«كُنّا صغاراً يا صاحبي، صغاراً جداً، مثل فراخ الإوز، واقفين على طرفي الشارع كسطور الكتابة. وكان ثمّت هرج كبير، هرج مهول. وكان المعلمون، الذين يقفزون بين الصفوف ملوّحين بعصيّهم، أشبه بقطط مذعورة، يصرخون…»سليم بركات. الجندب الحديدي..

ودوماً كانت تنجح صرخاتهم الهيستيرية وتهديداتهم الجافة في حشدنا في المسيرات المليونية العزيزة على قلب القيادة الحكيمة. هدّدونا بكل الطرق: إن تغيبنا عن الحشد لن نتخرّج، بل ربما لن ندخل قاعات الامتحان؛ والاعتقال خيارٌ مفتوح. من يتخلّف عدو الأمة عميل الاستعمار والصهيونية متعامل مع عصابة الإخوان المسلمين. ولكن، لم يتعرّض طالب للعقاب بسبب تغيبه عن المسيرات الجماهيرية. صحيح أنهم كانوا يجمعون المتخلّفين والهاربين، وأعدادهم دوماً صغيرة جداً، ويسجلون أسماءهم في قائمة خاصة؛ إلا أنهم، في النهاية، كانوا يقبلون كل الأعذار والتذلل، بلا استثناء.

تجميعنا هذه المرة كان مختلفاً عن كل ما سبق وعن كل ما سيلحق: في الجو ارتباك وتردد وخوف من نوع جديد. لا تبرير مقنع يقدّمه الأساتذة المساكين: لماذا نحشر ملايين الناس في استقبال رئيس دولة إمبريالية غربية رأسمالية استعمرت سوريا؟ لا مناسبة واضحة، ولا معركة نخوضها بشرف، ولا عدو صهيونياً أو عميلاً داخلياً لنقضي عليه. لم نستفسر، بالطبع، فقد تعلّمنا أن نؤمن بحكمة القيادة؛ ولكنهم أرادوا، بكل ما أوتوا من خطابة وسفسطة، تبرير المسيرة.

نزلنا إلى الشوارع بالملايين: طلاب وعمال وفلاحون وموظفون وصغار الكسبة، نحيي الرئيس الفرنسي جاك شيراك، في ظاهرة فريدة لم تحدث لا مع قادة المعسكر الاشتراكي، ولا مع حلف الممانعة، ولا مع الإخوة العرب: وحده جاك شيراك اختُصَّ بملاييننا تحييه؛ وحده، من بين كل الرؤساء والملوك والأمراء، شارك القائد الخالد مجده في هتافات صدحت بها حناجر الأمة بأكملها!

تهامس كثر أن الفرنسي العملاق مسؤول عن توريث الحكم من القائد الخالد إلى القائد الشاب. ما زال الهمس يسري إلى اليوم بين من عاشوا تلك اللحظات الغريبة العجيبة. لا شيء يؤكد ذلك أو ينفيه. لا دليل واضحاً أيضاً: كيف يورِّثُ رئيسٌ أجنبيٌ السلطة في بلدنا نحن؟ ماذا عن الجيش؟ المخابرات؟ أميركا؟ ليس قبول النظرية بسهل، ولا مفهوم تماماً؛ ولكنها تلقى رواجاً كبيراً. أتت الزيارة بعد عملية «عناقيد الغضب» في جنوب لبنان، والتقارب غير المسبوق بين فرنسا والقيادة الحكيمة؛ تقاربٌ شعرت القيادة بأهميته الاستثنائية، وجعلتنا نشعر به حسّياً في الاستقبال الحاشد.

لم ير أحد منا شيراك هذا؛ لم نلمحه حتى. ملايين السوريين في الطرقات والشوارع، تهتف بفرنسية مكسرة جملة واحدة: «فيفا شيراك، فيفا سيريا». لم يلوّح لنا شيراك، لم يخاطبنا أو يخطب فينا. لم نعرف كم مكث، أو من التقى، أو ماذا يريد. خرجت الصحف لتقول لنا إن الزيارة تاريخية. «ولكن، كل الزيارات تاريخية»، فكرنا بصمت. «استسلم الغرب الشرير الأزعر أخيراً، واعترف بحكمة القيادة، وقرر أن يتبع السبيل الذي رسمته»، أكَّدَ التلفاز. لم نهتم كثيراً. تمنينا فقط ألا تتكرر الزيارة، كي لا يتكرر معها الرعب، والحشر، والدوس على الناس، ورؤية كل مخابرات البلد متجمّعة في الشوارع، وتكديسنا في الباصات في الصباح الباكر، وفي الظهيرة بعد مرور الموكب، وحيرة عشرات الآلاف الذين تاهوا في الطرقات المزدحمة والمغلقة لأسباب أمنية قبل أن يحل المساء ليتمكنوا من العودة إلى بيوتهم. كل ما تمنيناه، هو أن تكمل القيادة الحكيمة طريقها نحو الوحدة والحرية والاشتراكية، بدون معونتنا.

عاد شيراك إلى دمشق لاحقاً، بدون أن يحشدونا لاستقباله هذه المرة، بعد تولي القائد الشاب السلطة بأشهر قليلة، ليقلّده وسام جوقة الشرف الفرنسي، أحد أرفع الأوسمة الفرنسية، بدون أسباب واضحة. سحبت الدولة الفرنسية الوسام سنة 2012، فيما قالت السلطة السورية إنها هي من أعادت الوسام للدولة الصغيرة الهامشية التابعة لأميركا.

كنتُ ممن تاهوا على أتوستراد المطار في طريق العودة يومها، أنا وصديقٌ مقرّبٌ وطالبان مُجدّان وأستاذ مادة الكيمياء، ثلاث ساعات تقريباً. تضاحكنا بمرح أنا والصديق؛ المُجدّان المُهذّبان خائفان من الابتسام أو الكلام؛ أما الأستاذ فاستسلم تماماً: لم يفكر بنهرنا أو حتى بالإشراف علينا في المتاهة. في النهاية، طلب منا سيجارة. دخّنها ساهماً، متمتماً بشيء ما لنفسه، ونحن نمشي نحو العاصمة، مع آلاف البشر، صغاراً جداً، مثل فراخ الإوز، بعد الهرج المهول، غير منتظمين أو مُسيَّرين، كسطور تداخلت وتشابكت وتقاطعت، لتجعل الكلمات غير مقروءة أو مفهومة.

مشينا طويلاً، يلفّنا هدوء تاريخي لا أهمية له، ولا معنى، ولا مغزى.