لا يمر الوقت سريعاً منذ وصلت إلى مدينة بوردو الفرنسية، لا أعرف إن كانت تسميته بـ «الثقيل» ستفي بالغرض، خاصة وأن الشتائم لم تعد تُشعرني بالراحة، بعد أن استنفدت مظاهراتُ لبنان شعوري بالدهشة في محاكاة المشهد الذي رافقني خلال السنة الأولى من الثورة في حلب؛ وقتها كنّا وصديقي، الذي استشهد فيما بعد، نخرج إلى «الصنم»، وهو شارع يحيط بحلب على شكل قوس، لنشتم هناك من نريد دون خوف.
في مطلع الشهر الماضي كان فيلم إلى سما حاضراً بقسوة في واحدة من دور العرض الفرنسية، الفيلم الذي يوثّق مرحلة حلب الثورة والحصار. مزيجٌ من المشاعر المضطربة قست على روحي منذ رؤيتي للصورة الأولى على بوستر الفيلم، الذي يظهر فيه شارع الحلوانية في حي طريق الباب، مع كثير من الرموز الفرنسية لأحرف ما زلتُ أجهل فكّ طلاسمها.
تأملتُ الصورةَ المقصلة، أول الطريق يبدو دكان بائع المشبك مغلقاً، يقابله فول «النكمة» إلى جانب مدرسة الكفاح، لتحتل بناية «الباخرة»، أو «الحماصنة» كما بات يطلق عليها بعد أن سكنها مهجرو حمص، المساحة الأوسع. هناك في الطابق الأول من الزاوية، ودون ستارة مقلمة بالأزرق والفضي ربما نَزَحَت هي الأخرى، بيتي الذي شهد زواجي خلال الثورة، بغرفه الثلاث التي طليت بألوان زاهية. أتخيل كمية الغباء الذي كان يرافقني وأنا أطلي غرفة بلون زهري!
كنت سأكذب وأنا أحاول أن أتقمّص شخصية الحزين خلال المشاهد الأولى من الفيلم، جهّزتُ نفسي للبكاء على شوارع المدينة، لكني لم أفعل، أو من المؤكد أني حاولت ولم أستطع.
منذ يومين كتبت صديقتي عن نوبة البكاء التي اجتاحتها خلال مشاهدتها للفيلم، تراءى لي المشهد: فتاةٌ جميلةٌ تجلس وحيدة في آخر مقاعد دور العرض، تبكي مدينتها التي بات من الصعب استحضار صورها في الذاكرة، أمام كل لقطة كانت ستقفز وتكمل للحضور القصة من بدايتها، إلا أنها اكتفت بالتحديق وإخفاء وجهها بين يديها، كعادتها التي أعرفها جيداً حين تشعر بالغربة. قالت لي يوماً حين كنا نمشي في شوارع حلب القديمة إنها لا تجيد الكلام والكتابة حين يسود الصمت؛ في دار العرض أجزم أن الصمت كان يلفّ المكان، وهو ما منعها من ممارسة جنونها بالصراخ والشتائم أيضاً.
صوت القصف الذي ما زال يرن في أذني، وأفقدني أكثر من نصف سمعي، لم يفلح أيضاً في إخافتي من جديد، كان بيت وعد، صاحبة الفيلم، يهتز عند كل قذيفة، وكان صوتها يرتجف، وكنتُ أبحث عن شخص بجانبي يجيد العربية لأبرّر له عدم تأثري.
صورة الطفل الذي شهق بالبكاء بعد محاولات حثيثة من الطبيب لإنقاذه بعد عملية قيصرية لأمه التي ولدته مبكراً جرّاء الخوف، الخوف نفسه الذي نقلني إلى ولادة شمس في مشفى الحكمة بكفرنبل، على يد طبيبة مهجرة هي الأخرى، وفي قبو معتم، دون أن تكمل حضانتها كجنينة لتسعة أشهر؛ أرادت الخروج إلى الحياة باكراً هي الأخرى، ولكن مع رئة غير مكتملة.
زوج الطبيبة قُتل أيضاً في قصف على مشفى الأورينت. قلتُ وأنا لا أشاهد الفيلم وأكذبُ محدّقاً في المشاهد التي تُعرض أمامي: حياة مقابل حياة، وموت لا يعوّضه موت.
أمهات يبكين موت أطفالهنّ، تصرخ إحداهنّ في وجه المخرجة بكلام لا يبدو واضحاً تماماً، لكنه يتراوح بين رفضها تصوير كل هذا الألم وبين رغبتها في نقل الصورة إلى العالم
كنت سأكذب وأنا أشاهد رجلاً فرنسياً وصديقته في المقعد أمامي بأيدٍ متشابكة. كانت الفتاة تبكي، وكان يحاول أن يريح رأسها على كتفه، دون جدوى، فالمقاعد الممتلئة أجبرته على الجلوس على أرضية الصالة، بينما ترك لفتاته الكرسي الوحيد، وحين نظر إليَّ وجد كرسياً فارغاً إلى جواري، لكنه لم يُطِل جلوسه أكثر من بضع دقائق؛ بَحثَت يدا الفتاة عنه لتعيده إلى مكانه بقربها. كيف يمكن لأي شخص أن يحتمل كل هذا الألم وحيداً. كنت سأقول له إني أتفهم ما يحدث، ولكني صمت، فالجميع يبحثون عن كتف أو قلب يحتويهم في لحظات الضعف. أعادني المشهد إلى زوجتي في حلب يوم قصف منزلنا، وقتها بحثَت عني فلم تجدني، وعندما طلبتُ منها مغادرة المنزل الذي لم يمضِ على وجودها فيه سوى ثلاثة أيام، بكت. كنتُ سأكذب وأنا أخبرها أني لست خائفاً، ولكني لم أفعل، ضممتُ يدها ومشينا نحو غرفة الضيوف، أزحنا الزجاج المهشم عن سجاد الأرضية وتناولنا العشاء الأخير في منزل زواجنا.
لا أعرف كيف احتملت أي امرأة في حلب ألمها وحيدة وهي تصنع من اللاشيء طعاماً، وهي تودّع طفلها الصغير وتهيل عليه التراب. كيف تحمله وتحكي مع الجثة الثقيلة على يديها، والتي تحولت فجأة إلى وزن رغيف خبز. والأهم من ذلك، كيف كانت قدماها تحملانها وهي تنظر في أعين أطفالها الخائفين.
يقطع صمت الصالة الساكنة أصوات نشيج للحظة، ثم يغيب. أحياناً كنتُ ألتقط بسمعي الخفيف صوتَ أحدهم وهو يمسح أنفه بعصبية ليخفي دمعه، أو ربما آثار الرشح. وحدي من كان يصدر ضجيجاً بالحديث مع صاحبي ونحن نعيد تذكّر أسماء الشوارع، «هون كان.. لأ هون.. هاد الطريق بيودي لـ..، هون كنا نشتري.. ». رمقتني امرأة فرنسية بنظرة غاضبة فتكورتُ في مقعدي من جديد لأمارس كذبي بمشاهدة الفيلم، بينما أعيش خارج الصورة وفي الذاكرة التي أمتلكُها أنا وحدي، وبعض من لا أعرفهم من المتناثرين في المقاعد.
في عرس وعد وحمزة، الذي أظهر الفيلم بعضاً من مشاهده، كانت ترتدي فستانها الأبيض، الفرح وبعض الورد ولمّة من الأصدقاء القليلين أضافوا للمكان شيئاً من الحياة. ابتسمتُ وأنا أراقب الوجوه الفرحة، مغامرةٌ مدهشةٌ أن تتزوج امرأة وسط الدمار والموت وصوت القذائف. يوم زواجي كانت المنطقة تعيش حظراً للتجول يبدأ منذ السادسة، كان الزمان وقتها «حملة البراميل»، والمكان «باخرة الحماصنة» وسيارة الزفة «بيك آب» أنزل صاحبه قبل دقائق سلاح الدوشكا من عليه، وبقيت قاعدته وسط السيارة كأصبع وسطى في وجه الطائرات التي تملأ المكان. بينما كانت هدية عرسي صاروخاً فراغياً في الرابعة فجراً أخرج النوافذ والأبواب من مكانها، وتركني وسط كوم من التراب والزجاج ومدخنة «القاظان» (سخان الماء) المسدودة.
لم يمرّ الفيلم بسرعة. كان الوقت طويلاً وثقيلاً على الجميع، وأنت تراقب الوجوه المتغيرة بين كل مشهد وآخر، مشاعر من الحزن والغضب والابتسامات الخجولة والدهشة في آن معاً، جميعنا صرخ حين أنقذ الطبيب حياة وليدٍ جديدٍ في الفيلم، ليرتاح في مقعده بعد أن تشبثت أصابعنا بالكراسي في انتظار وجبة جديدة من موتنا معروضة على الشاشة. لا أعرف كمّ الفرح الذي تمتلئ به أرواحنا عند سماع صوت حياة قادمة من العدم. كنت سأكذب لو قلت إني لم أكن أنتظر موته، خاصة مع ما رافق الفيلم من مشاهد قاسية انتهت جميعها بالموت، لكن ذلك لم يحدث هذه المرة، «الطفل عاش»، إلّا أن آلافاً غيره ماتوا في السنوات الفاصلة بين تصوير الفيلم ولحظة عرضه تلك، ولم يُتَح لهم/لنا الوقت للانتظار والقلق، أو الحزن والفرح، بعد أن تحول المشهد السوري إلى أرقام، بينما أصبحت صورهم مُخالِفة للنشر بحجة المحتوى الصادم، المحتوى الذي لا يكترث فعلاً إن تأثرنا أم لم نفعل، لأنه في واقع الأمر لن يغير أي شيء.
هل المطلوب من الأعمال الفنية بكافة أشكالها أن تغير واقعاً يعيشه الآن ملايين السوريين؟ لا أعرف ولا أجزم بضرورة ذلك، إلّا أن النقاشات التي ستدور بعد الانتهاء من عرض الفيلم كانت ما يشغل بالي. فرصة قصيرة للراحة أُعطيت ليتمالك الإنسان نفسه، أو ليعود إلى توازنه العقلي بعد ما يمكن أن أسميه «الصداع والقسوة وحلب»، لأهرب إلى الخارج وأمارس بعض التدخين اللازم لترتيب أفكاري التي استُبيحت خلال نحو ساعتين من الوقت. أمام الصالة، دخّنَ بعض السوريين سجائرهم على عجل، بعضهم هرب من المكان، قلّة فقط من عادوا إلى المكان الذي بكوا فيه قبل دقائق.
في الصالة كانت الأسئلة بمعظمها من قبل المشاهدين الفرنسيين، عن مصير حلب! ومصير الناس فيها! باختصار ما الذي حدث وقتها؟
كانت الإجابات من فتاة جميلة فرنسية من أصول سورية لا تجيد العربية، تُرجِمَت لنا بعض أجوبتها التي تحدثت بالعموم عن المدينة التي استُبيحت والجرائم التي ارتُكبت. حضّرتُ نفسي للحديث، وحين بدأتُ كلامي حول وجودي في حلب خلال فترة تصوير الفيلم تراجعت السيدة الفرنسية التي كانت ترمقني بنظرات غاضبة خلال العرض لثرثرتي، بدت مهتمة ومتعاطفة إلى درجة ما، لم تسعفني المفردات للحديث عن حلب، «لم يعد هناك حلب لنتكلم عنها»، الحديث الآن يجب أن يكون عن الحياة خارج أسوار المدينة المحتلة، حيث آلاف الأطفال الشهداء، ومئات الآلاف من الطلاب الذين توقف عنهم الدعم، مثلهم من الذين يعانون البرد وسوء التغذية، عشرات المشافي التي قُصفت، آلاف المنازل والمدارس المهدّمة، هو حصار يشبه ما حدث، إلّا أنه تفاقم إلى درجة كبيرة، يرافق ذلك كله شعور بالخذلان لم تكن تجده خلال الفترة التي وثّقها الفيلم.
«لا جدوى من الحديث»، قلتُ في نفسي وأنا أردد أرقاماً عمّا حصل خلال الأشهر الأخيرة، ليس لأن التعاطف لا يجدي نفعاً، ولكن في الحقيقة كنتُ أعرفُ أن معظم الحاضرين يعرفون مثلي ما حدث ويحدث في سوريا خلال كل هذه السنوات، مع فارق بسيط يلخّصه ما سيترك الفيلم من أثر لتحفيز ذاكرتنا من جديد… الطرقات التي تظهر في الفيلم، المدارس، الدكاكين، الشخوص، قبل أن نعود إلى منازل لجوئنا ونكمل دورة الأوراق غير المنتهية ونبحث عن حلول ومفردات وقصص تبقينا هنا، بعيداً عن الموت والحصار.
لا يعني ذلك طبعاً «موت حلب» بالنسبة لي، بل يعني أنها تحولت من واقع معروض إلى حلم؛ قد تكون لفظة «حلم» مزعجة، لذا يمكن استبدالها بـ «هدف» أو «طموح» مثلاً. كذلك، قد يُفهم من كلامي على أن فيه تقليلاً من أهمية ردّة فعل المشاهد غير السوري على فيلم يحكي مأساتنا، أكيدٌ أني لا أقصد ذلك مطلقاً، بل على العكس تماماً: التعاطف هو ما أحتاجه اليوم. كنتُ سأكذبُ إن قلت أني لم أكن أرغب بمن يربت على كتفي أو يضمني بعد ساعتين من حلب، إلا أني لم أستطع أن أُخرِجَ نفسي من حاضر أكثر قسوة، يشبه الصراخ والشتيمة التي سيهدأ صاحبها بعد دقائق، يشعر بالراحة، ويعود إلى توازنه من جديد.