريحات موت الحب بينهما واللامبالاة التي أودت بهما حيث لا عودة ممكنة.

يمكن اعتبار هذا الفيلم بمثابة وقفة طويلة تأملية في مكان شديد الحرج والحساسية، يفصل بين معنى مُفردتَيّ الانفصال والطلاق، اللتين جرى استخدامهما للدلالة على المعنى ذاته، أي انتهاء العلاقة الزوجية. استطاع المخرج في هذا الفيلم رسم الخط الدقيق الفاصل بين الانفصال والطلاق، من خلال التناقض بين نصين في الفيلم، أولهما رسائل الشريكين التي تشي بالحب العميق الذي كان يوماً بينهما من جهة، ومن جهة أخرى حرب الطلاق التي يخوضها الشريكان.

يحاول الفيلم أن يجسد الانفصال في بعده العاطفي، عندما يحاول الشريك الخروج من دوامة الآخر؛ وأيضاً الانفصال في بعده الذاتي، عندما يقرر الشريك إعادة التفكير في خياراته والبحث عن هويته الأصلية بشكل مستقل عن الآخر. هذه هي المرحلة الصعبة التي تتأجج فيها نيران المعركة بين الطرفين، فيبدأ كل طرف بمراجعة كلام الآخر مراجعة دقيقة بأثر رجعي، منذ  اللقاء الأول وصولاً إلى النهاية، ليس من موقع العاشق، بل من موقع المغبون. كما تحتل البارانويا حيزاً كبيراً من كل المراجعات، وتتسع قدرة الدماغ لتذكر التفاصيل التي حدثت فعلاً وتلك التي لم تحدث. هذا هو الانفصال كما رأيناه في الفيلم، وهو بداية المعركة لتخلّص كل شريك من الآخر عاطفياً؛ أما الطلاق فهو الإجراء القانوني الذي يضع حداً لعقد الزواج، لا للحب بين الشريكين. اتفق كل من تشارلي ونيكول على أن يظلّا صديقين بعد الطلاق، إلا أن هذه الأكذوبة المتحضرة لم تكن -على الأقل- ممكنة أثناء إتمام معاملات الطلاق، وتوكيل محاميين يدعيان أبشع الإدعاءات على لسان كل طرف من العلاقة، لا سيما في وجود طفل يتنازع الشريكان على حضانته. 

الشفاء من العلاقة هو النهاية السعيدة التي يتطلع إليها كل من تشارلي ونيكول في الفيلم، وربما سيظل ذلك مستحيلاً بسبب الجروح التي خلفّتها في قلب كل منهما. ربما تكون نيكول محقة في كل كلمة واتهام وجهته لتشارلي، وفي وجهة نظر أخرى ربما يكون تشارلي محقاً؛ إلا أن ذلك كله لم يعد مهماً الآن. من المهم، في مفاصل معينة من العلاقة، الاقتناع بأن الحب في كثير من الأحيان يصبح عقيماً وغير مثمر. كان من الضروري لهذا الثنائي أن يُظهِرَ أبشع ما لديه من أجل إتمام مرحلة الطلاق، لكن بكاء تشارلي في نهاية الفيلم عندما يقرأ كلمات نيكول المحبة عنه، وانحناءة نيكول لتعقد له رباط حذائه، يجعلاننا نشعر أن الانفصال لا يمكن أن يحدث أبداً: «لا أصدق أني سأعرفك إلى الأبد».