بدأ العام 2019  مع استمرار التأثير الذي أحدثه إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في العشرين من كانون الأول (ديسمبر) 2018، عن سحب قوات بلاده من سوريا. لم يتم تنفيذ هذا القرار وقتها، لكنه قاد إلى أوضاع بات فيها سحب القوات الأميركية لا يختلف كثيراً عن بقائها على الصعيد الفعالية السياسية. وبالفعل، لم ينته العام حتى كانت الولايات المتحدة قد سحبت قواتها من شمال وغرب الجزيرة السورية، مفسحةً المجال أمام عملية عسكرية تركية امتدت لأسابيع، سيطرت خلالها القوات التركية وقوات سورية تابعة لها على مساحات من المنطقة، الأمر الذي تسبب بنزوح عشرات الآلاف ومقتل وإصابة مئات المدنيين.

الانسحاب الأميركي لم يكن من الأرض فقط، بل من المسار السياسي الذي تم تركه تحت إدارة موسكو، التي أسفرت جهودها المطولة عن بناء دهاليز معقدة لا نهاية لها للمسار السياسي، منها ولادة اللجنة الدستورية باعتبارها الابنة غير الشرعية لمؤتمر سوتشي ومسار جنيف، والتي قُسّمت مُثالثة بين النظام السوري (الذي لم يعترف رسمياً بتمثيل وفده لحكومته) والمعارضة (ممثلةّ بالهيئة العليا للمفاوضات) وشخصيات من المجتمع المدني سمّتهم الأمم المتحدة (مناصفةً أيضاً بين المقربين من النظام والمعارضين له).

ومع اقتراب العام 2019 من نهايته، تطفو على السطح مجدداً الانقسامات داخل المعارضة السياسية السورية، بعد دعوة السعودية ثمانين مستقلاً لانتخاب ممثلي المستقلين ضمن الهيئة العليا للمفاوضات، واعتراض نصر الحريري وعدد من الشخصيات في الهيئة العليا للمفاوضات على هذه الدعوة، في تعبير متجدد عن الخلافات بين السعودية وتركيا. أما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في إدلب والأرياف المحيطة بها، فقد بدا المشهد أقلّ انقساماً بين الفصائل المسلحة المعارضة المسيطرة على المنطقة خلال العام 2019، ولكن ليس نتيجة غياب الخلافات، بل نتيجة اتساع هيمنة هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) على المنطقة بعد معارك مع الفصائل المناوئة لها، لتفرض لاحقاً، وبقوة السلاح، نفوذ حكومة الإنقاذ التابعة لها على معظم المجالس المحلية والهيئات الإدارية المستقلة العاملة في المنطقة، وتبدأ تلك الحكومة بفرض الضرائب على السكان وأخذ الأتاوات بقوة سلاح الهيئة.

وبالتوازي مع هذا، تعرضت مناطق في ريف إدلب وريف حلب الغربي وريف حماة الشمالي والغربي لعمليات عسكرية وموجات قصف وحشية، لم تهدأ إلّا لأسابيع متقطعة طوال العام تقريباً. قرابة المليون مدني سوري اضطروا للنزوح في العام 2019، وكثيرون منهم لا يتوقعون العودة إلى منازلهم المحتلة أو المدمرة في أي وقتٍ قريب.

إدلب والجزيرة السورية تحت النار

بدأ عام 2019 مع بسط «هيئة تحرير الشام»  نفوذها شبه المطلق على محافظة إدلب والأرياف المحيطة بها، بعد تصفية عدد من الفصائل المناوئة لها مثل «حركة نور الدين الزنكي»، وإضعاف أخرى حتى اقتربت من التفكك النهائي كما حدث مع «حركة أحرار الشام»، وترك فصائل غيرها في أوضاع لا تملك فيها أي نفوذ يذكر مثل «فيلق الشام» و«جيش إدلب الحر». ولم يكن لتوحد ما بقي من فصائل تحت اسم «الجبهة الوطنية للتحرير» أي أثر يذكر على ترتيب القوى في المنطقة، رغم الدعم التركي لتلك الفصائل، وعلى الأرجح بسببه.

كان تغوّلُ الهيئة على إدلب ذريعة جاهزة للاستخدام من موسكو ونظام بشار الأسد، لبدء عمليات قصف وحشية على جنوب وشرق إدلب في شهر شباط (فبراير)، تبعته عمليات عسكرية برية نهاية شهر نيسان (أبريل)، أدت إلى سقوط قرى وبلدات في ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي مثل كفرنبودة بيد قوات النظام، التي استطاعت قبيل توقف الأعمال القتالية نهاية شهر آب (أغسطس) احتلال مدينة خان شيخون جنوبي محافظة إدلب التي كانت قد تعرضت للاستهداف بالسلاح الكيميائي في شهر نيسان (أبريل) من عام 2017، ثم بعدها سائر بلدات وقرى ريف حماة الشمالي وأبرزها مورك واللطامنة وكفرزيتا.

على مدى ثلاثة أشهر، بين نيسان وآب، تعثّرت حملة النظام على ريفي إدلب وحماة جرّاء مقاومة شديدة خاضتها بشكل أساسي فصائل محلية مثل «جيش العزّة»، الذي ينتمي معظم مقاتليه إلى قرى ريف حماة الشمالي، وكان هو الفصيل الذي قاتل معه الساروت قبيل استشهاده على جبهات حماة. إلا أن عمليات القصف المركّزة التي نفذها الطيران الروسي وقوات النظام، قادت إلى انهيار الخطوط الدفاعية في محيط خان شيخون ثم في ريف حماة.

وعلى الرغم من أنّ النظام لم يستطع التقدم كثيراً في عمق مناطق سيطرة فصائل المعارضة، إلا أنّ تأثير حملة المئة يوم تلك على الفصائل المحلية كان كبيراً جداً، إذ خسر فصيل «جيش العزّة» الأرض التي ينتمي إليها معظم مقاتليه، وهو كان الفصيل الأخير في سوريا الذي لا ينتمي إلى الفصائل الجهادية، وليس منضوياً في تحالفات الفصائل التي تتلقى دعماً وتوجيهاً تركيا مباشراً.

قبيل بدء المعارك في إدلب، كانت «قوات سوريا الديموقراطية» قد بدأت المعركة ضد آخر معاقل تنظيم داعش في قرية الباغوز أقصى شرقي محافظة دير الزور، التي انتهت بالقضاء على التنظيم بشكله القديم الذي تمثَّلَ بالسيطرة المباشرة على أراضٍ واسعة في سوريا والعراق، لتكون العملية العسكرية الأميركية التي انتهت بمقتل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي نهاية شهر تشرين الأول (أكتوبر) إعلاناً عن هزيمة التنظيم، وانتقاله إلى طور الكمون الطويل، الذي يشبه إلى حد بعيد ما انتهى إليه وضعه بعد مقتل زعيمه السابق الزرقاوي في العراق.

أدت سيطرة قسد على الباغوز قبل نهاية شهر آذار (مارس) إلى بسط سيطرتها على كامل الجزيرة السورية، التي عرفت إعلامياً باسم منطقة شرق الفرات، وهو ما أدى إلى ارتفاع صوت احتجاج أنقرة التي رأت في وجود قسد على حدودها تهديداً لما تعتبره «أمنها القومي». وقد أدت هذه الأوضاع المتفجرة في النهاية إلى بدء تركيا عمليات عسكرية ضد منطقة الجزيرة السورية، بعد انسحاب أميركي مفاجئ وسحب ترامب للغطاء السياسي والعسكري الذي قدمته واشنطن طوال السنوات الماضية للمنطقة الشرقية في سوريا، أمام تقدم الجيش التركي وقوات الفصائل السورية التابعة لأنقرة، وهو ما أسفر عن سيطرة أنقرة على المنطقة الممتدة بين مدينة رأس العين في محافظة الحسكة ومدينة تل أبيض شمالي محافظة الرقة، وعلى القرى والبلدات المحيطة بهما بعمق يصل إلى 25 كم، ثم توقّف الأعمال العسكرية الرئيسية بعد اتفاقين منفصلين أبرمتهما الحكومة التركية مع كل من واشنطن وموسكو، ضمنت من خلالهما اعتراف الجهتين بنفوذها شمالي الجزيرة السورية.

لم تؤدِ العملية العسكرية التركية إلى إنهاء وجود قسد، ولم تستطع أنقرة السيطرة على مساحة أوسع لتُنشئ ما أسمتها «المنطقة الآمنة» بهدف ترحيل اللاجئين السوريين إليها كما وعد الرئيس التركي. بالمقابل، فإن التراجع الأميركي أمام العمليات العسكرية التركية، وسحب الغطاء العسكري الذي وفرته شمال شرق سوريا، ترك تأثيرات واسعة على الاستراتيجية التي وضعتها واشنطن لوجودها في سوريا.

لم ينته العام 2019 قبل أن يعود كل من نظام بشار الأسد وروسيا إلى قصف إدلب، وبدء موجة ثانية من الأعمال العسكرية التي تسببت بكارثة إنسانية مستمرة حتى اللحظة في محافظة إدلب، فيما انهارت دفاعات الفصائل بشكل متسارع جنوب شرق إدلب ليسيطر النظام على عدد كبير من القرى والبلدات، منها بلدتا التحّ وجرجناز، ويصل إلى بعد أربعة كيلومترات من مدينة معرة النعمان التي نزح معظم سكانها.

مليون نازح في 2019

قبل أيام، قامت كل من موسكو والصين باستخدام حق النقض «الفيتو» ضد تجديد قرار «عبر الحدود» الذي أقره مجلس الأمن خلال الأعوام السابقة، بهدف السماح بتمرير المساعدات الإنسانية من خلال منظمات الأمم المتحدة عبر حدود سوريا من دون موافقة النظام، وكان هذا القرار حيوياً في تمرير المساعدات الإنسانية وتوفير الدعم لعمل المنظمات الإنسانية في عدد من المناطق هي إدلب ومحيطها ودرعا قبل احتلالها من النظام السوري عام 2018، ومنطقة الجزيرة السورية.

وفي حال عدم إيجاد صيغة جديدة للقرار بحيث يمكن تمريره عبر مجلس الأمن، فإن العمليات الإنسانية والبرامج المدعومة من قبل الأمم المتحدة ستتوقف مع بداية العام الجديد، ما يعني توقف جزء كبير من الدعم الذي يتم توفيره للمنظمات الإنسانية العاملة في سوريا من خلال منظمات الأمم المتحدة، هذا من دون الحديث عن احتمال توقف الهيئات الدولية الكبرى مثل GIZ التابعة للحكومة الألمانية عن دعم مشاريع في إدلب نتيجة تعثر قرار «عبر الحدود». وفي الوقت الذي كانت فيه استجابة الأمم المتحدة ضعيفة للغاية أمام كارثة النزوح السوري، فإن توقف الدعم عن العمل الإنساني يعني ترك مئات الآلاف من النازحين في العراء من دون أي مساعدة. 

طوال العام الماضي، أدت العمليات العسكرية في كل من إدلب والجزيرة السورية إلى نزوح مئات الآلاف، فقد نزح أكثر من 600 ألف نسمة من المدنيين في إدلب بين شهري أيار وآب حسب تقديرات الأمم المتحدة، فيما نزح خلال أقل من أسبوعين أكثر من مئتي ألف مدني في الجزيرة السورية نتيجة العملية العسكرية التركية التي بدأت في شهر تشرين الأول (أكتوبر)، ووثَّقَ مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة نزوح 180 ألف نسمة من جنوب إدلب نتيجة عودة العمليات العسكرية منذ شهر تشرين الثاني (نوفمبر). نحو مليون سوري اضطروا للنزوح من بيوتهم، في أوضاع مأساوية، ولا يبدو أن هناك أي تحرك دولي أو استراتيجية لاستيعاب هذه الكارثة الإنسانية حتى على مستوى تقديم المساعدة.

ربما تؤدي هذه الأوضاع في مرحلة ما خلال العام المقبل إلى عجز تام للمنظمات الإنسانية عن التعامل مع المأساة، وهو ما سيعني أنّ النازحين الموجودين في العراء أو في مخيمات عشوائية في ظروف غير إنسانية، سيواجهون أوضاعاً لا تُحتمل، ربما تدفعهم إلى مواجهة نيران حرس الحدود التركي للعبور نحو تركيا في طريقهم إلى أوروبا، وهو ما قد يكون له أثرٌ كبيرٌ على السياسات الدولية في المنطقة، التي يبدو أنها يمكن أن تتسامح مع أي شيء باستثناء موجة لجوء واسعة جديدة نحو البر الأوروبي.

لم تتوقف الانتهاكات ضد المدنيين السوريين طوال العام، سواء في مناطق سيطرة النظام أو في مناطق سيطرة سائر الجهات الأخرى. وقد استطاعت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقارير مفصلة ستقوم بنشرها لاحقاً، توثيق مقتل 3364 مدنياً في سوريا خلال العام 2019، بينهم 842 طفلاً، كانت قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية والقوات الروسية مسؤولة عن مقتل 1949 منهم. كما وثّقت الشبكة مقتل 26 من الكوادر الطبية و17 متطوعاً في الدفاع المدني و13 إعلامياً في سوريا، ووثّقت أيضاً 4671 اعتقالاً تعسفياً، كانت قوات النظام وأجهزته الأمنية مسؤولة عن قرابة 60% منها.

,

مسار موسكو السياسي

بدأ العام المنقضي بتعيين الأمين العام للأمم المتحدة مبعوثاً أممياً جديداً إلى سوريا، بعد استقالة ستيفان ديمستورا المبعوث الأممي الذي سجّل الفترة الأطول في المنصب بين سابقيه. وبينما كان الدبلوماسي النرويجي غير بيدرسون يتحضر لمباشرة مهامه، كانت طرق المسار السياسي في سوريا قد وصلت إلى نقطة مسدودة تماماً، فالنظام وموسكو غير مستعدين لتقديم أي تنازل مهما صغر ضمن جولات مفاوضات جنيف المدعومة من الأمم المتحدة والدول الغربية ودول المجموعة المصغرة (تضم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والسعودية بالإضافة إلى دول أخرى).

بالمقابل، لم تستطع روسيا إقناع الولايات المتحدة أو أي طرف غربي بالموافقة على المسار الذي اخترعته في سوتشي. وفي تلك الأوضاع، كان بيدرسون كمن يجلس في غرفة الانتظار، إلا أن الموافقة الأممية والأميركية على بدء عملية تفاوض على كتابة دستور جديد لسوريا، كانت المخرج الجديد للمسار السياسي، إلا أنها في الواقع كانت انتصاراً لموسكو التي حصلت على جائزتها من خلال خلق مسار سياسي غير واضح المعالم ومن دون أي آثار قانونية فعلية (النظام السوري لم يعترف بالتمثيل القانوني للوفد الذي دعمه)، للدخول في دهاليز لا نهائية من التفاوض على تفاصيل هامشية، بينما يستمر النظام في قتل السوريين.

كان مشهد إعلان اللجنة الدستورية تعبيراً شديد الوضوح عن ولادة إطار جديد للمسار السياسي في سوريا، ليس روسياً خالصاً كما كان الأمر في سوتشي، إلا أنه في النهاية يحقق ما أرادته روسيا من قتل العملية التفاوضية، ووضع النظام على الطاولة إلى الأبد.

بالمقابل، فإن الرفض الواضح لإعادة تعويم النظام أو الاعتراف به من قبل الولايات المتحدة، كان أداة الضغط الوحيدة على النظام طوال العام الماضي، ومع ذلك لم تستطع المعارضة السورية، التي دخلت ضمن النفوذ التركي، أن ترفض الانخراط في المسار الجديد للجنة الدستورية، التي طال الحديث عن تركيبتها وأسماء أعضائها لأكثر من عام، مع غياب شبه تام للقوى السياسية الكردية عنها.

أما دعوة الخارجية السعودية مؤخراً لثمانين مستقلاً لانتخاب ممثليهم مجدداً في الهيئة العليا للمفاوضات، فقد كانت التعبير الأوضح عن انعكاس الخلافات بين أنقرة والرياض على المعارضة السورية الرسمية، الأمر الذي قد يؤدي إلى انقسام تلك المعارضة بشكل كامل ومُعلن بين طرفي النزاع الإقليمي.

جاء إقرار مجلس الشيوخ الأميركي لقانون حماية المدنيين في سوريا (قانون قيصر)، ثم توقيعه من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ليكون الجدار الأخير أمام إعادة تعويم النظام وتمويل عملية إعادة الإعمار ضمن مناطق سيطرته، إلا أن كل ذلك لا يزال مرتبطاً بمواقف ترامب وصراعه الأكبر مع إيران التي تتعرض لعقوبات مشددة منذ بداية 2019، أدت إلى توتر كبير في منطقة الخليج العربي. وليس واضحاً بعد ما إذا كان هذا القانون سيحمل لعنة جديدة على المدنيين السوريين فقط، أم أنه يمكن أن يلحق ضرراً جدياً بالنظام السوري، لكنه كان كان علامة على صعوبة إعادة إدماج النظام السوري في منظومة العلاقات الدولية.

ليس هناك ما هو أوضح من صورة خيام النازحين ومراكز إيوائهم لتحكي قصة العام 2019 في سوريا، وليس هناك ما هو أوضح من أصوات قصف المدافع والطائرات في رأس العين ومعرة النعمان لشرح ما الذي عاشه السوريين طوال العام الماضي، عام استطاع النظام فيه تحقيق اختراق كبير على المستوى السياسي، فيما تسببت طائراته بأكبر موجة نزوح في تاريخ البلاد، وأكبر موجة نزوح في العالم خلال هذا القرن.