خلال لقائي ببعض الناجيات من الاعتقال في سجون نظام الأسد، والقاطنات بريف إدلب الجنوبي، لأوثّق تجاربهنّ في مادة صحفية كنتُ سأعمل عليها، لفت انتباهي حديثٌ عن سيدة غير معتقلة بين عدة سيداتٍ ناجيات. وقد كان الحديث يجري عن مدى دعمها وتفاعلها مع الناجيات ومدى قوتها، وأساليبها وكلماتها المؤثرة. كان حب وإعجاب الموجودات لهذه السيدة الغائبة واضحاً جداً بالنسبة لي، إلى درجة دفعتني للبحث عنها ولقائها. أخيراً، تعرفت على السيدة غصون، التي استقبلتني في منزلها بحماس كما تستقبل أيَّ سيدة غريبة بحاجة للمساعدة، لكنني كنت بحاجة لسماع قصتها، كنت بحاجة لمعرفة السبب وراء حب السيدات لها وثقتهنّ بها. لم تكن غصون متوترة أو محرجة من رواية قصتها لسيدة غريبة، بل على العكس تماماً، كانت فخورةً بذلك. «أنا محاربة، وسوف أساعد النساء على محاربة الظلم والخوف والتردد، كما فعلت أنا، في سبيل حياةٍ حقيقية يرغبن بها حقاً». وقد دفعتني كلماتها الواثقة وقصة تحوّلها الجذري وكل ما تحدّته لأن أوثق تفاصيلها، وأضعها في متناول النساء الأخريات.
على طاولة بنيةٍ رثة، غارقة بين الأوراق، وبإمكانيات متواضعة، تقدم غصون خدماتها النفسية ودعمها لكل امرأة محتاجة. لا تقتصر خدماتها داخل جدران مكتبها فحسب، بل آمنت بالقضية انطلاقاً من نفسها لتحملها معها إلى كل مكان.
غصون سيدة أربعينية (45 عاماً)، مهجّرة من حي الوعر بمحافظة حمص، متزوجة ولديها ثلاث فتيات.
تعمل غصون في الدعم النفسي الاجتماعي (العنف القائم على النوع الاجتماعي) في النصف الأول من اليوم، وتعمل كأم وزوجة وصديقة في نصفه الثاني، حيث تساعد النساء الناجيات من الاعتقال. كما تدعم الناجيات من العنف واللواتي يتعرضن له. تقوم بالخطوات اللازمة مع كل حالة، فهي تنصح، تستمع، تواسي، تدعم وتُحيل. كانت غصون على مدار سنوات عاجزة عن مساندة نفسها حتى، عاجزة عن الكلام وعن إبداء رأيها في حياتها الشخصية. كانت عاجزة عن الحياة، عن الحلم، الطموح والتغيير. وكان ذلك داخل أسوار المنزل.
تزوجت غصون عندما كان عمرها ستة عشر عاماً. في ذلك الوقت تعرضت لأول صفعة من زوجها، وظنت حينها أن هذه هي الحياة الزوجية. كان سبب الصفعة الأولى، كما شرحت، عجزها عن إقامة علاقة مع زوجها ليلة الزفاف بسبب الدورة الشهرية التي زارتها في وقت غير مناسب بالنسبة لزوجها. حملت هذه الصفعة بعدها سنوات عديدة، وحملت السنوات صفعات أخرى وإهانات، وذلاً، وحرماناً، وألماً، وشوقاً لمَا كانت عليه حياتها قبل أن يقتحمها هذا الرجل!
حملت هذه السنوات التي قوبلت بالصمت والقبول القسري ليالٍ لا تُعد في أروقة المستشفيات وعلى أسرّتها، بسبب لوي ذراع أو انهيار عصبي أو إغماءٍ بفعل زوجها. وبدأ العنف والضرب يتنقّل تدريجياً في أرجاء المنزل مع أول مولودة أنثى، إلى الثانية والثالثة، وغصون أيضاً.
لطالما تساءلت عن سبب كره زوجها لها، عن سبب رفضه لوجودها، رغم أنه لم يُقحم في حياته أنثى غيرها، ولم يهددها بالطلاق أو الهجر.
لم تستطع غضون أن تتعرف على الحب أو العطف. لم تستطع أن تشعر بوجود شريك في حياتها، ولم تفهم شيئاً عن الزواج إلا الضرب. لم تكن شريكة قط، بل كانت وحيدة في تلك العلاقة. كانت بحاجة لحضن يحتويها، بحاجة لاختبار ذلك الشعور الذي تلاشى بعد خروجها من منزل والديها مجدداً.
وصفت غصون نفسها دائماً بأنها أنثى، جميلة وذكية، قادرة على العطاء. ولكنها بحاجة إلى ذلك الشعور، بحاجة إلى تلك التفاصيل التي يُفترض بها أن تكون موجودة في كل علاقة بين رجل وامرأة. كانت بحاجة إلى حبٍ لم تختبره مع زوجها أبداً. كانت بحاجة لأن ترى ابتسامة حين تنظر في المرآة، ولكنها لم تكن ترى سوى اللون الأزرق على عينها أو شفتها في معظم الأيام. كانت تظن أن زوجها ابتلاءٌ من الله لسوء طباعه وملافظه، ولكثرة ضربه لها بحجّة أسباب واهية، موجودة فقط من أجل أن يؤذيها.
«كان كل من حولي يحبونني، الجيران والأقارب والأصدقاء، السمّان في حيينا يحترمني جداً. حتى عائلته (عائلة الزوج) كانت تحبني وتشفق على حالي معه وتنصحني بالصبر، وكنت أصبر».
كانت غصون تسأل نفسها مراراً؛ ما الذي يريده؟ كيف ترضيه؟ كيف توقف العذاب وتحمي بناتها على الأقل؟ كيف تنجو؟
بعد فترة من زواجٍ تمثيلي، من زواجٍ وكأنه «مؤقت»، تعرضت عائلة غصون للتهجير القسري في الباصات الخُضر من محافظة حمص إلى الشمال السوري بفعل نظام الأسد، مثلها مثل عائلات كثيرة. اضطرت العائلة للرحيل وتحمل ساعات سفر طويلة وشاقة بلا سابق إنذار، بلا وداع وبلا استعداد، فقط كي تنجو. اضطرت للتأقلم قسراً في بيئة جديدة، وأجبرت غصون على تحمل كل مشاقِ التهجير المؤلمة وحدها، بلا حامٍ أو داعم أو سند.
وجدت غصون نفسها فجأة تعيش بأدنى مقومات الحياة، بالإضافة للذل والعنف: منزل خال من كل شيء، حالة مادية صعبة للغاية، وحالة معنوية مدمرة. كانت بلا أقرباء أو أصدقاء، بلا أحد. كانت تجد نفسها مسؤولة، مسؤولةً جداً ومجبرة على أن تكون قوية لأجل بناتها، ولأجل حياتها في حمص، التي تركتها مرغمة خلفها. كانت تبحث عن حل لتخطي هذه المرحلة «الأصعب»، خصوصاً بعد توقف زوجها عن العمل، حيث كان يعمل في مجال الألبسة المستعملة (البالة)، والتي لا تعطي مردوداً جيداً كما قالت. وفي هذه الأثناء، وجدت غصون نفسها مرغمةً على حمل أعباء الأسرة بشكلٍ كامل. تمردت وتحملت العنف وأصرت على إكمال تعليمها، والتحقت بعد ذلك بكلية الآداب (لغة إنكليزية) في جامعة حلب الحرة في محافظة إدلب، وبدأت تدرس وتبحث عن عمل.
حينها، بدأت غصون تصادف الناس، وتقيم صداقات وتجمع المعارف. وجدت نفسها محبوبة جداً ومرغوبة في المجتمع الذي تعيش فيه. لم تستلم وأخذت تعيش حياةً مزدوجة، داخل المنزل وخارجه، إلى أن وجدت عملاً يعينها في طريقها. حيث بدأت تعمل كعاملة دعم نفسي- اجتماعي للناجيات من الاعتقال والعنف في منظمة محلية في ريف إدلب بعد خضوعها لتدريباتٍ عديدة؛ «أجمل الأوقات في يومي هي عندما أكون هنا مع فريقي في العمل، خصوصاً عندما نجتمع ونشرب القهوة صباحاً ونتحدث عن أمس ونضع خطة لليوم، ذلك يُشعرني أنني حيّة وموجودة، أشعر باحترام الجميع لي وبحب النساء اللواتي أساعدهن يومياً»، تقول غصون.
مع شروعها في العمل، بدأت غصون بالتعرف على الحياة لأول مرة، بدأت تتعرف على نفسها وتُقدّرها، واكتشفت في شخصيتها جوانب عديدة كانت تجهلها وبدأت بإظهارها، رغم القصف والتهجير. كانت تتحمل إلى جانب ويلات الحرب ويلات أخرى أشد وأعنف، وكانت تخفي كل ذلك، تسمع وتتألم وتطيع.
بدأت مع عملها عصراً جديد، عصراً أصبحت فيه الداعمة والمساندة والمُعيلة، وحافظة وكاتمة لأسرارٍ من شابهنها في المصير أو «النصيب». أعادَ العملُ لها كبريائها، وعزَّزَ ثقتها بنفسها بعد أن كانت تظن أنها «مهزوزة» وضعيفة الشخصية.
لم تجرب غصون الحب في حياتها أبداً، فهي لم تحب أحداً قبل زواجها، ولم تحب زوجها أيضاً طيلة السنوات التي مضت وتلك القادمة، ولكنها كانت تتمنى أن تشعر بالحب وأن تكتشف معناه. كانت مستعدة لنسيان كل الأذى والألم النفسي والجسدي الذي سببه لها زوجها مقابل لحظة حب، مقابل كلمة أو شعور. كانت تشعر بالحسرة عند حديث النساء عن أزواجهن وعلاقاتهن الجميلة والمميزة، وكانت تبكي سراً أحياناً من مشهد حب تمثيلي في فيلم، كانت تتمنى أن تُحب وأن تتكلم عن ذلك. ولكنها رغم كل شيء سعيدة بإنجازٍ واحدٍ فقط حصلت عليه من هذا الزواج، وهو بناتها؛ «ينصحني كثيرون بمراجعة الطبيب لعلّي أحمل من جديد بصبي يسعد زوجي أملاً بتغيّره معي، ولكني أخبرهم دائماً أنني أرى بناتي أفضل من مئة صبي. ليس لأنني لا أحب الصِبية، بل لأني فخورة بهنّ وبما أصبحنَ عليه اليوم، متفوقات في دراستهن وناجحات»، تخبرنا غصون.
حتى الآن، لم يتوقف العنف -بكافة أشكاله- في حياة غصون، ولكنها أصبحت قادرة على رفع صوتها في وجهه، قادرة على أن تقول لا، وأن ترفض بثقة وبلا خوف وأن تتخذ موقفاً. أصبحت، بعد استقلاليتها مادياً ومعنوياً، قادرة على أن تأخذ القرار الذي يناسبها، حتى لو كان ذلك بخصوص وجبة الغداء مثلاً. هذه القوة التي لم تعهدها غصون سابقاً بدأت تضع حدوداً أمام زوجها وتمنعه من رفع يده في وجهها. بدأت تجبره على تقبل أنَّ لها كياناً مستقلاً، أنها إنسانة وسيدة وأنثى، ومن حقها أن تعيش كما تحب، وأن تقرر ما تريد وأن تقول ما تشعر به وأن تُحَب وتُحتَرم. تروي غصون: «منذ أيام كنت أعد العشاء، وكانت ابنتي تخبرني بيومها في المدرسة وتضحك، فصاح والدها عليها لأن صوتها مرتفع وناداها لتأديبها، فخرجتُ وقلت له بثقة إنها تحادثني أنا وإن صوتها ليس عالياً، فصمت. شعرتُ في تلك اللحظة أنني أقوى إنسانة على وجه الكون، فهذا الموقف أخذ مني سنوات ليصبح كما هو عليه اليوم. شعرتُ بالانتصار».
أيقنت غصون أن سنوات عديدة كانت قد ضاعت من حياتها، بين تلبية رغبات زوجها وبين حبسه لها، وبين حرمانها من رؤية العالم ومن العيش، ولكنها قررت أن تضيع السنوات المقبلة وحدها مع فتياتها، بين العيش والحلم والعمل والطموح والنجاح. قررت أن تترك العنف خلفها، وتجرأت بعد كل ما تعرضت له على أخذ قرار الانفصال والابتعاد عن الأذى. فقد وجدت نفسها أخيراً حرة، مستقلة ومُنتجة. أصبحت أقوى، أكثر جرأة. لم تعد تهابه، أو تخشى أن تأخذ قراراً في حياتها الخاصة. كل ما مرّت به من أوجاع «جعلها أقوى»، أكثر إصراراً وحرصاً على أن تعيش أخيراً وأن تجد الهناء والطمأنينة.
أخذت غصون وقتها في البحث عن منزلٍ خاصٍ بها وببناتها في منطقة مختلفة، واختارت أثاثه وألوانه كما تمنت دوماً، وأعطت عنوانه لمن تحبهم وتثق بهم، وبقيت فقط الخطوة الأخيرة، التي تفصلها عن حياتها الحقيقية، وهي الانفصال؛ الخطوة التي تنتظر الوقت المناسب لها دون أن تتأثر الفتيات، ودون أن تخشاها بعد اليوم، ودون أن تخشى زوجها الذي بات واثقاً أنها النهاية، واستسلم للواقع كما شرحت.
«سآخذ بناتي ونعيش بعيداً عنه. أنا اليوم قادرة على تأمين حياة مميزة لهنّ، قادرة على حمايتهنّ من الضرب والعقد النفسية والكره. أريد لهنّ الشجاعة وقوة الشخصية والاستقلالية، وأن يقررن ما يجدنه مناسباً عندما يكبرن كما أصبحت أنا اليوم، قوية وناجية»، تقول غصون، وترى أن من حق كل سيدة وفتاة أن تعيش في بيئة آمنة، وأن تعبّر عن رأيها وشعورها دون أن تندم لاحقاً. من حق الانثى أن تعيش طفولتها وتتعلم وتؤسس بنيان حياتها وتضع «الديكور» الذي يناسبها هي فقط، وأن تتسلح بالعلم والاستقلالية المادية لتشق طريقها بثقة. على كل أنثى أن تحارب وتقف في وجه العنف، وتنجو.