في يوليو الماضي برزت واقعة تحرّش عمرو وردة، لاعب المنتخب المصري لكرة القدم، أثناء فعاليات كأس الأمم الإفريقية. ورغم أن هناك دلائل عدّة على جدية الواقعة، أبرزها تاريخه في التحرش المتكرر والصريح، إلا أن مسؤولي الاتحاد المصري لكرة القدم، بالإضافة إلى زملائه من اللاعبين، ما لبثوا أن التمسوا له الأعذار، مستعيرين قيمة «الستر» من الموروث الديني والاجتماعي. وبغض النظر عن كون الستر اللاحق للفضيحة ما هو إلا كوميديا رديئة، استوقفتني مفردة الستر واشتقاقاتها اللغوية بما يتكثف فيها من تواطؤ، إذ أن جميع المدافعين عن وردة، بدءاً من زميله محمد صلاح، وانتهاءً بحُماة سمعة الدولة المصرية على السوشيال ميديا، مروراً بالشيخ الأزهري الذي نشر صورة لوردة عائداً إلى معسكر المنتخب مع كابشن «بالتوفيق يا بطل»؛ جميع هؤلاء تعاملوا مع القضية باعتبارها خطيئة بين وردة وربّه، في تجاهل كامل لمفهوم التحرش من الأصل. كأنهم لم يعيشوا معنا في السنوات الأخيرة، وتوقفت ذاكرتهم الزمنية عند نقطة تاريخية لم تتجاوز العقد الماضي، حيث شيوخ الدعوة السلفية في الفضائيات يصبّون أفكارهم في عقول المصريين، وحيث كانت مصطلحات كالتحرّش، الاعتداء الجنسي، والناجيات منه، غير متبلورة بشكل صريح في الفضاء العام وفي النقاش المجتمعي، ليظلّ الاعتداء الجنسي مندرجاً ومستتراً ضمن التعريف الفضفاض للـ «معصية»، التي لا تستدعي أكثر من التوبة وستر العاصي.
هذه الطريقة في التعامل مع القضية، تجعل «الستر» محاولة متعمّدة لتكريس وإدامة الضبابية المحيطة بالمفاهيم المذكورة، واضعة مفردة «الستر» في مسار لغوي ذي دلالات رجعية، أولاً لكونه متقاطعاً مع الممارسة الدينية المنشغلة بالستر الفيزيائي/ الجسدي للمرأة، لتبقي علاقة الرجل بالمرأة مقتصرة على شهوة الرجل الغريزية، بطبيعتها الضعيفة، المتعدية على «المحرّم» بصورة معتادة ومتكررة، حيث يتوب الرجل وينتكس ويتوب وينتكس، في مقابل المرأة كخطيئة محتملة دائماً وأبداً، وغير قابلة إلا للحذف والإخفاء من الصورة. وثانياً لكونه ستراً مفاهيمياً لمصطلحات ترتبط بتعريف العنف الجنسي، مغلفاً إياها بتعريفات أخرى أقل حزماً تجاه العنف.
بذلك تمتد منظومة القيم المؤكدة على الستر، فتُنتج المتحرش ليس كعَرَض مصاحب فحسب، بل كضرورة تتخذ دور الحامي لتلك القيمة، فيمارس المتحرّش عقابه لغير الملتزمات بمعايير الاستتار، عوضاً عن الحدود الشرعية الغائبة، حيث المفصحات عن أنفسهنّ كموضوعات جنسية صريحة يمثلنَ تهديداً بإخراج الجنس من منطقة المُخبَّأ إلى منطقة الكشف، وبالتالي إخراجه من قبضة السلطة لإعادة تعريفه. ما يجعل السلطة والمتحرِّش في علاقة نفعية متبادلة.
ضمن هذا التضبيب المتعمد للمفاهيم، تحضر كلمة «جنس» بشكل عام في الخطاب الاجتماعي والقيَمي في العالم العربي، منتمية لما هو محرّم، من أجل أن تحدد السلطةُ وحدها، سياسية كانت أم اجتماعية، المسارات المسموح فيها ممارسته، بذلك تخلق بنفسها، طريقاً واحداً للممارسة السليمة، تأسيساً على طرح طهراني، تكون العفة فيه المعيار الأهم لتحديد ما إذا كان الممارِس/ة سيتم احتوائه أم استثنائه من الصلاح الأخلاقي، ما يجعل المسارات الأخرى كلها مستثناة ومتساوية في التحريم، سواء كانت برضا الطرفين أم لا. بمعنى أبسط، يلخّص الخطاب الديني ومن ثم الاجتماعي أيَّ ممارسة خارج مظلته القيمية باعتبار أن «كلّه زنا»، وبحكم كون الزنا في المرجعية الدينية مُعاقَباً بأعنف طرق العقاب التي تصل إلى القتل، تُصدّرُ السلطة بشكل ضمني استباحة العنف تجاه أي فعل «سافر».
استتار مفاهيمي
يتقاطع الالتباس المفاهيمي فيما يخص قضايا الجنس مع ما سماه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا «Trace»، أو اقتفاء أثر الكلمة، حيث كلمةٌ مثل «سرير» لا يستدعيها الذهن مع الصورة المتخيلة عن ذلك المكان المسطح المخصص للنوم فقط، بل يستدعيها في سياق واحد مع كلمات مثل غرفة، بيت، نوم، سكون… إلخ، أو يستدعي كذلك في سياقها كلمات مضادة مثل تعب، مرض، عمل، مشقّة… إلخ، بحيث لا يمكن للكلمة أن تقع في فضاء منفصل مع مدلولها، وإنما تستجلب شبكة من المدلولات المرتبطة، والمتقاطعة مع مسار هذه الكلمة، فيتحدد معناها داخل الجملة بما يتركه أثر كلمة سابقة أو لاحقة عليها، أو ربما كلمة غائبة عن الجملة ككل.
كلمة «جنس» أيضاً قد تأتي في أثرها كلماتٌ مثل متعة، نشوة، حميمية، حب؛ غير أنها في واقعنا العربي وعبر الخطاب السياسي، الديني والاجتماعي، تأتي أيضاً في أثر كلمات مثل انحراف جنسي، حُرمانية، تحرّش. ولا يقتصر ذلك على النسق الرمزي للغة، وإنما تمتد جذور كل كلمة بشكل أعمق إلى ما تمثله في الوعي أو اللاوعي من أفكار تشتتها المدلولات المختلفة لكل كلمة من تلك الكلمات، فتقتفي أذهانُنا آثارها في مسارات شعورية تستدعي الذنب وجلد الذات من قبل المُعتدى عليه، والتمادي في العنف من قبل المعتدي.
ضمن هذا الالتباس، لنحاول فيما يلي أن نفكر معاً في العنف المُضمّن والمُستتِر في أغلفة لفظية، الذي تتبناه اللغة بما يتكثف داخلها من أثر؛ trace. ستشاركنا التفكير ناجياتٌ تعرّضنَ لنوع أو أكثر من الاعتداءات الجنسية، وشباب وشابات ينتمون إلى الطيف الواسع من الميول الجنسية، متتبعين مسارات تلك الكلمات، لتفكيك ما يحدث على المستوى النفسي، بشكل أخص في الحالات التي يتجلى فيها هذا الالتباس المفاهيمي ومن ثم الشعوري.
اغتصاب/حلال
هند هو اسم مستعارٌ لشابّة في السادسة والعشرين، تناقشنا معها حول هذه الأسئلة. لم تكن هند قد تجاوزت السابعة عشرة عندما تزوجت من رجل أربعيني، وعندما وصفْتُ زواجها في سياق الحديث على أنه زواج بالإكراه، اعترضت هند على هذا الوصف:
«لم يكن إكراهاً، نعم زوَّجَني أهلي طلباً للمال، لكني لم أوافق ولم أعترض، الإكراه أتى فيما بعد، لأني لم أعرف وقتها شيئاً عن الجنس، أتذكر شكواي لأمي بعد الزواج ببضعة أيام، من إجباري على فعل أشياء وسخة (على حد تعبيرها)، فأخبرتني أمي، أنني حلاله، ويحق له فعل ما شاء، وأن عليَّ الامتثال لطلباته دون أن تخرج هذه الأسرار خارج البيت، ‘ولا حتى لأمك’».
هذا التعبير الذي أتى على لسان الأم؛ «حلاله ويحق له فعل ما يشاء»، يتكرّر في الخطاب الاجتماعي متأثراً أيضاً بما يروجه كثيرٌ من رجال الدين عن وجوب طاعة الزوجة لزوجها، مُحيلاً إلى قيمة «الستر» وإبقاء أسرار البيوت داخل البيوت. تصبح مفردة «حلال» مغلِّفة للاغتصاب وساترة للعنف المُبرَّر من قبل السلطة الدينية، التبرير الذي يتطور متجاوزاً ستر العنف ضد الفعل «السافر»/«المحرم»/«الزاني»، فيضُمُّ تحت مظلة الستر العنفَ الموجَّه لمن هم داخل منظومة «الحلال» و«الصلاح» الأخلاقي أنفسهم.
بذلك، تتمكن مفردة «حلال» من إزاحة الفعل العنيف عن عنفه حتى داخل عقل المُتعرِّضَة للعنف، فتعود باللوم إلى ذاتها كي تجعل ذلك العنف منطقياً.
«كان رجلا كريهاً، لكن كرهي له تلاشى بعد وصولي للنشوة لأول مرة، كانت لحظة مُربِكة، تحوَّلَ فيها كل كرهي له وصار لوماً مُوجَّهاً إلى نفسي… ‘حسيت إني أنا اللي واحدة وسخة’».
«لم أصل للنشوة مجدداً، لكن طبيعة مخاوفي تغيرت بعد هذه اللحظة، كان خوفي من الوصول إلى النشوة في كل مرة يمارس فيها الجنس معي أكبر من خوفي منه، واستمرَّ الرعب إلى أن تم الطلاق بعد عامين، لكنني احتجت فترة طويلة للتعافي بعد الانفصال».
هند لم تكن الوحيدة التي اختبرت استجابة جسدية أثناء الاعتداء الجنسي، ففي ورقة بحثية نُشرت في جريدة الطب الشرعي السريري
ذهب البحث إلى أن الوصول للنشوة الجنسية أثناء الاغتصاب قد يحدث بشكل بيولوجي طبيعي، كاستجابة لمحفز جنسي، بينما يظل العقل الواعي رافضاً ومقاوماً للمُغتصِب.
ربما يكمن رعب الاغتصاب إذا حدثت أثناءه نشوة جنسية، في أن يشعر المُغتصَب ولو للحظة أنه استمتع بالأمر، لأن العنف الجنسي في تلك الحالة سوف يستتر تحت «النشوة/المتعة»، وتتحول المواجهة فجأة من مواجهة المُغتصِب إلى مواجهة الذات، والضياع في فلك سؤال: «كيف لي أن أستمتع بذلك؟».
بذلك، يضيع التتبع الصحيح لأثر كلمة «اغتصاب» تحت طبقتين، الأولى بوصفه «حلالاً» لمجرد أنه مُمارَسٌ من قبل الزوج، والثانية بإلغاء حدوثه حيث أبطلته الاستجابة الفيزيولوجية، بحيث تربط الناجية النشوة بالمتعة كحقيقة مطلقة، وتستنتج من ذلك أنها ربما استمتعت بالعنف، وبالتالي «هي اللي واحدة وسخة» بحسب تعبير هند.
وحتى إن لم تَخلُص إلى هذا الظن، ستنتظرها الوصمة الجاهزة، «يتمنّعنَ وهن راغبات»، التي يحاول الخطاب الذكوري إلصاقها بالناجية في حالة كتلك، مستنداً لإرث اجتماعي وديني عن حق الزوج في ضرب زوجته إذا ما منعته عن «حقوقه الشرعية في النكاح»، ليكون الفعل العنيف هنا جُرماً مضاعفاً، يتعدَّى اقتحام المغتصِب للجسد الفيزيائي ويمتد ليخلق ما يمكن تسميته بالجسد المتآمر للمُعتدَى عليه، حيث يكون الجسد الذي يتصرف وفقاً لطبيعته الفيزيولوجية، هو المذنب الأول، بشكل قد ينفي حتى التهمة عن المعتدي وينسبها للناجية التي «استمتعت».
هنا ينمو لدى الناجية شعورٌ بالخذلان، وتشكّكٌ في المشاعر التي تم اختبرتها أثناء الاعتداء وفي مُسمّاها، ويشتبك مسار كلمة «اعتداء» مع مسار مألوف للـ «متعة»، في تشويه للأخيرة وإخراج قسري لها من دائرة الألفة لتُلقى في دائرة الاغتراب.
تحرّش/شرموطة
هناك من الناجيات من لا يملكنَ وعياً حقوقياً يمكّنُهنَّ من توصيف الاعتداء كشيء خارجَ نطاق مسؤوليتهن، فيتم إرجاع الاعتداء لأسباب تحددها منظومة القيم المهيمنة أيضاً، ويؤكد عليها المحيط الاجتماعي الخاص بالناجية من أهل وأصدقاء، حتى يسيطر على المشهد شعورُ جلد الذات بدلاً من الرغبة في أخذ الحق، كما هو الحال مع هند. لكن، حتى وإن تقدَّمَ الوعي الحقوقي لناجيات أخريات، تظل القيم التي كرَّسَها الخطاب الديني، الاجتماعي والسياسي، فاعلة حتى ولو على مستوى لاواعٍ، ويتجلى ذلك بشكل أكبر كلّما كان الاعتداء واقعاً في منطقة من الالتباس، كأن يتم التحرّش من قِبَلِ من هم مألوفون بالنسبة لها، متقدمي الوعي النسوي أيضاً، والمدافعين عن حقوق المرأة.
سعاد هو اسم مستعار لسيدة عاملة في السابعة والعشرين، شاركتنا التفكير في موضوع المقال، وتحدثت عن تجربتها مع التحرّش.
«القصة عند البنت دائماً ما تنقسم لقسمين: التجربة نفسها بكل أذاها ومخاوفها، ثم استرجاع الأحداث والهواجس المصاحبة للحدث مرة بعد مرة. يحدث الإيذاء عندما تستعيد البنت تفكيرها في الحادثة دون أن تتمكن من تجاوز هاجسها بمسؤوليتها عن الأمر، وكأنها هي نفسها هيأت ظروفاً معينة ساعدت المتحرّش على فعله، وتجاهلت علامات تقول إن الأمور ‘ماشية في السكة دي’. يحدث ذلك لأن المجتمع يحاصر البنت بين صراعين، صراع تحقيق ذاتها في شغلها والخروج من وصمة البنت الضعيفة المكسورة بأن تحاول أن تكون أجرأ وأشجع، مقابل وصمة أخرى للبنت الأجرأ والأشجع بوصفها سهلة أو غير محترمة؛ ‘حاجه كدا زي المشي على الحبل’».
«كنتُ أعمل وقتها في التسويق، العميل صاحب كافيه كبير، ونحن ثلاث فتيات كنتُ أنا الأجرأ بينهنّ والأكفأ في عملي. بدأ الكلام في العمل، وبعدها أصبح مصحوباً بمُلاطفات جانبية من طرف العميل، ثم عرض عليَّ الارتباط بشكل مباشر. طلبتُ منه فرصة للتفكير، حتى مرَّ وقتٌ كافٍ ليصير شخصا مألوفاً لي. حافظنا على التواصل بالتليفون بعد انتهاء العمل، ثم في مقابلة أخرى عرض توصيلي بسيارته، قال لي: ‘هناخد جولة بالعربية ونتكلم’. مشى في شارع بعيد، في منطقة غير حيوية، وفجأة لمسني، مسك يدي ووضعها على عضوه، كنتُ أقاوم، لكنه استمرّ، وضع يده داخل ملابسي التحتية، ‘كنت مبلولة من تحت’، وعندما شعر بالبلل ابتسم وقال إنه يحب ذلك، لحظتها صرت عنيفة وقمت بصده. فشتمني بـ’الشرموطة’، توقفَّت علاقتنا بالتأكيد. لكن ما لحق الأمر من هواجس ومشاعر وأفكار كان هو الأسوأ».
مرة أخرى يستتر «التحرّش» كعنف مُبرَّر في ذهن المعتدي، بمجرد أن تظهر في الصورة لفظة «شرموطة»، ثم يتعدى التبرير بفضل كلمة «شرموطة» نفسها إلى لاوعي المُعتدَى عليها، لمجرد استجابتها الفيزيولوجية لتحفيز جنسي.
«الآن حينَ أُعيد تفكيري بالصراعات الداخلية التي مررتُ بها بعد هذه التجربة، أشعر بأن ذلك ما يزال مؤلماً، فالأمر لم يتوقف فقط عند تعرّضي لحادثة تحرّش مؤسفة من شخص كريه، لأن الفترة اللاحقة بأكملها كانت مليئة بالتناقضات التي جعلتني أكره نفسي وأعتبرها هي أيضا شيئاً كريهاً. في البداية كرهت أنني لم أستطع المقاومة في الموقف ذاته بطريقةٍ كافية، وظللت أسترجع الموقف بتسلسل مختلف أنا فيه أكثر عنفاً في صدّه وفي الدفاع عن نفسي. كرهتُ أن جسدي قد تجاوب لحظة الحادث، ما جعلني أنهزم تماماً أمام فكرة أنني نوع سيئ من الفتيات، يستجيب بلا مقاومة للأمور الجنسية، أنني قد أستسلم للأمر بمجرد تحفيزي، وأن نقطة الضعف تلك واضحة بحيث يمكن لهذا الرجل أو غيره أن يشمّها من بعيد.
التفكير في هذا لم يكن الشيء الأسوأ، فبعد تعرضي للحادثة بدأت رغباتي الجنسية تخفت، وكنت أبتعد عن التفكير في أي علاقة مع الجنس الآخر. لكن في الأوقات التي كنت أقوم بها بتحفيز جسدي كنت أستعيد بشكل لاإرادي مشاهد معينة من الحادثة نفسها، ربما لاستدعاء الانفعال الناتج عن ذلك الذي يزيد من استجابتي الجنسية، أو لوضع الاعتداء في إطار إيروتيكي لتجاوز أثره المفجع كما قال طبيبي، أو حتى استدعاء الفعل الجنسي في العادة السرية بشكل عنيف كعقاب موجه إلى جسدي الذي لم يقاوم بشكل كاف. أياً كانت الأسباب، فقد تركني الأمر مع شعور هائل بالقرف والاستياء من نفسي، كأنني سمحتُ بتكرار الحادثة مجدداً، ما عظَّمَ التأثير السلبي لتلك الحادثة وقسَّمني إلى شخصين: شخص كريه يجبرني على خوض تجربة مثيرة للقرف مرة بعد أخرى، وشخص آخر يملؤه الاستياء من نفسه».
تحرّش/تَفتُّح
يمكن اعتبار ما سبق اعتداء صريحاً، كان المعتدي فيه محدداً، وقابلاً للمقاومة، حيث طرفا الصراع واضحان: مُعتدٍ و مُعتدى عليه. إلا أنه في بعض الحالات يحدث ما يمكن تسميته بالتحرّش المتخفي، فيقترب المتحرِّش من ضحيته دون أن يعلن الحرب عليها، يلمسها في مناطق حميمية متظاهراً بعدم الانتباه، يتحين الفرصة للمرور خلفها في مكان ضيق، أو يلمس أسفل نقطة في ظهرها أثناء عناق للتحية، بهذا النوع تحضر كل طقوس الاعتداء، لكنها تظل بلا مُعتدٍ واضح.
هنا يحل محل المعتدي المجهول، معتدٍ ذاتي هو هواجس المعتدَى عليه نفسه. حالة من الشعور بوجود خلل ما، لكنه هذه المرة يحدث على المستوى النفسي، وكلما كان الشخص مألوفاً، كلما صعبت مهمة نسب هوية المعتدي/ المتحرش، إليه. ثم يستثير المعتدي الذاتي هذه الرؤية المغتربة للجسد، رغم البديهية التي تفترض ألفته.
في تلك الحالة، يستتر العنف الجنسي تحت مفردة «التفتح»، لتتخذ الكلمة مدلولاً مُرهِّباً يهدد باتهام المعتدى عليها بالانغلاق الفكري والتحفظ، ويقتفي آثاراً غير مرغوبة للكلمة، ما يترك المعتدى عليها تائهة وسط أفكار متناقضة، في حالة تشبه التجمد التي تتعرض له بعض الناجيات وقت الاغتصاب.
تستكمل سعاد سرد هواجسها تجاه ما سمته «التحرّش المتفتح»:
«هناك نوع من التحرش لا تستطيع البنت مواجهته، ليس لضعف فيها، لكن بهذا النوع يكون المتحرش ‘حاسب لمساته كويس’، بحيث تظل في منطقة غير محددة بين التحرش والعادية، مثل المتحرشين الذين من الممكن أن يكونوا أصحاباً ومعارف، يتحرشون من وراء ستارة التحرر والتفتح. هذا النوع من التحرش يتجاوز الإعتداء على الجسد ليكون إعتداءً واضحاً على الهوية والأفكار، ويكون موجهاً للفتيات اللواتي يخترن الخروج من تحت مظلة المجتمع ليكُنَ أكثر تحرراً وفعالية. نعم، السلام والاحتضان طريقة بشرية قديمة للتحية، لكن البعض يستغلها للتحرّش، معتمداً على هذا الميراث من العادية، وعلى نظرة سخيفة للبنت المتحررة باعتبارها لا تهتم بوضع حدود مع الآخر. هنا يتم وضع البنت في موقف من الشلل الكامل، لأن رد فعلها يُقاس وفقاً لمسطرة التحرر. ‘متقدرش البنت تحط تهمة واضحة أو تتخانق، هي بس بتسكت مرة واتنين وتلاته لحد ما تتأكد، وتفضل في منطقة لوم الذات بعد ما تبعد، والمشكلة هنا إنه البنت ممكن تفكر إن طريقتها في الحياة هي المسؤولة عن تعرضها لمثل هذه المواقف أكثر من غيرها’».
سألتُها كيف تتأكد من نوايا المتحرش، إذا لم يكن الاعتداء الجنسي صريحاً، وردَّت بأن التشكك هو الأصل في مجتمع مثل المجتمع المصري، لكن يحتاج الأمر عادة إلى بعض الوقت، تقرأ فيه البنت شخصيات الذين تلتقيهم وتُقيّمُ سلوكهم حسب مبادئهم وأفكارهم، والأهم أن تكرار الأمر وحدوثه عادة مع فتيات أخريات ربما بشكل أوضح، ما لا يجعل الحدس في النهاية شيئاً أعمى.
غير شائع/خَوَل
بذكر العنف الفيزيائي المتمثل في الحالات المختلفة للاعتداء الجسدي، تظهر امتدادات لهذا العنف أيضاً على مستوى الخطاب المتفاعل مع الميول الجنسية غير الشائعة، بالإرهاب الذي تمثله الصورة/ النموذج الذكوري والأنثوي على السواء، ثم بِستر هذا العنف تحت إدعاءات الشذوذ وإفساد المجتمع.
كلمة «خَوَل» ترتبط في العامية المصرية بالمثلية الجنسية، فتأتي ساترة للعنف المبطن تجاه المثليين، لكنها أيضا ترتبط بميزان القوة بين الغيري ونظيره المثلي.
نجد أن مفردة «خَوَل» في العربية الفصيحة لها معان ترتبط بالاستعباد، الخدمة والتملّك، فبحسب المعجم الوسيط مثلاً، الخَوَل هو العبد المملوك. إلا أن ذلك المعنى يبدو ذا علاقة وطيدة كذلك مع معناها الشعبي في العامية. علاقة غير معلنة، تحاول تأكيد تفوق الغيري على نظيره المثلي وإذلاله وامتلاكه، حيث تتخلى المفردة حتى عن دقة إلصاقها بالشخص المثلي في المطلق، لتكتسب دلالة مرتبطة فقط بالشخص المتلقي لعملية الاختراق، كأن المجتمع لا يرفض الفعل المثلي لكنه يرفض الشخصَ المرتبطَ في العقل الجمعي بالضعف والإذلال.
تظهر تلك المفارقة الذكورية أيضاً في العديد من النكات الجنسية المصرية التي تتلقى المثلية برحابة طالما أن الفاعل فيها يحافظ على النموذج الذكوري المعتمد، ما يهدم في الحقيقة الحاجز بين الهويتين الغيرية والمثلية، ويُبقي على مخاوف النبذ والهرب من الإذلال المجتمعي.
مصطفى شاب في أوائل الثلاثينات لم يكن يوما مثلياً، إلا أن ذلك لم يعفيه من صفة «خَوَل» بسبب ميله الجنسي لممارسات سادومازوخية، وهي ممارسات جنسية تتضمن قدراً من العنف والإذلال واستعباد الشريك الجنسي والاستمتاع بالألم. يقول مصطفى إنه اختبر ميله الجنسي في سن مبكر للغاية، حتى قبل وصوله سن البلوغ، كانت خيالاته الجنسية مقتصرة فقط على شكل مازوخي جنسياً، ما جعله يختبر رفضاً غير مبررٍ لنفسه، لمجرد أنه لا يعكس الصورة الذكورية النموذجية؛
«جزءٌ من رفضي للميول كان يظهر في شكل غريب، يتمثل في أن خيالاتي الجنسية في البداية كان موضوعها أشخاصٌ آخرون، بمعنى أنني كنتُ أرفض تماماً تخيُّلَ نفسي في موقف مُهين وضعيف، وعوضت ذلك بتخيل أشخاص آخرين يحصلون على متعتهم الجنسية بالتعرض للألم والإذلال المفروض عليهم من سيدات جميلات».
اتّخذَ هذا الإنكار لدى مصطفى شكلاً أكثر تطرفاً فيما بعد، عندما تحوَّلَ بطرق غير واعية لإنكار الجنس نفسه في تفاصيل صغيرة مثل الهوس بالتخلص من آثار العادة السرية حتى بعد أن عاش بعيداً عن بيت العائلة. كان يغسل ملابسه الداخلية إذا وجد عليها أي أثر ولو صغيراً لسائله المنوي، ويتخلّص من تاريخ تصفح الانترنت أولاً بأول، يتجنّب الحديث عن الجنس مع أقرانه، بالرغم من كون المجتمع الشبابي في مرحلة الجامعة يرتب أولوياته عادة في الجنس ثم الجنس ثم الدراسة. الهوس الذي كان ربما محاولة للدفاع عن استقرارية المألوف الجنسي، لكنه وبشكل أكبر هوسٌ دفاعيٌ عن نموذج «الرجل» المُحتفَى به، الذي يغلف العنف المضمر من قبل النمط المجتمعي السائد.
«وقتها مكنتش بملك من الثقافة غير النمط الاعتيادي عن الذكورة المرتبط برؤية المجتمع والخلفية الدينية لعيلتي. كان شيء صعب ومخزي، ودخلني في نفور من كل ما يخص الجنس، واكتئاب لمدة طويلة أثناء المراهقة، لكن بعدين تقبلته لما بدأت أقرا إنها ميول عادية مش مَرَضية، طالما إنها بتخضع لضوابط السلامة».
غير شائع/غريب
«الشذوذ» يستدعي إلى الذهن «الغرابة»، والغرابة عادة ما تستدعي الوحشة والنفور، بينما «غير الشائع» يستدعي «الاختلاف». والاختلاف بدوره يستدعي احتمالات أكثر اتساعاً، فهناك اختلاف إيجابي، واختلاف سلبي، واختلاف محايد، مما يضطر مُستخدِمَ كلمة الاختلاف إلى شرح سياق الاستخدام.
هذا الاختلاف في استخدام المصطلحات يُحدِثُ فرقاً كبيراً في الذهنية المتلقاة للشيء موضوع الوصف؛ نجد هنا أن الغرابة تحمل بشكل مباشر معنىً جاهزاً، بينما الاختلاف يستدعي أخذاً وردّاً لتحديد المدلول، وتكمن في تلك العملية البسيطة ميكانزماتٌ متغيرة للتفكير.
ربما تحضر هنا مقالة سيغموند فرويد المنشورة بعنوان The Uncanny، كامتداد لمفهوم الأثر trace عند دريدا، والتي يتحدث فيها عن هذا النوع من الغرابة الذي يظهر فجأة داخل الشيء المألوف والحميمي، متتبعاً الكلمات المنحدرة من الجذر اللغوي «Heim»، الذي يشير في الألمانية للـ «بيت»، فيجد أن كلمة Heimlich قد يُقصد بها «المألوف» و«الحميمي» و«البيتي»، بينما كلمة Unheimlich المضادة لها لا يُقصَد بها الضد/ غير المألوف في المطلق، وإنما تعني: ظهور الشيء الغريب داخل إطار البيت.
كيف يتجلى ذلك في تعريفات الميول الجنسية المختلفة/ غير الشائعة؟
مريم فتاة مثلية الجنس، تحكي كيف اختبرت أثر الهستيريا المجتمعية ضد المثلية في تكوين اغترابها عن جسدها؛
«لا أعلم من أين أبدأ كلامي بالتحديد، لكن من الممكن أن أحكي عن أول مرة رأيت فيها حبيبتي الأولى بلبس مفتوح، وعن دهشتي وقتها. لم أفهم لماذا يجذبني المشهد، ولماذا أريد التحديق أكثر وأكثر. مازال المشهد محفوظاً في ذاكرتي منذ أن كنت في الثامنة عشر تقريباً».
«بدأ انجذابي يتكون تجاه تلك البنت الوحيدة التي شكلت لي العالم بأكمله، ‘كنت بغازلها وبفضل مبحلقة فيها كتير وأنا مبتسمة وهي مستغربه من اللي بيحصل’. وقتها لم أكن قد رأيت بنتاً عارية أو بملابس مفتوحة. كان وجهها، شفتاها، نمشها، يشكل لي جمالاً شاسعاً، ولوقتها أيضاً لم أكن قد عرفت شيئاً عن الجنس، أو أن تكون تلك الرغبة في النظر إليها رغبة في ما هو أكبر، أعني ما هو جنسي. مشاعر الحب لم تسبب مشكلة لي، لكن الصادم كان اكتشاف انجذابي لجسدها، كان شيئاً مُفزعاَ ومُحفّزاً للشعور بالذنب، ‘إنو مينفعش أشوف البنت بالطريقة دي’، كانت المشاعر متضاربة ما بين حب المشهد الذي أراه في خيالي وبين ندمي على التفكير فيه. كنت أنظر إلى ساقيها ثم أُبعد عيني فجأة، وأحاول تشتيت تفكيري بشيء آخر. فكرتُ في نفسي؛ ‘يا ترى ليه عاجبني دا؟!’، وقلت ‘يمكن بس عشان أول مرة أشوفها لابسه قصير؟’. فكرتُ أن الأمر بإمكانه أن يكون مجرد فضول لمعرفة تكوين جسم المرأة، في محاولات دائمة لتخفيف حدة الموضوع واعتباره أمراً عادياً. عندما كنتُ أشاهد البنات العرايا على الإنترنت، كنت كل مرة أقول ‘دي آخر مرة أعمل فيها كدا، وبرجع تاني’. كنتُ خائفة من مشاعري تلك، وفي أوقات كثيرة كنت أفكر بسؤال صديقاتي؛ ‘هل بيحسوا زيي بِدا؟ وكنت بخاف أسأل فكنت بسكُت، كنت بعتبرها نزوة وهتروح لحالها، وإنها فترة وهتعدي’. لكن عندما تأكدت من ميولي، بدأتُ أشعر أنني مسخ، وحاولتُ الاهتمام بالرجال ولم أنجح بالطبع؛ ‘كنت بتفِصِل ومبعرفش أكمّل’. بقيت هذه الرغبة في التغيّر وإنكار الأمر لوقت طويل، حتى أنني لتخفيف الأمر اعتبرتُ نفسي بايسيكشوال، ‘مزدوجة الميل الجنسي’، لا مثلية».
هذا الإنكار والشعور بالتماسخ يأتي هذه المرة من داخل البيت، بأن يتجلى الميل الجنسي المستغرب والمرفوض دينياً وأخلاقياً، الذي هو «اختيار الفسقة والفاسدين» كما يُروَّجُ له مُجتمعياً، وبالتالي هو شيء مبعد عن الذهن الواعي للطفلة الطيبة ذات التربية السليمة؛ أن يأتي في جسدها وأن يكون أقرب إليها مما تصورت. أن يُرى الغريب داخل البيت ويلبس ثيابنا المألوفة، فينتج عن ذلك رهبة أكبر من تلك التي يمثّلها الغريب الشيطاني البعيد عنا.
بايسكشوال/مُسترجلة
ماذا عن البايسكشواليتي إذن؟ «هل يكون مزدوجو الميل الجنسي أعقد من المثليين؟ كيف يتعامل البايسكشوال مع شريك جنسي اعتيادي لا يتقبل أشياء مختلفة؟ ليس جنسياً فقط ولكن إجمالاً؟ هل تعطي البنت البايسكشوال إيحاءً بأنها رجولية؟ أو أنها أنثى غير مكتملة الأنوثة؟ والعكس، ما هي نظرة الأنثى للذكر مزدوج الميل الجنسي؟ إذا تخيلنا العلاقة بين شريكين بايسكشوال، كيف يتفاعلان فيها؟ هل سيشعران بارتياح مع شريك غيري الجنس بشكل أكبر؟ هل الشريك غيري الجنس يجعلنا نستشعر هوياتنا الرجولية أو الأنثوية بشكل أكبر؟ ما مدى أهمية الشعور بالهوية الجنسية للاستمتاع بالعلاقة؟ مهم جداً، أم أنه غير مهم بالمرة لأنها مجرد مفاهيم مفروضة من المجتمع؟».
عطية هي فتاة سورية مزدوجة الميل الجنسي في الخامسة والعشرين من عمرها، تطرح هذه الأسئلة الوارد أعلاه، دون أن تجد لها إجابات بعد، بحسب ما ذكرت في حديثها معنا؛ «تجربتي ذاتية وما فيي عمّما، أنو مثلاً أنا لأني ربيت مع أم قوية وأبي كان بعيد، طلعت فيي صفات رجولية أكتر».
للسبب نفسه تصرّ عطية على اختيار اسمٍ مستعارٍ مُذكّرٍ لنفسها، احتفاءً بتلك النسخة الذكورية المُتخيَّلة التي تحملها فوق ظهرها، والموصومة من قبل المجتمع.
عطية لم تختبر الغرابة تجاه ميولها سوى في مرحلة العشرينيات من عمرها؛ «بما إني قبلا ما كنت مارس شي فعلي».
حتى مع شركاء جنسيين متقبلين لطبيعتها الجنسية، لم تسلم من اختبار الغرابة، حتى تحوّلت نظرتها الرومانسية لجنسانيتها؛ «كنت حاسة كأني مخلوق خيالي عم يمارس أشياء جميلة»، إلى نظرة أقرب للهوس بشأن رؤية الشريك الجنسي للأمر، وبشأن استمتاعه ومدى رضاه. كانت تسيطر عليها أحياناً مشاعر مقتٍ للذات، ليس لشعور بالذنب، ولكن نتيجةً لهاجس عدم الكفاءة التي سيفكر فيها الشريك، أو لأن أشياء معينة لم ترغب في فعلها أثناء الممارسة قد يتم تحميلها لميولها الجنسية، بالرغم من أن ذلك يكون عادياً إذا أسقطنا الميل الجنسي من المعادلة.
كلمة أخرى: اعتداء
ربما ما يمكن أن ننتهي إليه هو أن الكلمات كثيراً ما تستتر تحت غلاف أو أكثر من كلمات أخرى، ما يجعلنا أحياناً نختبر أكثر الأشياء غرابة في أكثرها حميمية، وأن ذلك لا يجب أن يستدعي لوم الذات بالضرورة، تلك هي الطريقة التي تعمل بها أجسادنا فحسب، أن ندرك الخلط الحادث في أذهاننا أحياناً، الخلط غير الواعي بأن المعتدي هو من يلعب تلك اللعبة لنفي التهمة عن نفسه، وألّا ننسى ونحن نقتفي أثر الكلمة تسمية الاعتداء اعتداءً وتسمية المعتدي باسمه. إن المعتدي الفرد، يمكنه أيضاً أن يأخذ شكلاً جمعياً على مستوى الأفكار المجتمعية القامعة، التي تتكرس فينا منذ الطفولة، ما يجعل تفكيكها فيما بعد عملية لا تسلم من تجربة الاغتراب عن أنفسنا وأفكارنا التي تربّينا عليها، ليكون الجميع مُعتَدىً عليهم نفسياً أو عضوياً، ويختبرون الغرابة ضمن أول بيت لهم؛ الجسد.