منذ تفجّر الثورة السورية في آذار (مارس) 2011 وحتى اليوم، لا يني الاقتصاد السوري يتعثّر وتتعاظم مشاكله عاماً بعد عام، غير أنّ العام 2019 كان الأسوأ على الإطلاق، وشهدت فيه البلاد سلسلةً من الأزمات الاقتصادية والمعيشية هي الأشدّ وطأةً على الصعيدين الكلي والجزئي. وقد انعكس ذلك السوء بشكلٍ كارثيٍّ على معيشة الناس وقدرتهم على تأمين أبسط مقوّمات استمرارهم في الحياة، في ظلّ معدلات تضخّمٍ مرتفعة وتراجعٍ في القوة الشرائية وصلت حدودها الأعلى. وفضلاً عن ذلك باتت الأسواق اليوم خاليةً من كثيرٍ من السلع الحياتية الرئيسية، وقد صار متعذّراً على نظام الأسد تأمينها أو تمويل استيرادها نتيجة التأثّر بالعقوبات الدولية وأزمة تأمين النقد الأجنبي المتعاظمة، وذلك بالتوازي مع تراجعٍ كبيرٍ في القوة الإنتاجية بفعل صعوبة تأمين المواد الأولية أو استحالة ذلك.
في ما يلي تلخيصٌ لأبرز التغيرات والأحداث التي طرأت على الاقتصاد السوري خلال العام 2019.
تهاوي الليرة
بلغ سعر صرف الدولار في بداية هذا العام 500 ليرة سورية، واقترب في نهايته من حدود 1000 ليرة، وهذه أقل قيمةٍ تنحدر إليها الليرة في السوق السوداء عبر التاريخ، بينما ظل سعر صرف البنك المركزي للدولار ثابتاً عند 438 ليرة طوال العام، رغم أنّ خساراتها تجاوزت 40% من قيمتها. وكان النظام قد شرع بتنفيذ إجراءاتٍ نقدية وغير نقدية متنوعة وكثيرة لتدارك أزمة الليرة دون جدوى؛ مثل تأسيس صندوق دعم الليرة السورية عبر مجموعةٍ من التجار والصناعيين ورجال الأعمال في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، والذي فشل لاحقاً في تحقيق الهدف المرجو منه، فضلاً عن ابتزاز قسمٍ من كبار التجار ورجال الأعمال ومصادرة جزءٍ من ثرواتهم أو الحجز عليها وإغلاق محلات الصرافة. وقد كان آخر ما تفتّق عنه وعي النظام الاقتصادي لتدارك أزمة الليرة، التوجّه لإصدار عملة رقمية للتداول في الخارج، تحمل اسم «ليرا» وتُصدرها شركة أوفشور
وفي إطار أزمة الليرة السورية، بدأت وزارة الاقتصاد والمالية في الحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف السوري المعارض منذ مطلع شهر كانون الأول (ديسمبر)، وبالاشتراك مع عددٍ من المجالس المحلية في الشمال السوري، الدفع باتجاه التخلي عن استخدام الليرة السورية في التعاملات اليومية بين السكان، والاستعاضة عنها بالليرة التركية أو الدولار، كما لم تَعُد مكاتب الصرافة في هذه المناطق تعترف أو تقبل بالورقة النقدية من فئة ألفي ليرة سورية.
عام التدقيق والحجز الاحتياطي
تميّز العام 2019 بحملة «محاربةٍ للفساد»، يبدو أنّ من يقف خلفها بشار الأسد وزوجته بدفعٍ روسي، والهدف منها التخفيف من حدّة احتقان الشارع الموالي على سوء الأوضاع الاقتصادية، وتحصيل أموالٍ من شأنها المساعدة على تدارك تهاوي اقتصاد النظام. وكان أول ضحايا هذه الحملة في أيلول (سبتمبر) الماضي وزير التربية في حكومة النظام هزوان الوز وزوجته؛ بدعوى اختلاس أموالٍ عامة، ثمّ توسّعت الحملة لاحقاً لتشمل التدقيق في حسابات عددٍ من الشركات المملوكة لرامي مخلوف، أبرزها شركة اتصالات سيريتيل. ووصل الأمر في كانون الأول (ديسمبر) الحالي إلى حدّ الحجز على أموال رامي مخلوف وأيمن جابر وعددٍ من المرتبطين بهما، بعد أيامٍ من إجراءٍ مماثل استهدف طريف الأخرس، قريب أسماء الأسد. وفي هذا السياق، يشير موقع الاقتصادي إلى أنّ وزارة المالية أصدرت منذ بداية العام 2019، وحتى شهر أيلول (سبتمبر) الفائت، 538 قراراً بالحجز الاحتياطي على أموال 10315 شخصاً.
الفقر والتضخم والعقوبات
شهد العام 2019 أعلى معدلات التضخم وضعف القوة الشرائية في تاريخ سوريا، وذلك نتيجة انهيار العملة المحلية وقلة المعروض من البضائع من بين جملة عوامل أخرى. وبلغت نسبة الفقراء السوريين، بحسب الأمم المتحدة، 83% من إجمالي السكان الذين ما يزالون في البلاد، ومما زاد في معاناة هؤلاء الفقراء تَواصلُ العمليات العسكرية في أكثر من منطقة، وما ترتب على ذلك من عمليات نزوحٍ لم تتوقف طوال العام، لا سيما في مناطق في شمالي سوريا وشماليّها الشرقي، بالإضافة إلى تراجع حجم المساعدات الإغاثية المُقدمة للسوريين إلى حدودها الدنيا. وفي هذا السياق، من شأن الفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن، في كانون الأول (ديسمبر) الجاري، على مشروع قرار تمديد إدخال المساعدات إلى سوريا عبر الحدود أن يجعل الأوضاع الإنسانية أكثر سوءاً خلال الأيام والشهور القادمة.
كما بلغ معدل البطالة في سوريا رقماً خيالياً هو الأعلى على مستوى العالم، يتراوح بين 50% و78%، وفق تقديرات أممية. ومما أسهم في تعاظم هذا الرقم، إغلاق الحدود أمام السوريين وعدم تمكنهم من الوصول إلى أسواق العمل خارج حدود البلاد، وتراجع القدرة الإنتاجية وعدم تأهيل المنشآت التي تضرّرت جرّاء عمليات القصف والأعمال القتالية. ويضاف إلى ذلك أنّ استشراء الفساد في مؤسسات النظام والعقوبات الدولية المفروضة عليه وأزمات المحروقات المتوالية واستيلاء روسيا وإيران والولايات المُتحدة مؤخراً على موارد البلاد، جميعها عوامل ساهمت في تقليل فرص العمل وتعثّر العملية الإنتاجية خلال العام الفائت.
,
العقوبات الدولية والتفريط بمُقدّرات البلاد
كان للعقوبات الدولية في العام 2019 بالغ الأثر، ليس فقط في حرمان النظام من تصدير البضائع وتأمين القطع الأجنبي والمحروقات ومُستلزمات الإنتاج، بل امتدّ أثرها ليمسّ عموم السوريين. ولم تكن العقوبات الدولية المفروضة على النظام وحدها ما أضرّ باقتصاد البلاد، بل أيضاً تلك العقوبات التي فُرضت على إيران وبدرجةٍ أقل على روسيا. وكان من نتائج العقوبات الأميركية المباشرة على إيران في عام 2019 حرمان النظام من الخطوط الائتمانية الإيرانية، التي كان يؤمّن بفضلها المحروقات وبعض السلع الداخلة في عمليات الإنتاج.
غير أنّ ما لحق بالاقتصاد السوري جرّاء العقوبات الدولية خلال عام 2019، الذي شارف على نهايته، ليس إلا جزءاً ضئيلاً من الآثار الكبيرة التي قد يتسبّب بها قانون قيصر الذي تمّت المصادقة عليه خلال شهر كانون الأول (ديسمبر) الحالي، وسيدخل حيّز التنفيذ مطلع العام المقبل. وبغضّ النظر عن مدى قدرة هذا القانون على معاقبة نظام الأسد والأطراف الراعية لإجرامه، فإنّ تبعاتٍ مؤلمة ستمسّ كلّ بيتٍ سوري من جرّاءه في حال قرّرت الإدارة الأميركية تنفيذ بنوده بشكلٍ حاسمٍ وحازم. ولا شكّ أنّ هذا القانون سيتسبب بمزيد من الخسائر في سعر صرف الليرة، سيّما أنّ البند الأول منه يفرض عقوباتٍ على المصرف المركزي، وسترتفع بموجب ذلك الأسعار وتنخفض القدرة الشرائية للسوريين إلى حدودٍ لا يمكن التنبّؤ بها حالياً.
وكان من الممكن أن تكون العقوبات الدولية الحالية والقادمة أقلّ إضراراً باقتصاد سوريا، لولا أنّ النظام فرّط بمُقدّرات البلاد لصالح روسيا وإيران، والتي كان من الممكن أن تعطيه قدراً معقولاً من المراوغة لتجنّب الآثار القاسية للعقوبات. وقد شهد شهر نيسان (أبريل) من عام 2019 تنازلاً من نظام الأسد عن مرفأ طرطوس لصالح روسيا بموجب عقد تأجيرٍ لمدة 49 عاماً، بعد أن كان قد عهد قبل ذلك للإيرانيين بإدارة مرفأ اللاذقية، في مسلسلٍ متواصلٍ من رهن البلاد للقوى التي أسهمت في منع نظامه من الانهيار، شمل عقوداً لاستثمار الفوسفات والغاز والنفط، وكانت آخر حلقات هذا المسلسل، في كانون الثاني (ديسمبر) الجاري، منح نظام الأسد لإيران «التسهيلات اللازمة» للشروع في بناء 30 ألف وحدةٍ سكنيّةٍ على الأراضي السورية.
وفي إطار اقتسام ثروات البلاد بين الدول الحاضرة عسكرياً في الجغرافية السورية، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب مطلع كانون الأول (ديسمبر) الجاري أنّ الولايات المُتّحدة ستأخذ «حصتها» من نفط سوريا، مشيراً إلى أنّه لم يبق في سوريا من جنود واشنطن سوى من يحمون النفط، قائلاً: «النفط في أيدينا ويمكننا أن نفعل به ما نشاء». في حين شهد الشهر نفسه، وبعد أيامٍ من تصريحات ترامب، دعوةً وجّهها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتمويل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم من عوائد النفط السوري. لقد تميّز العام 2019 بأنّه عام الحديث العلني عن المحاصصة الدولية في سوريا، ليس على صعيد جغرافيا السيطرة والنفوذ، وإنما أيضاً على الصعيد الاقتصادي ونهب الثروات.
وفي الوقت الذي يفرّط فيه النظام السوري بثروات البلاد، فإنّه يشدّد الخناق على الناس، حيث أقرّ مجلس الشعب في كانون الثاني (ديسمبر) تعديلاً على قانون خدمة العلم، يقضي بالحجز التنفيذي على أملاك المتخلّفين عن الخدمة ممن تجاوزوا سنّ التكليف، فضلاً عن حجز أملاك زوجاتهم وأولادهم. كما وافق المجلس في الشهر عينه على مشروع قانونٍ يقضي بزيادة الرسوم المالية على الطلاب المتقدمين لامتحانات الشهادات العامة، وهو ما يتعارض مع الدستور المُطبّق في البلاد، والذي ينصّ على مجانية التعليم في جميع مراحله.
لقد كان من بين العوامل التي أسهمت في دفع السوريين إلى الثورة على نظام الأسد، فضلاً عن مطالب الحرية والكرامة، الغياب المديد للعدالة في توزيع الثروة، واستيلاء زمرة زبائنية على موارد البلاد حدّ مشاركة الناس قوت يومهم. اليوم، وبعد قرابة تسع سنواتٍ من انطلاق الثورة لم يتغيّر شيءٌ في سلوك هذه الزمرة وسطوتها ومكانتها، سوى ازدياد عدد أفرادها وإعادة ترتيب الأماكن بينهم، والقليل من عمليات التصفية التي لا بدّ منها. أما السوري، فقد تغيرت حياته برمتها، صار أكثر عوزاً وجوعاً. الفاقة تحكم السوري والمجرمون يُحكِمون يدهم على موارده. هذه الصورة القاتمة هي مشهدٌ مكثّف لحالة تردٍّ اقتصادي ومعيشي تشهدها سوريا اليوم، وتشير جميع المعطيات إلى أنّ هذا المشهد لن يتحسّن في المدى القريب، بل سيزداد قتامةً بكلّ أسف.