تابع العالم قصة الموزة المعلقة على الحائط للفنان ماوريتسيو كاتيلان، التي عُرضت كعمل فني في صالة معرض آرت بازل في ميامي بالولايات المتحدة، والتي بيعت بمبلغ 120 ألف دولار، وهو ما أثار جدلاً في أوساط الفنانين، حول إذا ما كان يمكن اعتبار عملٍ كهذا فنّاً فعلاً، وحول ما إذا كانت تستحق فكرة هذا العمل 120 ألف دولار! وبعد أيام من الجدل، قام فنان آخر، هو دافيد داتونا، بانتزاع العمل الفني وأكله، منهياً بذلك حياة الموزة.
على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، وفي السياق السوري تحديداً، تحوَّلَ هذا العنصر الفني ذاته، الموزة، إلى عنصرٍ مثيرٍ للضحك الهزلي عند حديث السوريين عن الحالة الاقتصادية وأوضاع الليرة السورية، وذلك بسبب ارتفاع سعر الموز وغيره من المواد الغذائية وغير الغذائية، بعد ارتفاع سعر صرف الليرة خلال الشهرين الأخيرين. ذلك عدا عن رمزية الموز كسلعة غالية السعر، ورفاهية يمكن الاستغناء عنها، تعود جذورها في ذاكرة السوريين إلى الأزمة الاقتصادية في ثمانينيات القرن الماضي.
لا يمكن أن يفهم شخص غير سوري، أو شخص غير مطلّع على أسعار الموز في سوريا مثلاً، ما هو الجانب المضحك في نكته عن الابن الذي يسأل والده أن يشتري له الموز، فيضحك الأب، وتضحك الأم، ويضحك الجيران، وحتى البائع نفسه يضحك. المضحك في هذه النكتة على وجه التحديد أن سعر كيلو الموز وصل إلى 1300 ليرة سورية، وهو رقم كبيرٌ جداً بالقياس إلى متوسط الأجور والمعاشات العام في سوريا، وعليه صار الموز حلماً مستحيلاً بالنسبة للطفل في النكتة. تحمل النكتة مفارقة بين سعر الموز كما يجب أن يكون، وبين أحلام الطفل الكبيرة التي لا تعرف معنى حدود القدرة الشرائية لوالده، وهي التي تولّد الضحك الهزلي عند السوريين عند سماعهم لهذه النكتة وما يشبهها.
تندرج معظم نكات السوريين المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي بما يخص الوضع المعيشي ضمن الكوميديا السوداء، حيث أن ضحك السوريين على مآسيهم لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون سببه حوادث أو مواقف مضحكة، بل سببه في الغالب صعوبة تصديق أنّ ما يحدث هو واقع وحقيقي، وذلك منذ بداية تفاقم الأوضاع المعيشية والخدمية في سوريا، من انقطاع التيار الكهربائي أو انعدام وسائل التدفئة وصولاً إلى غلاء الأسعار. وإلى جانب صعوبة التصديق وغرائبية الواقع، يولّدُ كلٌّ من التكرار والتسارع أثراً مضحكاً عموماً، وذلك ينطبق على سرعة تغير سعر صرف الليرة مؤخراً؛ مثلاً أن تستعيد نكتة قديمة ألّقها: «ما هو سعر الصرف الآن؟»، والجواب يكون «ماذا تقصد؟ قبل السؤال أم بعده؟»، أو نكتة أن «الدولار إذا استمر على هذا النحو سيصل إلى 2020 قبلنا»، وصولاً إلى التعجّب من انهيار قيمة الليرة السورية كما في التعليق الساخر: «هاتلك بمليونين ليرة فلافل وبمليون ليرة مسبّحة».
النوع الآخر من النكات هو تلك التي لم تقصد أن تكون نكاتاً أصلاً، أو بشكل أدق، لم تقصد أن تثير الضحك بين السوريين، إلا أنها أثارت السخرية أكثر مما فعلت النكتة المقصودة، ومن أمثلة ذلك الحملة التي أعلنها البنك المركزي السوري تحت شعار «ادعم الليرة السورية ولو بكلمة طيبة». كانت هذه الحملة مادة للسخرية والضحك بين السوريين، وذلك ليس بسبب الفرق الشاسع بين التصريحات الرسمية فقط، بل بسبب كمية الاستغباء الذي تحمله للسوريين، وأيضاً بسبب المفارقة بين عالمين مزدوجين؛ العالم الأول هو واقع الفرد السوري من جهة، والعالم الثاني هو ما يتوجب عليه أن يدّعيه من جهة أخرى، على غرار الدعوات شبه الرسمية المكثّفة لنشر إشاعة عن أن سعر صرف الدولار الأميركي انخفض إلى 500 ليرة، في حين أن السعر في الواقع كان يقترب من 900 ليرة. والفكرة التي تكمن وراء هذه الدعوات تعتمد على القول إن سعر الصرف يرتفع نتيجة إشاعات يطلقها «الأعداء والمتآمرون» من خارج الحدود، وبالتالي فإن الحل يكمن في نشر إشاعات معاكسة.
يثير هذا النوع من المفارقات الضحك المرّ عند عموم السوريين، حتى وإن كان هذا الضحك يدور بين المرء ونفسه في حالات كثيرة، أما ما يثير الضحك أكثر، فهو دعوات تناقلها السوريون، تحثّهم على ادّخار أموالهم المتبقية «إن وجدت» بالليرة السورية، أو على شكل أصول ثابته، أراضٍ أو ذهب أو سيارات، وأن الدولار ليس للاكتناز بل للصرف فقط. هناك طبقتان من المفارقة المضحكة هنا، الأولى أن الأغلبية الساحقة من السوريين داخل البلاد لم يعد لديهم مدخرات تستحق الذكر، والثانية أنه حتى في حال وجود هذه المدخرات بالدولار، فكيف يمكن أن يصرف الناس شقاء العمر وعامل الأمان المالي الوحيد المتبقي لهم، في وقت يهدد فيه الجوع والفقر غالبية السوريين في سوريا. في حالة سريالية كهذه، يبدو أفضل تعبير يمكن أن نستعين به لوصف الوضع الحالي، هو الوصف الذي تستخدمه جريدة شبكة الحدود بما يخص التصريحات التي لا يمكن تصديقها؛ «ليتها الحدود».
لا يمكن للسوريين عندما يسمعون هذه التبريرات والمقاربات حول العجز الاقتصادي إلا أن يضحكوا هزلاً وألماً؛ يضحك السوريون على مآسيهم ليس اعتياداً ولا تقبّلاً، بل تنفيساً عن غضبهم وعن عجزهم أمام الحالة الاقتصادية والصعوبات المعيشية. كما أن النكات عموماً، التي تحتاج حدوداً واسعة من الخيال والذكاء الخالص، تلعب دوراً تصحيحياً، يصحّح الواقع عن طريق السخرية كما يصحّح أبعاد ومواقع الشخصيات في خيال صانعي النكتة. والضحك الهزلي لا يمكن إلا أن يكون جماعياً، حتى لا يتحول إلى مآساة، كما في قصة الطفل الذي طلب من والده أن يشتري له الموز، وهي الحادثة التي يمكن في الواقع أن تدفع الأب للبكاء والانهيار، أو حتى الانتحار كما في حالات سمعنا عنها مسبقاً في سوريا وغيرها. ليس الضحك على هذه النكتة تجميداً للمشاعر الإنسانية أو سخريةً منها، على العكس تماماً، هو تعبيرٌ عن الدهشة وعدم الرغبة بتصديق بشاعة ما يحدث، وهو كشفٌ عن «تواطؤ مُضمَر» بين السوريين المدركين لحقيقة العجز الاقتصادي السوري، وحقيقة المسؤولين عنه.