فشلت جميع محاولات النظام السوري الكثيرة والمتخبطة خلال الشهرين الفائتين في تحقيق أهدافها الرامية إلى ضبط سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، وباتت معدلات التغيّر في قيمتها صعوداً وهبوطاً بنسبٍ لا تقلّ عن 5% بشكلٍ شبه يومي دليلاً على مكانتها المهتزّة وعدم القدرة على احتواء أزمتها. وعلى الرغم من أنّ النظام استطاع دعمها لترتفع قيمتها من 960 ليرة مقابل الدولار الواحد إلى حدود 750 ليرة مطلع هذا الأسبوع، إلا أنّ هذا التحسن لم يستمر أكثر من يومين، وعاودت الليرة فقدان 6% من قيمتها خلال يومٍ واحد أول أمس الثلاثاء، لتصل إلى حدود 850 ليرة مقابل الدولار، وهو الرقم الذي أقفلت عليه أمس الأربعاء بحسب موقع الليرة اليوم.
ولا شكّ في أنّ عدم ثبات سعر الصرف ارتفاعاً وانخفاضاً وتغيّره من ساعةٍ إلى أخرى، كما تُظهر الرسوم البيانية أدناه، يكشف أنّ جميع سياسات النظام النقدية وغير النقدية لاحتواء أزمة الليرة لا جدوى منها على المدى الطويل، وما هي إلا محاولات دفعٍ موضعية بأثرٍ طفيفٍ ومحدود الأجل، ذلك أنّ النظام لم يعد يمتلك القطع الأجنبي الذي يمكّنه من ضبط السوق، وهو أيضاً عاجزٌ عن تأمينه أو السيطرة على حركته في البلاد، كما لم يعد بمستطاعه تأمين الدعم، كما درجت العادة، من الدول التي تحمّلت عنه أعباء مالية كبيرة خلال السنوات الماضية، فإيران، حليفته الوثقى، تعاني هي الأخرى من أشدّ العقوبات المفروضة عليها في تاريخها، ومن تعاظم الاحتقان الشعبي على تعثّر الأوضاع المعيشية فيها وانهيار العملة المحلية. كما أنّ اللجوء إلى روسيا لم يعد ممكناً، إذ أنّ الأخيرة باتت سياستها حيال سوريا تقوم على فرضية أنّ الوقت قد حان للاستفادة من النظام السوري بدلاً من دعمه، وذلك بعد أن انتشلته من السقوط بفعل تدخلها العسكري والسياسي والاقتصادي بشكلٍ متواصل على مرّ الأعوام التسع المنقضية.
وقد جاءت زيادة الرواتب التي أقّرها بشار الأسد (13 ألف ليرة سورية بعد اقتطاع التأمينات والضرائب) بمثابة إعلانٍ صريحٍ من النظام بأنّ الارتفاع الحاصل في سعر صرف الدولار لن يكون تداركه أو الحدّ منه ممكناً، وبالتالي فإنّ ارتفاع الأسعار بشكلٍ سريعٍ ومديد هو النتيجة الحتمية، وذلك في ظلّ عجز البنك المركزي عن تمويل المستوردات، وإصداره قائمةً جديدةً تقضي بتقليص عدد السلع المشمولة ببيع القطع الأجنبي لمستورديها من خلاله، وكذلك على ضوء أنّ سعر الصرف في السوق بلغ ضعف السعر المعتمد من قبل المصرف المركزي، المُثبّت منذ تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2018 عند 438 ليرة مقابل الدولار الواحد، وعدم وجود نيّة بتغيير السعر المرجعي للصرف، رغم أنّ خسارة الليرة من قيمتها قد بلغت فقط في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أكثر من 20%، وذلك دون أن يصحو المركزي من سباته العميق.
ويُظهر ذلك أيضاً توجّهاً أكثر وضوحاً لدى النظام نحو حجب الدعم عن معظم المواد الاستهلاكية الرئيسية، وما تبقّى من مستلزمات الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعي المشمولة بتغطية القطع الأجنبي اللازم لاستيرادها عن طريق المركزي، وذلك نظراً للعجز شبه الكلي الحاصل في ميزان المدفوعات. وربما سيجري إلغاء هذا الدعم بشكلٍ كاملٍ في مراحل مقبلة، وترك التجار «رسمياً» يؤمّنون ما يلزمهم من القطع الأجنبي لتمويل هذه المستوردات من خلال السوق السوداء (وهو الأمر الحاصل فعلياً اليوم)، على أن تُدرج بعض السلع الاستهلاكية الرئيسية كالرز والسكر والزيت ضمن البطاقة الذكية أسوةً بالمحروقات.
وفي ظلّ فشل الإجراءات النقدية لتدارك أزمة الليرة، اتّجه النظام خلال الأيام الماضية إلى أساليب جديدة للتعمية على المشكلة النقدية وأسبابها الحقيقية، وقد تركّز ذلك في فرض طوقٍ جمركي في محيط المدن السورية وبين أحيائها، تحت ذريعة وقف عمليات التهريب وملاحقة التجار الذين يتلاعبون بأسعار الصرف، ليوحي للناس أنّ هؤلاء هم سبب الأزمة ومفتعلوها. كما أغلق النظام عدداً من محلات الصيرفة ولاحق أصحابها، وعاود اتّباع سياسة الحجز على أموال بعض المتنفذين من الدائرة الضيّقة المقرّبة من بشار الأسد لاحتواء غضب الشارع، وكان آخرهم طريف الأخرس، عمّ أسماء الأسد. واللافت أن حجز الأموال جاء هذه المرة عن طريق المديرية العامة للجمارك، وهو ما يتماشى مع رواية النظام بأنّ التهريب وتجّار الأزمات الذين أثروا نتيجة انشغال «الدولة في حربها على الإرهاب» هم من تسبّبوا في تفاقم أزمة الليرة. رواية النظام فيما يخصّ العابثين باقتصاد البلاد تتناقض مع نفسها، فهو يُنكر حيناً وجود الأزمة فعلياً ويُشدّد على قوة الاقتصاد وثبات مكانة الليرة، ولكنّه في الوقت نفسه يُوجّه الاتهامات إلى جهاتٍ وأشخاص ودولٍ على أنهم سبب الأزمة غير الموجودة!
وقد فشلت خطط حكومة النظام لدعم الليرة السورية، سواء عن طريق مبادرة الدعم من خلال رجال الأعمال، أو بـ «الكلمة الطيبة» بحسب شعار الحملة التي سبق أن أطلقها البنك المركزي. وفي موازاة ذلك، يسعى النظام إلى تأمين القطع الأجنبي الآن عبر طرح أذونات خزينة عامة بالليرة وبالدولار، على حدٍ سواء، للاكتتاب بفوائد مرتفعة، وذلك كي يؤمّن من خلال هذه السندات كمياتٍ من المال بالعملة المحلية والقطع الأجنبي؛ بهدف دعم ميزان المدفوعات لتأمين الاحتياجات المعيشية الأساسية ورفع قيمة الليرة، وفي الوقت نفسه خفض الفائض من العملة المحلية التي يتداولها السوريون، والتخفيف من عملية استبدالها بالدولار في السوق السوداء. واقعياً، من غير الممكن لهذه العملية أن تنجح إلا عبر إجبار رجال الأعمال على شراء أذونات الخزينة بالإكراه، لأنّ ضعف الملاءة النقدية للنظام وانعدام الثقة بالمصرف المركزي لدى أولئك الذين يُفترض أنهم سيقبلون على شراء هذه الأذونات، كلّها أمورٌ ستحول دون ذلك.
وفي حين أنّ موضوع أزمة سوريا الاقتصادية كان غائباً بشكلٍ شبه تام عن التداول في لقاءات بشار الأسد التلفزيونية المُكثّفة خلال الفترة القصيرة الماضية مع وسائل إعلام أجنبية متنوعة، إلا أنه كان حاضراً في لقائه مع التلفزيون الرسمي لنظامه، حيث أشار إلى أنّ العقوبات الأجنبية والحصار الاقتصادي الذي تعانيه سوريا هما العاملان المفصليان في بروز الأزمة الحالية وتعاظمها، مُشيراً إلى أنّ معاودة نظامه السيطرة على مساحاتٍ واسعة من البلاد كانت تخضع لسيطرة المعارضة قد حرمته من تدفقات القطع الأجنبي التي كانت تصل إلى تلك المناطق من خلال الأموال والمشاريع التي كانت تنفّذها المنظمات الدولية وتلك التابعة للأمم المتحدة، وهو ما انعكس سلباً على سعر الصرف. صحيحٌ أنّ النظام كان يستفيد من الدولارات التي كانت تدخل إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة، لكنّ الأسد يبالغ في قيمتها وأثرها على الاقتصاد كما لو أنها كانت تُقدّر بالمليارات، وذلك اتساقاً مع البروباغندا التي تبناها نظامه وأبواقه مبكراً عن دعم جهات دولية للمناطق الثائرة بمبالغ طائلة، وهذا ليس هو الحال على أرض الواقع، ولو كان ذلك صحيحاً لانعكس تدفقها على حياة الناس بشكلٍ إيجابي، ولم تكن معدلات الفقر في هذه المناطق مساوية أو تفوق نظيرتها في مناطق سيطرة النظام.
اليوم، وفي سياق الترابط بين مناطق سيطرة المعارضة والفصائل الإسلامية والمناطق الخاضعة للنظام من الناحية النقدية وحتمية إعادة تدوير النقد في عموم البلاد، برز من جديد اقتراح اعتماد الليرة التركية كأداة نقدٍ تبادلية بين السكان في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام ومناطق سيطرة الفصائل المدعومة تركياً في الشمال، وذلك للتخفيف من آثار التضخم وتراجع مستوى المعيشة بفعل انخفاض قيمة الليرة السورية. وهذه ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها تداول هذا المقترح، فقد سبق الحديث عنه إبّان أزمة انخفاض قيمة الليرة السورية في العام 2015، وقد فشل تطبيقه حينها، كما سيفشل تطبيقه اليوم حتماً، وذلك بسبب غياب الأدوات المالية اللازمة، ولأنّه ليس من مصلحة الجانب التركي تسريبُ كميات غير مضبوطة من عملته المحلية إلى خارج حدود البلاد، حيث يكون من الصعب السيطرة عليها.
ولا يمكن فصل انخفاض قيمة الليرة السورية عن انخفاض نظيرتها اللبنانية والإجراءات التي اتبعها المصرف المركزي اللبناني للحدّ من خروج القطع الأجنبي من المصارف اللبنانية، بل وسعي جهات لبنانية إلى استجرار الدولار من سوريا بخلاف ما كانت الحال عليه سابقاً، حين كان التجار السوريون والنظام السوري يحصلون على كمية وازنة من احتياجاتهم من الدولار من الأسواق اللبنانية، وبالتالي لم يخسر النظام السوري لبنان اليوم فقط كدولةٍ يمكنه تهريب القطع الأجنبي منها، بل صار هنالك تسرّبٌ معاكسٌ للدولار من سوريا باتجاه لبنان. يُضاف إلى ذلك أنّ تشدّد البنوك اللبنانية بعد انخفاض قيمة الليرة اللبنانية في منح القطع الأجنبي للمودعين قد أثّر بشكلٍ كبير على قدرة رجال الأعمال السوريين، وقسمٌ كبيرٌ منهم يعمل كواجهة للنظام السوري، على سحب إيداعاتهم بالدولار وتمويل مستورداتهم من خلالها، أو سحبها وإعادة ضخّها في السوق المحلية السورية.
يزيد انخفاض سعر صرف الليرة من أزمة السوريين المعيشية باختلاف الجهات المُسيطرة على الأرض، وقد كانت أولى الآثار وأكثرها سرعةً انكماش الأسواق وخلوّها من عددٍ كبيرٍ من السلع، فضلاً عن ارتفاع معدلات التضخم. ورغم أن هذه الآثار جاءت سريعةً نتيجة انخفاض قيمة الليرة، فإنها لن تعاود الاستقرار بالسرعة نفسها في حال تمكّن الليرة من استعادة قيمتها أو جزءٍ منها، إلّا إذا كان هناك استقرار طويل الأمد، ولو كان نسبياً على الأقل.
لا يمكن أن تعصف الأزمات المالية والنقدية بأنظمة وحشية من طبيعة نظام الأسد، ويمكن التدليل على ذلك بعديد الأمثلة لدولٍ منهارة نقدياً، كإيران أو كوريا الشمالية أو العراق في ظل العقوبات على نظام صدام حسين، غير أنّ تلك الدول طوّرت من أدوات إنتاجها وكيّفت اقتصادها ليكون أكثر مرونةً في مواجهة انهيار العملة والعقوبات الاقتصادية وعدم القدرة على تأمين القطع الأجنبي لتمويل مستورداتها، وذلك من خلال خلق بدائل محلية أو آليّات تمكّنها من الالتفاف على العقوبات ومبادلة سلع معينة بمنتجات محلية، وهو ما ليس بمقدور نظام الأسد فعله، فالاقتصاد محطّم، وعجلة الإنتاج مُدمّرة، وموارد البلاد الطبيعية تتناهبها روسيا وإيران والولايات المتحدة، بينما يواصل النظام الانشغال بحربه على إدلب وسحق ساكنيها والمُهجّرين إليها.