«إمكانية البقاء معدومة، فهو يعني الموت، أو الاعتقال في أفضل الأحوال»؛ تكررت هذه الكلمات مراراً منذ تهجير سكان أحياء حلب الشرقية قبل ثلاث سنوات، ويقولها آلاف السوريين مجدداً مع كل تقدم لقوات النظام وحلفائها باتجاه منطقة جديدة، مستخدمة سياسة التدمير الشامل عبر آلاف الغارات الجوية والقذائف والصواريخ بهدف تهجير السكان من مناطقهم، وفرض شروطها لإيقاف حمام الدم مقابل مكاسب عسكرية وسياسية واقتصادية.
بين ريف إدلب الجنوبي وحلب
فرضت قوات النظام سيطرتها على كامل أحياء حلب الشرقية في مثل هذه الأيام من شهر كانون الأول 2016، وفق اتفاق قضى بتهجير سبعة وثلاثين ألف شخصاً بحسب منظمة العفو الدولية، وذلك بعد حصار خانق على هذه الأحياء وتدمير معظمها بشتى أنواع القذائف.
يتكرر المشهد الآن في قرى وبلدات ريف إدلب الجنوبي، التي تشهد منذ نحو شهرين تصعيداً عنيفاً من قبل قوات الأسد وروسيا، إذ وثَّقَ المركز الإعلامي العام MMC خلال تشرين الثاني الماضي 1256 غارة بالطائرات الحربية منها 1105 غارات روسية، كما وثَّقَ عودة مروحيات الأسد الواسعة لاستخدام البراميل المتفجرة بواقع 662 استهدافاً بها، بالإضافة إلى نحو 11823 قذيفة مدفعية وصاروخية. كما استهدفت هذه الغارات البني التحتية والمرافق العامة، إذ تم توثيق نحو 85 اعتداءً على المشافي والنقاط الطبية ومراكز الدفاع المدني والأفران والأسواق والمساجد والمخيمات خلال تشرين الثاني، لتستمر قوات الأسد وروسيا باستهداف المنشآت الحيوية خلال الشهر الحالي، دون أن تصدر إحصائية رسمية حتى الآن.
وتشير الأخبار والفيديوهات المتداولة إلى تصاعد حدة الهجوم خلال كانون الأول الجاري، خاصة على الأسواق الشعبية والبنى التحتية، كان آخرها استهداف سوق سراقب يوم السبت الماضي. ويقول فريق منسقو الاستجابة إن عدد النازحين بلغ أكثر من مئتي ألف شخص خلال كانون الأول الجاري فقط، بينما وثَّقَ المركز الإعلامي العام نزوح أربعين ألف شخص خلال الأيام الثلاثة الماضية فقط، وبقاء نحو سبعين ألف شخص تحت خطر الموت في القرى والبلدات المستهدفة.
وقد بلغ عدد الضحايا المدنيين خلال تشرين الثاني الماضي نحو 105 أشخاص، بينهم 46 طفلاً، تضاعف عددهم خلال الأسابيع الماضية من كانون الأول الجاري ليزيد الرقم عن 225 شخصاً بينهم 74 طفلاً، بحسب إحصائية لـ «منسقو استجابة سوريا» حتى 21 كانون الأول الجاري.
يقول أحمد الإبراهيم، الناشط المدني المحليّ من جبل الزاوية في ريف إدلب الجنوبي، إن السياسة المعتمدة حالياً تبدو نسخة مكررة عن ما قامت به قوات النظام مراراً منذ التهجير من حلب، وهي تهدف إلى إخلاء المناطق التي تسعى إلى السيطرة عليها من سكانها، وتضييق الخناق على الفصائل المعارضة بغية التسليم والقبول بأي حل تفرضه روسيا لإيقاف الهجوم الوحشي على المدنيين، مع القضم التدريجي والحصار كحل بديل في حال رفض الفصائل التسليم، في إطار سياسة عامة تهدف إلى فرض الرؤية الروسية للحلّ في سوريا.
وبالفعل، بعد أسابيع من القصف المدمّر، بدأت قوات النظام تقدمها البري في ريف إدلب الجنوبي الشرقي خلال الأيام القليلة الماضية، وسيطرت على قرى عديدة في المنطقة متقدمة من عدة محاور باتجاه مدينة معرة النعمان.
عقدة سراقب تمرّ عبر معرة النعمان
طال القصف نحو ثلاثة وثلاثين بلدة وقرية بريف إدلب الجنوبي والجنوبي الشرقي وكذلك الأرياف الشمالية والغربية، يقع معظمها في محيط الطريقين الدوليين؛ اللاذقية –حلب (M4) ودمشق-حلب (M5). ويدخل الطريق M5 مناطق سيطرة الفصائل من الشمال قادماً من حلب، ثم يتفرع عند مدينة سراقب إلى طريقين رئيسيين، الأول هو M4 الذي يتجه غرباً نحو اللاذقية عبر أريحا ومحمبل وجسر الشغور، فيما يتابع الطريق الرئيسي M5 سيره جنوباً نحو مدينة حمص عبر معرة النعمان، ثم خان شيخون وريف حماة الشمالي اللذين سيطرت عليهما قوات النظام في شهر آب الماضي.
وتعني سيطرة روسيا وقوات النظام على هذين الطريقين بالكامل الاستيلاء على نحو نصف مناطق سيطرة الفصائل في محافظات إدلب وحماة وحلب، وتقسيمها إلى مناطق منفصلة، ما يعني وقوع قرى وبلدات في ريف حلب الجنوبي وجبل الزاوية وسهل الغاب وريف جسر الشغور مروراً بمدينة أريحا تحت الحصار نتيجة عزلها عن الحدود السورية التركية.
ولن يكون تنفيذ هذا السيناريو ممكناً دون السيطرة على جسر الشغور، وهو ما يفسر الهجوم المتكرر منذ بداية العام الحالي على التلال الحاكمة في محيطها بغية التقدم البري على المدينة. كما أنه لن يكون ممكناً دون السيطرة على معرة النعمان، التي نالت الحصة الأكبر من الغارات وقذائف المدفعية خلال الأسابيع الماضية، ويُقدِّرُ ناشطون من أبنائها نزوح نحو 80٪ من سكانها، وسبق ذلك تهجير معظم سكان مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي وتدمير نحو ثلثيها، كما تركّز القصف على مدن خان السبل وتل مرديخ وسراقب، وجميعها تقع على الطريق الدولي.
وقد تحدثنا إلى أحد القادة العسكريين في الجبهة الوطنية للتحرير، الذي قال إن السبب وراء التركيز في الهجوم على معرة النعمان يكمن في طبيعتها السهلية، وكذلك سهولة حصارها والوصول إليها من جهتين؛ الأولى من خان شيخون التي تشهد تجميعاً لقوات الأسد البرية فيها، والثانية من محور بلدة جرجناز التي تشهد هي الأخرى استهدافاً يومياً بعشرات الغارات والصواريخ. وهو يرجّح أنّ قوات الأسد وروسيا ترى أن سقوط معرة النعمان هو مفتاح سقوط باقي القرى والبلدات على الطريق M5، بينما تمثل السيطرة على تلال الكبينة وسقوط جسر الشغور مفتاح سقوط القرى والبلدات على الطريق M4، تمهيداً لالتقاء القوات على الطريقين الدوليين في عقدة سراقب، وبذلك تتجنب هذه القوات الدخول في معارك للسيطرة على جبل الزاوية، المحصور بين الطريقين، بطبيعته الجغرافية القاسية، إذ سيغدو سقوط بلداته تحصيل حاصل نتيجة حصارها وقطع طرق الإمداد إليها.
يبدو أن تنفيذ السيناريو الذي تحدث عنه القائد العسكري بدأ بالفعل منذ أيام، من خلال محاولات للتقدم البري في ريف المعرة الجنوبي والجنوبي الشرقي، كما شهد يوم أمس تقدم قوات النظام وسيطرتها على القرى والبلدات في محور التح وبابولين الذي يبعد عن الطريق الدولي نحو كيلومترين، وكذلك إحكام السيطرة على القرى المحيطة ببلدة الصرمان التي تضم واحدة من نقاط المراقبة التركية، حتى باتت على مشارف جرجناز، بالتزامن مع كثافة في استهداف معرة النعمان ومحيطها بالغارات الجوية والصواريخ، ودعوات من قبل المراصد والنشطاء لإخلاء العالقين فيها من السكان.
الطريقان الدوليان وأهميتهما
تقول معظم التقارير والتحليلات الإخبارية إن روسيا تسعى لتطبيق ما تم الاتفاق عليه من تفاهمات في سوتشي (أيلول 2018)، حول استعادة حركة الترانزيت على الطرق الدولية بالقوة، بعد رفض الفصائل العسكرية لتطبيق بنود الاتفاق التي تفترض السماح بتسيير دوريات روسية تركية عبرها.
لكن ثمة آراء متناقضة حول ما إذا كانت مسألة السيطرة على الطرقات الدولية هدفاً للحملة العسكرية، أم مجرّد ذريعة لها. وقد تحدّثنا إلى فادي الأسعد، وهو من أبناء ريف إدلب الجنوبي، اقتصاديٌُ ومتابع لمسألة الطرق التجارية وأهميتها. يقول الأسعد إن روسيا وتركيا متفقتان أصلاً على البنود المتعلقة بالطرقات الدولية، ودليله على ذلك قبول تركيا بتسلّم روسيا لطريق الحسكة حلب الدولي في الجزيرة السورية، وقبولها بإيقاف عمليتها العسكرية هناك بمجرد خروج ذلك الطريق عن سيطرة قسد، وفي الوقت نفسه صمتها عن ما حدث ويحدث في إدلب بالرغم من نقاط المراقبة التركية التي تنتشر في المنطقة.
وعن أهمية هذه الطرق الدولية، يقول الأسعد إنها تشكل شرياناً للتجارة الدولية بين روسيا ودول الخليج العربي من جهة، والعراق وإيران وميناء اللاذقية من جهة أخرى، وإنها ستدرّ مئات الآلاف من الدولارات يومياً بمجرد فتحها أمام التجارة الدولية. لكن بالمقابل، فإن عبد الحليم السيد، وهو من أبناء ريف حلب الشمالي ويحمل درجة الماجستير في الاقتصاد، يقلّل من أهمية هذه الطرقات، خاصة وأن تصريحات وزير النقل في سوريا تقول إن حجم الأضرار في الطرقات التي تمت السيطرة عليها يبلغ نحو 4.5 مليار دولار، متسائلاً عن الجهة التي ستدفع كلفة إعادة ترميمها في ظل الظروف الاقتصادية التي تعصف بالنظام، والتي كان آخرها انهيار العملة السورية وتضاعف سعر صرفها خلال الشهرين الأخيرين.
يكمل السيد أنه حتى في حال سيطرة روسيا على كامل الطرقات في إدلب، فإن أجزاء منها ستبقى تمرّ في مناطق سيطرة الفصائل المدعومة تركياً في ريف حلب الشمالي والشرقي، كما أن جزءاً من الطريق M5 القادم من تركيا نحو حلب يمرّ من تل رفعت الخاضعة لسيطرة قسد، وهكذا فإنه يرى أن السيطرة الكاملة على الطرق الدولية وتأمينها يحتاج سيطرة قوات الأسد على كافة المناطق السورية، كما أن الكلفة الهائلة للعمليات العسكرية في إدلب تجعل المكاسب الاقتصادية الناتجة عنها أمراً قليل الأهمية، وخاصة أنه يمكن الاستعاضة عنها بطرقات أخرى لا تمرّ عبر إدلب.
وهكذا فإن السيد يرى أن القضية أبعد من مسألة الطرقات الدولية، التي تبدو ذريعة للهجوم أكثر منها هدفاً، معتبراً أن الهدف من التصعيد الأخير يعود لأمرين؛ أولهما استمرار الحرب في سوريا لتصدير الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها السكان في مناطق النظام وتوجيه أنظارهم نحو المعركة لتخفيف الضغط على الحكومة، وثانيهما الضغط على المجتمع الدولي للقبول بحل سياسي وفق شروط روسيا مع بقاء الأسد في السلطة، وتقديم الدعم الاقتصادي له وإنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه.
النازحون يدفعون الثمن
لا تزال الاستجابة الإنسانية لحركة النزوح الواسعة بالغة الضعف، إذ اقتصرت على تقديم بعض السلال الإغاثية، بينما يتوجّه النازحون الجدد إلى المناطق الشمالية الأكثر أمناً، ويعيش معظمهم في العراء مع ارتفاع إيجارات المنازل إن وجدت، ما يتسبب بمعاناة هائلة تُفاقم منها الظروف المناخية القاسية وارتفاع أسعار المواد الغذائية مع انخفاض سعر صرف الليرة السورية، بينما تتوجه المنظمات المحلية إلى المجتمع الدولي بمناشدات ونداءات استغاثة متكررة، لا يبدو أنها تلقى استجابة مناسبة من أي أحد.
يُضطر آلاف النازحين إلى الخروج من بيوتهم سيراً على الأقدام لمسافات طويلة نتيجة عدم كفاية وسائل النقل، فيما يفترش آخرون الأراضي الزراعية. يقول الذين تحدثنا إليهم إن البقاء في منازلهم يعني موتاً ليوم واحد، أما النزوح فيعني أن يعيشوا ما يشبه الموت في كل يوم.