«ويلٌ لي لأنني ما زلتُ على قيد الحياة حتى أتجرّع كأس السُمّ بموافقتي على اتفاقية وقف إطلاق النار… وكم أشعر بالخجل أمام تضحيات هذا الشعب…».

الإمام الخميني، من خطاب بتاريخ 18 تموز 1988، يعلن فيه قبول إيران قرار وقف إطلاق النار رقم 558، وإنهاء الحرب العراقية الإيرانية

******

تفتح العملية الأميركية التي تم من خلالها اصطياد قاسم سليماني أبواب احتمالاتٍ عديدة، وهي كانت عملية كبرى في هدفها، وفي تخطيطها وتنفيذها وارتدادتها المحتملة، وكبرى أيضاً في دلالاتها الرمزية، سواء لجهة العودةٍ العنيفة والعلنية للقوة المتغطرسة الأميركية إلى المنطقة، أو لجهة محدودية القوة لدى جميع اللاعبين الإقليميين، وإيران على وجه التحديد.

بعد العملية المُذِلّة في كافة تفاصيلها، تشقّقت الصورة التي دأبت إيران على رسمها لنفسها كقوةٍ جدية، قادرة على مناطحة الأميركيين والوقوف في وجههم بصورة تشبه مواجهات الكاوبوي في أفلام هوليوود، التي يخسر فيها من يفقد رباطة جأشه أولاً. وقد جرّبت إيران أن تلعب وفق قوانين اللعبة التي بدأت تتجذّر، بصورةٍ عملية، بعد الانهيار العلني لخط أوباما «الأحمر» نتيجة استخدام طفل إيران المدلل، نظام بشار الأسد، للسلاح الكيماوي عام 2013، تحت أنظار وإشراف القوة الإيرانية، التي كانت لا تزال وقتها القوة الأجنبية الوحيدة على الأرض السورية، قبل الدخول الروسي وانحسار مركزية الدور الإيراني، في العام 2015: إيران متمدّدة قوية، تضرب الخواصر الرخوة لحلفاء واشنطن كالسعودية ودول الخليج الأخرى دونما قلقٍ أو حسابٍ لردٍ محتمل، كما تمسك بخناق العملية السياسية في أربعة بلدان عربية، في عملية تجذير وتكبير طَموحة لنفوذ مُتعاظم. كانت السياسة الأوبامية هي التي رسّخت القبول الأميركي والغربي بهذه المعادلة، وإن على مضض، في مقابل تأمين التوقيع على الاتفاقية النووية مع إيران، بحيث استغلّت إيران الفراغات التي سمحت بها هذه السياسة وراحت تملؤها بمشروعها التوسّعي. لكن مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض كان إيذاناً بانتهاء هذه السياسة.

ثمة كثيرٌ مما يمكن قوله عن طيش ترامب، وعن نقص الرويّة والرزانة، لا بل والحماقة وقِصَر النظر حتى، في تعبيره عن السياسات الخارجية الأميركية، وفي إدارتها وتنفيذها. هذا كلّه صحيح، وتوجد عليه أمثلة وأدلّة واضحة في كل ما يقوله ويفعله الرئيس الأميركي، غير التقليدي بالمرة. فهو يؤذي الحلفاء التقليديين، ويهدد المؤسسات والمنظومات والتوازنات الدولية التي بنتها أميركا بنفسها بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تأسَّسَ عليها استقرار النظام الدولي ومصالح أميركا نفسها. لكن من الواضح، كذلك، أن دونالد ترامب يشكّل تغييراً صارخاً في نهج السياسة الخارجية الأميركية التي رسمها أوباما؛ تلك السياسة القائلة بالانسحاب الاستراتيجي من منطقة الشرق الأوسط، وتخفيض رتبة المنطقة وشؤونها وتطوراتها على سلّم الأولويات الأميركية الاستراتيجية والأمنية، وترتيب شؤونها بالاشتراك ما بين قوة دولية فاعلة وقادرة على فرض «القانون» (روسيا)، وبين أصحاب المصلحة المباشرين في نفط وأمن المنطقة (الأوروبيين، أصحاب الجوار الجيو-استراتيجي المباشر)، وبين مجموعةٍ من الوكلاء المحليين المحتملين (إسرائيل، تركيا، السعودية، وإيران غير نووية -لم لا؟-). 

يمثّل دونالد ترامب اتجاهات في «الإيستابليمشنت» الأميركي تؤمن بمبادئ سياسات القوة التقليدية، سياسات المعادلات الصفرية: ربحك هو خسارة لي، وبالعكس. وهذا المبدأ، أو العقيدة حتى، يكاد يكون الثابت الوحيد في نظرة إدارة ترامب إلى الولايات المتحدة ودورها في العالم، وإلى ضرورات ترتيب النظام الدولي والعلاقات مع باقي الدول والهياكل الدولية، بصرف النظر عن أية نُظم أو تقاليد دبلوماسية أو أعراف استقرّ التعامل بها في النظام الدولي بعد العام 1945، وخصوصاً بعد سقوط المعسكر الشيوعي في العام 1991. وهو الأمر الذي يمكن متابعته في سلسلة سياساته التي تبدو وكأنها مرتَجلة وغير مخطّطة، كما يفعل في حربه التجارية تجاه الصين بهدف إخضاع الاقتصاد الصيني لضوابط أميركية، أو كما يبدو في سلسلة تغريداته التي تهدد بإنهاءٍ فعليٍ للناتو إذا لم تَقُم الدول الأعضاء الأخرى بدفع مستلزماتها وزيادة مساهماتها، وإلى آخر هذه السياسات المعروفة.

إذن، يمكننا فهم التصعيد الأميركي الحالي ضمن إطار هذا الثابت الوحيد في نهج ترامب وإدارته؛ نهج فرض السطوة والقوة، نهج فرض الهيمنة عاريةً دون تنميقٍ أو تزويق، نهج «نحنا الدولة ولاك». فبعد أن جرّبت إيران أن تخوض حربَ اعتراضها على الخروج الأميركي أحادي الجانب من الاتفاقية النووية، بتصعيدٍ ممنهج مستندةً إلى قواعد اللعبة السابقة، بدأ ترامب بسحب الأوراق السهلة من يد صانع القرار الإيراني: بدأت إيران ترسل إشارات تقول إنها على وشك الاتفاق مع الأوروبيين والروس لتجاوز العقوبات الأميركية المفروضة عليها، وإذ بحزمةٍ أشد تفرض عقوباتِ مشددةٍ على كل من يتعامل مع إيران بأية طريقة. قرّرت إيران اللجوء إلى لعبة التصعيد على الأرض في العراق، فقتلت (بالخطأ، على الأغلب) متعاقداً أميركياً، فما كان من القوات الأميركية إلا أن استهدفت آمر العملية من ميليشيا حزب الله العراقي في رسالة ردعٍ واضحة إلى مشغّله الإيراني. ثم قرّرت إيران على ما يبدو أن تختبر جدية الولايات المتحدة، عبر القيام بردٍ ثأريٍ يحفظ ماء وجهها أمام جمهورها، فقامت حشود من جمهور ميليشيات إيران في العراق بتحرّكٍ مسرحي أمام السفارة الأميركية في بغداد، في مشهدٍ بدا أن القصد منه هو التذكير بعملية احتلال السفارة الأميركية في طهران عام 1979؛ وإذ بالرد الأميركي القاصم يجيء عبر استهداف موكب الجنرال قاسم سليماني، مهندس هذه وسواها من العمليات الإيرانية، ومن معه، في عمليةٍ استخبارية وعسكرية ضخمة وبالغة التعقيد.

ليس قاسم سليماني، بكل تأكيد، مجرد عضوٍ عاديٍ في سلسلة القيادة العسكرية الإيرانية، أو موظفاً عالي المستوى في إمرة الولي الفقيه؛ ليس مجرد واحدٍ من بين عديدين. فجميع المعلومات المتوافرة عن دوره، والتي يمكن الاستدلال عليها من صعود نجمه في ماكينة البروباغندا الإيرانية ومستتبعاتها «المُمانِعة»، تؤكد على محوريته في إدارة مشروع طهران التوسّعي في المنطقة العربية. وبالإضافة إلى مقدراته العسكرية، ومهاراته التكتيكية في إدارة العمليات التخريبية الموجّهة، وفي تحشيد المقاتلين وتسليحهم وتدريبهم وتوزيع قياداتهم؛ لا بد من الإقرار بعبقرية الرجل الشريرة في إدارة «مَلشَنة» الدول التي تخضع للسلطان الإيراني، بحيث يتم تفريغ هيكل الدولة من كل مضمونه، وتبقى واجهاتها تغطّي، بالكاد، على هيمنة قوى غير نظامية يمسك بتمويلها وإدارتها النظام الإيراني عبر مفتاح الرجل الأهم: قاسم سليماني. كان الرجل موجوداً في الإعلام، وفي المحادثات السرية مع زعماء الدول التابعة في غرف القصور، وعلى الخطوط الأمامية مع مقاتلي الميليشيات، يوجّه ويخطّط ويشرف على التنفيذ. كل هذه العوامل، تجعل من اقتلاعه، وبهذه الطريقة الدراماتيكية، صفعةً موجعةً للنظام الإيراني.

تكاد محاولة توقّع الرد الإيراني، الذي تصاعَدَ الوعيدُ الإعلامي به بأصواتٍ حادةٍ في طهران وضاحية بيروت الجنوبية وصحف وتلفزيونات محور «الممانعة»، تصبح الشغل الشاغل للجميع في المنطقة، سواء أصحاب السلطة والقرار، أو المحللين والمعلّقين، أو الناس العاديين. فثمة خوف من تداعيات ردٍ إيرانيٍ يكاد الجميع يراه محتوماً، وما يمكن أن يتبعه من احتمالات اشتعالٍ كبرى في المنطقة.

وإيران، كما ورد على لسان أحد المعلّقين الفلسطينيين «الممانعين» على قناة العالم الإيرانية ليلة مقتل سليماني، مُلزمةٌ «بالرد الملائم، وإلا انفرط عقد محور الممانعة كلياً». تأتي هذه الكلمات تعبيراً دقيقاً عن أزمة النظام الإيراني الحالية مع تصعيد ترامب المذهل: إما الامتناع عن الرد، أي «الانتحار» سياسياً؛ وإما الرد بأية صورةٍ من الصور والدخول في باب احتمال «الانكسار» أمام القوة الأميركية الطاحنة. الأمر ليس مسألة عدم وجود خيارات لدى إيران، فهي تملك كثيراً من إمكانيات الردود المحتملة: ضربات كبيرة أو صغيرة لأيٍّ من المصالح أو القواعد الأميركية بارزة الحضور في المنطقة العربية؛ أو ضرب شخصيات عربية محسوبة على واشنطن؛ أو تفجيرات في بلدان خليجية ذات وجود شيعي بهدف استحضار إمكانيات عنف طائفي؛ أو عمليات ضد مصالح إسرائيلية أو يهودية في أماكن متعددة من العالم، بهدف استعادة المصداقية «المُمانِعة» وإسكات الأصوات المعترضة على إيران وفق منطق «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». على أن البون شاسعٌ بين وجود الاحتمالات وبين إمكانية تنفيذ أيٍ منها، والأهم، كلفتها في مقابل الفائدة المرتجاة منها في الأصل، ذلك أنّ إيران المحاصرة اقتصادياً، تزداد كذلك عزلةً سياسيةً عمّن يمكنهم دعمها أوروبياً، وحتى عن الروس والصينيين الذين لم يقدّموا أكثر من التصريحات المندِّدة الشاجبة. تكمن مصيبة أيٍ من عمليات الرد الإيرانية، حتى لو تمّت عبر أحد أذرعها «الحليفة» في العراق أو لبنان أو اليمن، في أن الرد الأميركي سيكون على إيران نفسها هذه المرة، وهو سيكون رداً قاسياً للغاية كما تُظهِرُ عملية اصطياد سليماني.

لا نعلم إن كان هناك في إيران من يملك اليوم شرعية الإمام الخميني نفسها، لكي يأخذ القرار الأصعب بـ «تجرّع السمّ»، والقبول بالإملاءات الأميركية بتقليم امتدادات إيران الإقليمية والانكفاء إلى داخل حدودها، على أن الواضح هو أن دائرة الاختيارات تضيق بصورة جديّة، وأن كأس السمّ المترعة تبدو وكأنها على وشك أن تُفرَغَ في حلقوم من يملكون اتّخاذ القرار في طهران.