في أواخر العام 2018، وتحديداً في السادس عشر من كانون الأول (ديسمبر)، زار الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير سوريا، وقال أثناء لقائه مع بشار الأسد إن الدول العربية تحتاج إلى «مقاربات جديدة تستند إلى احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية». في ذلك اليوم نفسه، كانت احتجاجات طلابية قد بدأت في قرى وبلدات سودانية نتيجة ارتفاع أسعار الخبز، ما لبثت أن تحولت سريعاً إلى انتفاضة شعبية، ثم ثورة عارمة قادت إلى خلع البشير من الحكم، وسوقه إلى السجن وإخضاعه للمحاكمة بتهم تتعلق بفساد مالي.
كان ذلك مشهداً شديد البلاغة؛ بينما يتحدث الطاغية عن مبدأ سيادة الدول، ينتفض سكان دولته من أجل حقوقهم وكرامتهم التي يتم دوسها بذريعة الحفاظ على السيادة والتصدي للمؤامرات والأعداء الخارجيين؛ وبينما يساهم مجرم حرب في تعويم مجرم حرب آخر سياسياً، تنطلق ثورة في بلاده وتنجح في الإطاحة به.
والحقّ أن البشير كان مصيباً في قوله إن الدول العربية تحتاج إلى مقاربات جديدة، لكنه لم يكن مصيباً في المقاربة التي اقترحها، ذلك أن «احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية» ليس مقاربة جديدة بحال من الأحوال، بل لعلّها تكون المقاربة الأساسية التي قدمتها وتقدمها الأنظمة العربية منذ عقود؛ استغلالُ مبدأ سيادة الدول لسحق الشعوب وتحطيم تطلعاتها إلى حياة أفضل. غير أن العام 2019 حمل معه مقاربات جديدة فعلاً، جاءت بها مظاهرات اجتاحت شوارع السودان والجزائر والعراق ولبنان، معلنةً عدم الرضوخ للابتزاز بشعارات السيادة، وعدم الاستسلام للتخويف المستمر بالنموذج السوري، الذي حوّلته هذه المظاهرات إلى بضاعة كاسدة لا يكاد يشتريها أحد، بعد أن كانت تلقى رواجاً كبيراً، حتى أن زيارة البشير إلى سوريا لم تكن إلّا واحدة من علامات هذا الرواج الذي لم يكن أبطاله يعلمون أنه في طريقه إلى التراجع.
كان التخويف بالمصير السوري قد بات جزءاً أساسياً من خطاب أغلب الأنظمة العربية والمتحدثين باسمها في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، حتى أن رؤساء وقادة عرباً لم يتورعوا عن تهديد معارضيهم بالمصير السوري بشكل مباشر أو غير مباشر، على ما فعل السيسي في مصر أكثر من مرة، وعلى ما فعل الوزير الجزائري الأول السابق أحمد أويحيى في الأول من آذار 2019 بعد اندلاع الاحتجاجات في بلاده، عندما قال إن «الناس سعداء لأن المتظاهرين قابلوا الشرطة بالورود، ولكن فلنذكّر بعضنا أن الأمور بدأت في سوريا بالورود…». بعدها بعشرة أيام فقط، وعلى وقع استمرار المظاهرات في الجزائر، أُجبر أويحيى على الاستقالة، وحوكم بعدها بتهم فساد وصدر بحقه حكم بالسجن لمدة 15 عاماً في العاشر من شهر كانون الأول الجاري.
تراجعت فعالية هذا التهديد سريعاً في النصف الأول من العام 2019، غير أن التراجع الحاسم كان مع انطلاق الثورات في العراق ولبنان، البَلَدان اللذان تجمعهما بسوريا قواسم مشتركة، من بينها التصدعات الطائفية والإثنية، والنفوذ الإيراني الواسع فيهما، ما يجعل استحضار النموذج السوري إلى الأذهان أكثر يُسراً. لكن الجموع الهادرة في الساحات والشوارع راحت تخوض معركتها من أجل الحرية والعدالة، رغم التهديدات والحديث المتكرر عن الفتن والمؤامرات والحروب الأهلية على ألسنة رموز النظامين الحاكمَين في البلدين، ورغم أن التهديد الصريح بالنموذج السوري لا يزال يحضر بين حين وآخر، حتى أن السيسي لم يكتفِ بتهديد المصريين به، بل تطوّعَ لتهديد اللبنانيين به أيضاً مؤخراً، عندما حذّرَ من أن يلاقي لبنان «مصير سورية التي نزح الملايين من أراضيها».
لا تزال الدروب بالغة الوعورة في البلدان العربية الأربعة التي شهدت ثورات شعبية خلال العام 2019؛ النظام الجزائري يناور بعد أن خلع بعضاً من رؤوسه ووجوهه لامتصاص الثورة، التي أنجزت غسل بلادها من عار ولاية رئاسية خامسة لبوتفليقة وأنتجت واقعاً جديداً لن يكون سهلاً على أركان النظام تجاوزه؛ والمجلس العسكري السوداني يناور أيضاً بعد أن أجبرته الثورة على تقاسم السلطة مع قوى المعارضة الديمقراطية والسير في مرحلة انتقال ديمقراطي بالغة التعقيد، وبعد أن انتزعت الثورة اعترافاً بها وبشهدائها ودورها التأسيسي في مستقبل البلاد؛ والنظام العراقي يعاني في وجه مظاهرات بالغة البسالة أجبرت رئيس وزرائه على الاستقالة؛ والنظام اللبناني يحاول بكل ما أوتي من قوة استعادة تماسكه بعد أن أنتجت الثورة واقعاً جديداً يقول إن حكم أمراء الحرب الأهلية ليس قَدَراً لبنانياً لا فكاك منه.
لقد هُزمت الثورة السورية في مواجهتها مع نظام الأسد وحلفائه، في طورها السلمي ثم في طورها المسلّح، ويؤول الجهد الروسي التركي الإيراني المشترك اليوم إلى تصفيتها سياسياً عبر مسارات أستانا وسوتشي. وهي آلت إلى تدمير البلاد وتشريد الملايين من أهلها، وانتهى قسم واسع من مقاتليها، ومقاتلي الفصائل الجهادية التي نشأت في سياقها، إلى أن يكونوا مقاتلين مأجورين لصالح تركيا في حروبها، أو مجرمين يرتبكون كل أشكال الانتهاكات، وبعضهم هدفٌ لحرب دولية على الإرهاب دمرت كثيراً من عمران المدن السورية وقتلت وشردت كثيرين من أهلها. وبعد هذا لا يزال النظام السوري مطبقاً على خناق البلاد بدعم من روسيا وإيران، بعد أن فقد السيادة على الأراضي التي يسيطر عليها وفقد الولاية على نفسه، وبعد أن تسبب سلوكه ثم سلوك جهات أخرى، بعضها مناوئ له، في إحداث ندوب غائرة يبدو تجاوزها صعباً في نفوس وذاكرة أبناء البلاد.
هذا مصيرٌ مخيفٌ فعلاً، وإليه يستند جميع أولئك الذين يخوّفون شعوبهم من مصير مشابه. لقد نجح النظام في تحويل سوريا إلى فزّاعة مخيفة، وبدل أن تكون علامة على ثورة شجاعة ضد نظام فاسد وهمجي، جعل منها علامة على الموت والدمار والوحشية والتهجير واللجوء. لكن الحكاية السورية لا تكتمل على هذا النحو فقط، بل إن فيها فصولاً أخرى، من أبرزها أن الحال الذي آل إليه نظام الأسد ليس انتصاراً مهما ادّعى أنصاره ذلك، وأنه بقدر ما تسعى الشعوب ويسعى خصوم الأنظمة الحاكمة من أبنائها إلى تجنّب المصير السوري، فإن الأنظمة تسعى هي الأخرى إلى تجنّب مصير النظام السوري، الذي بات رهيناً في يد غيره. ومن فصول الحكاية أيضاً، أن شجاعة السوريين الهائلة في مواجهة نظام الأسد، كان ينقصها توافقٌ صلبٌ على أساليب المواجهة، وعلى مبادئ تأسيسية لا ينبغي إفساح المجال أمام المَحيد عنها.
للوهلة الأولى، تبدو سوريا مصنعاً للخوف والإحباط وانقطاع الرجاء فقط، لكن التدقيق في تفاصيل المشهد كله يقود إلى القول إنها أيضاً مصنعٌ للكفاح الشجاع والتضحيات العظيمة والدروس التي لا تنضب. وبينما كان يشيع القول إن انقطاع الرجاء قَدَرٌ في البلاد العربية، جاء العام 2019 ليقول لنا إن الأمر ليس كذلك؛ رأينا هذا بوضوح في كل شارع يشهد مظاهرات مناوئة للأنظمة الفاسدة التسلطية، ولا شك أننا سنراه في شوارع المدن السورية وساحاتها في سنوات قادمة لن يستطيع حرّاس الأبد أن يمنعوا مجيئها.