ليس غياب سميرة، ورزان ووائل وناظم، مسألة حقوقية أو سياسية فحسب، ولا هو كذلك مسألة أخلاقية فحسب، إنه فوق هذا كله مسألة دينية، أو دينية سياسية، تنفتح على التفكير وإعادة التفكير فيما هو ديني، تُسائله عن معناه وتدعوه إلى مُساءلة نفسه، وبخاصة في تراكبه مع السياسي.
ذكرتُ في غير مرة سابقة أن شعار النسوية المعاصرة: الشخصي سياسي والسياسي شخصي، يمثل تجربتي كذلك. هذا صار ظاهراً أكثر بعد تغييب سميرة على يد إسلاميين في الشهر الأخير من 2013. ويبدو أن سنوات من الغياب المحكم، نحو ستة اليوم، تسوغ التفكير بأن الشخصي صار دينياً سياسياً، والديني السياسي شخصياً.
ليس ظاهراً ما يمكن أن يعنيه ذلك، لكنه يبدو شيئاً متميزاً عن الاهتمام الفكري والسياسي بالشأن الديني، مما مارستُه قبل اغتياب سميرة وبعده. ولعله متميز كذلك عن مقاربة أكثر مخاصمة للإسلاميين أو أشد انفعالاً حيالهم، مما أخذتُ أُمارسه بارتباط مع تحول موقع الإسلاميين في الصراع السوري، وأكثر بعد اغتياب سميرة. يتصل الأمر بالأحرى بتوطين هذه التجربة المخصوصة في قلب الدين والتجربة الدينية، بجعل الدين ساحة لمعركة أخلاقية وسياسية، يُساءَل فيها عن معناه ويُدعى إلى تبرير نفسه أمام المغتابين ومجتمعهم. هذه معركة شخصية وسياسية فيما يخصني، وبصورة ما دينية.
في واقع اليوم، يشغل الدين موقع ذروة التبرير أو إضفاء الشرعية عند قطاعات واسعة من السوريين، الشيء الذي يحتاج الأشخاص والأفعال والأفكار إلى تبرير أنفسهم أمامه، ولا يحتاج هو إلى تبرير نفسه أمام أي شيء أو استمداد شرعيته من شيء خارجه. هذا مُجادل فيه اليوم. لا تنزع جرائم إسلاميين متعددين ومتنازعين فيما بينهم موقع ذروة التبرير عن معتقدهم فقط، وإنما هي تضعهم ومعتقدهم في موقع المطالَبين بتبرير أنفسهم. هذا تحول يمكن للعمل الفكري تعزيزه.
أن يكون الشخصي سياسياً والسياسي شخصياً كان يعني حركةً مستمرة من طرفنا، المعتقلين واللاجئين والنساء وعموم المعرضين للتمييز، تستكشف السياسي في تجاربنا والشخصي في السياسة، فتحول دون أن يتعالى السياسي على الشخصي والخاص، أو أن ينعزل الشخصي والخاص عما هو سياسي وعام. ومثل ذلك في شأن العلاقة بين الشخصي والديني أو الديني السياسي. فلا يستطيع الدين أن يمارس أدواراً عامة تطال حياة الأشخاص، فضلاً عن أن تكون إجرامية، وأن يبقى مماثلاً لذاته فقط، متعالياً على مساءلات المتأثرين شخصياً به. وفي سياق الثورة السورية، وأشكال ظهور الإسلامية فيها، تنتقل مساءلة الديني السياسي إلى نطاق تكويني، يتجاوز حقنا الشخصي في المُساءَلة، إلى اكتساب هذه الحق مكانة تأسيسية، مُؤسِّسة ومكوِّنة للمجتمع والسياسة.
وأتكلم على الديني السياسي للقول إن الأمر لا يتعلق بتعاليم مجردة، ولا بصيغ التدين الشخصية العالمة أو غير العالمة، ولا الصيغ الاجتماعية الطقوسية التي ربما تميز الإسلام الشعبي، بل بالإسلامية الحديثة والمعاصرة، وهي مركب ديني سياسي، لا تمايز فيه بين سياسة ودين، أخذ بالظهور في القرن العشرين. وبقدر ما إن الدين هنا سياسة والسياسة هنا دين، فإن كل جريمة سياسية يرتكبها إسلاميون هي جريمة دينية في الوقت نفسه، بما يضع الدين نفسه تحت المُساءَلة. فإما تنزع عنه الصفة الأخلاقية، أو يُصْلح وتعاد هيكلته كي يتوافق مع مقتضيات حياة أخلاقية. لا يعترض بصورة متسقة على ذلك من لا يعترضون على ما تقوم عليه الإسلامية المعاصرة جوهرياً من الربط الوثيق بين الدين والسياسة. وهو ما يعني أنه من وجهة نظر علمانية فقط يمكن التفكير في جرائم الإسلاميين كجرائم سياسية دون أن تكون جرائم دينية حتماً في الوقت نفسه.
والمسألة ليست مسألة نقاش فكري أو سياسي مجرد، إنها مسألة شخصية لكثيرين اليوم، كاتب هذه السطور واحد منهم. خطف امرأتي وأصدقائي في دوما وتغييبهم، وقبلهم خطف أخي وأصدقاء آخرين في الرقة وتغييبهم، وقبلهم وبعدهم الاعتداء على حرية وحياة كثيرين حيثما سيطر إسلاميون، هي جرائم دينية.
وأن تكون الجريمة جريمة تغييب، محاطة بكل هذه السرية والكتمان طوال ست سنوات، فهذا ينقلها حتى من نطاق الجريمة الدينية إلى نطاق الجريمة التأسيسية، لتصير بمثابة جريمة اغتياب للناس جميعاً أو أكل للحم الناس جميعاً، استناداً إلى المماثلة القرآنية بين الاغتياب وأكل لحم الأخ الميت (مقالتي: الاغتياب والتغييب والغيب). اغتال جيش الإسلام وداعش كثيرين، وسرقوا الكثير، وكذبوا كثيراً (القتل والسرقة والكذب هو الثالوث الأسدي نفسه). هذه جرائم دينية، فوق كونها سياسية، ما دام الطرفان ينكران تمايز الدين والسياسة. لكن حين يتعلق الأمر بتغييبٍ مديد لامرأتين ورجلين، مشفوع بالسرية والكتمان، وحين يتعلق الأمر بتغييبات داعش التي غابت هي بالذات وظل غياب مُغيَّبيها طي الغيب، تكفُّ الجريمة عن أن تكون دينية سياسية لتصير شيئاً آخر. أقول إنها جريمة دينية تأسيسية، مُعوِّلاً على أن يعني ذلك نقطة انفصال وتحول في مسار الديني السياسي في مجتمعنا وفي نطاق أوسع. وتحديداً على أن يعني مساءلة جذرية للإسلامية بوصفها التجسّد المعاصر للديني السياسي، التجسد الذي يحتكر لنفسه الاغتياب الشرعي، أي مرة أخرى أكل لحم جميع الناس، والذي لم يسائل نفسه بصدد ثالوث الاغتيال (قتل البشر) والسرقة (قتل الممتلكات) والكذب (قتل الكلمات)، ولم يُدِن مرتكبي الجرائم في أي وقت.
المساءلة الجذرية لا تتحقق من تلقاء ذاتها، ولا على يد إسلاميين يتشاركون المثال الديني السياسي ذاته، ولا على يد مشايخ وعلماء يظهرون تحجراً فكرياً شديداً ليحتفظوا بشيء من سلطة على جمهور يبدو أنهم يدركون تراجع ثقته بهم. إن كان لجرائم الإسلامية في الاغتياب تحديداً أن تصير نقطة انقطاع وتحول فالأمر يقتضي إحلال هذه الجرائم في قلب الإسلامية المعاصرة والإسلامية في قلب هذه الجرائم، في ضرب من التفخيخ المتبادل، يقوم به المعنيون بعيش حياة أخلاقية، والمتضررون من الإسلامية أو الديني السياسي. قضية المغيبين أساسية في هذا الشأن. ونعلم أن هذه الجريمة واحدة فقط من نظائر كثيرة، مورست بعناد وإصرار على يد إسلاميين في الغوطة الشرقية، وفي حلب والرقة والجزيرة، وفي إدلب ومناطق من حماة واللاذقية. سجون الإسلاميين وشرعييهم المكفهرين تضاهي في القسوة سجون الأسديين وضباط مخابراتهم.
*****
قضية سميرة ورزان ووائل وناظم مهمة بحد ذاتها، لكنها يمكن أن تكون اسماً عاماً لقضية أوسع بكثير تُحيل إلى أفعال قتل وإيذاء وتغييب مارسها إسلاميون كثيرون في سورية وغيرها.
وأعتقد بالتحديد أن القضية تحوز طاقة كامنة كبيرة تؤهلها لطرح مسألة مفصلية: الاستقلال الأخلاقي. أعني قدرة الإنسان على التوجه والتصرف على نحو أخلاقي اعتماداً على ضمير شخصي يتكون من خلال التفاعل مع الآخرين والتدرب على وضع النفس مكانهم والنظر إلى النفس بعيونهم. أتكلم على استقلال أخلاقي حين يستغني الضمير عن ولاية دينية، ويظهر في استقلال عن الدين. سميرة ورزان وائل وناظم، بين كثيرات وكثيرين، يجسّدون هذه الإمكانية. ليس فقط لكونهم ضحايا لإسلاميين، لم يحظوا بتضامن أي إسلاميين آخرين، وإنما لكونهم فاعلين أخلاقيين مُجربين ومعروفين قبل الثورة وأثناءها، وكانوا يقومون بواجبهم في التوثيق والشهادة على الحصار والعيش بين المحاصرين، دون الحاجة إلى دين من أجل ذلك (هذا فيما احتاجت جرائم الإسلاميين إلى تشريع ديني، وحصلت عليه). رزان دافعت عن الحق في العدالة للسلفيين الذي انتهوا إلى خطفها وتغييبها. وسميرة كانت معتقلة لأربع سنوات عند الأسديين، ما يعني بكل بساطة أن الإسلامية التي خطفتها قبل نحو ست سنوات هي استمرار للأسدية بوسائل أسوأ. في الأربعة، وفي المرأتين بخاصة، تتجسد إمكانية أخلاقية غير دينية، رفيعة في شجاعتها واتساقها، ثم إمكانية لا أخلاقية دينية، استثنائية في خسّتها وشرّها.
ليست قضية المرأتين والرجلين مصممة خصيصاً لإثبات الاستقلال الأخلاقي ووجوب هذا الاستقلال في مجتمعنا اليوم، أو لراهنية التأسيس لأخلاقية تحررية ما بعد دينية، لكن ما كان يمكن أن يكون لدينا مثال أفضل من قضية الأربعة من أجل تأكيد هذه الاستقلال والعمل المثابر على تأصيله. أعني بالتأصيل ترسيخ هذه الأخلاقية في العالم، وفي وجودنا وفعلنا فيه، وفي تجاربنا الأشد مأساوية، وليس البحث عن أصل قديم والجلوس عليه، ولا الوكالة عن موتى غابرين. لدينا أصل بالغ القوة هو القصة الهائلة للثورة السورية، ولدينا أمثولات تغييب ذات قوة دينية، ارتكبها إسلاميون مختلفون ولم يعترض عليهم أشباههم من الإسلاميين الآخرين، ولدينا أمثولات إيثار وشجاعة وكرم لا تحصى، من أبرزها المغتابون الأربعة.
ثم أن الاستقلال الأخلاقي الذي صار اليوم، بعد تحطم الثورة السورية، جزءاً أساسياً من معركة الحرية، يتجاوز إثبات إمكانية أخلاقية لا دينية إلى إثبات أن الانضباط الحصري بالنظام الديني يؤدي إلى نتائج لا أخلاقية، أو إلى أخلاقية طائفية تبيح الشر حيال الغير أو تحثّ عليه. يحول الانضباط الحصري بالدين، الإسلام وغيره، دون تقمّص الغير أو مشاركة الغير من جهة، ودون نقد الذات ومراجعة الذات ولوم الذات، وبدونها لا يتكون الضمير. قصر البِرّ على من هم منا ومثلنا هو التعريف الأصلح للأنانية وليس للخيرية، حتى لو لم يقترن البِرُّ للمثيل بكره ومعاداة غير المثيل أو غير المسلم، على ما تقضي عقيدة الولاء والبراء السلفية. هذه العقيدة شرٌّ مضاعف لأنها توجب أن تجافي، وفي بعض صيغها أن تؤذي، من لم يبادرك بسوء، لمجرد أنه ليس منك ومثلك.
يمكن للأقربين أن يكونوا أولى بالمعروف، لكن فقط لأن معيار الصدق في أداء المعروف هو أن يؤدى لأول محتاج، لذلك القريب الذي يستبعد ألا تراه العين. لكن فعل الخير للغريب المجهول الذي قد لا تراه بعد اليوم أرفع أخلاقية من فعله للقريب حين ينتفي الرياء، وهذا حتى لو كنا في عالم لا تتجه الفوراق بين قريب وغريب فيه إلى الامحاء كعالمنا اليوم. الألماني الذي يقصر فعل الخير على مواطنيه هو أناني وليس أخلاقياً، أنانيته تأخذ اسم الوطنية أو التفوقية البيضاء أو حماية الجذور المسيحية لألمانيا. ومن أحسنوا لمسلمين وغير مسلمين من اللاجئين إلى ألمانيا هم بالضبط من لا يعتنقون عقيدة ولاء وبراء ألمانية. أصحاب هذه العقيدة في ألمانيا هم يمين شعبوي معاد لللاجئين، وبعضهم نازيون جدد يحلمون بإبادة اللاجئين، المسلمين منهم بخاصة.
وليس فعل الخير للغريب «فضيلة»، فضلاً أو تكرماً ممن يفعل الخير، بل هو جوهر فكرة الخير بالذات، هذا بقدر ما يكون الخير شيئاً متميزاً عن الأنانية، أي عن شيء أتوقع عائداً منه ذات يوم (مثل رعايتي لأطفالي)، أو عن تسديد دين سابق (رعايتي لوالدي المسنين)، فأرحمهما وأدعو لهما بالرحمة «كما ربياني صغيراً». جوهر الفعل الأخلاقي هو أن أفعل خيراً للغريب الذي لا أعرفه ولا أرجو من إحساني له مقابلاً. إنه «ابن السبيل» الذي يحتمل ألا ألتقيه يوماً بعد أن أكون قد أحسنتُ إليه.
في هذا الشأن يتبين المرء واقعاً مطرداً، يسوغ ما تقدم قوله من أن أخلاقية دينية حصراً تُفضي إلى الشر لا إلى الخير: لم تسجل خلال نحو تسع سنوات من الثورة السورية واقعة مشهورة واحدة لفعل خير أحسن فيها إسلاميون لغيرهم. بالعكس، عدا الجرائم الكثيرة، ثمة روايات متواترة عن الاستئثار بموارد عامة لمصلحة الفئة الخاصة، بما فيها تبرعات مغتربين متنوعين، قُدِّمَت باسم الإسلاميين وأعطيت لمن يوالونهم حصراً.
*****
لَكُنّا بلا ريب في وضع أفضل بكثير لخوض معركة الاستقلال الأخلاقي في مواجهة الإسلامية لو لم تكن معركة الاستقلال السياسي ضد الولي الأسدي متعثرة كل هذا التعثر. لكن لعلنا نكون أقل تعثراً، على مستوى تنظيم سجل التفكير على الأقل، بالربط بين الصراعين. يُسهِّلُ من ذلك اليوم ويحثُّ عليه في آن حقيقةُ أن الإسلامية والأسدية صارتا اليوم عنصرين في بنيتين دوليتين عدوانيتين على حد سواء، غير متعاديتين فوق ذلك، بل ومع رسوخ أشد للأسدية بحكم اندراجها في مركب إقليمي ودولي متعدد الأطراف، فيما يبدو أن موازين الإسلامية تخف أكثر وأكثر بعد أن وضعت كل بيضها في السلة التركية.
ويبدو أن هناك سلفاً تهافتٌ للإسلامية، أو انحدارٌ وتداعٍ متسارع، وثيق الصلة في تصوري بغثاثة تفكير الإسلاميين وفجور ممارساتهم وقت صعودهم في سورية في سنوات ما بعد الثورة، فضلاً عن تبعيتهم التركية. الشيء المهم هو تحويل التهافت والانحدار، أو زوال السحر الديني هذا، إلى تحرر وإلى قيم إيجابية، تلبي حاجة شبان وشابات إلى معنى للحياة وسند للواجب والعدالة دون دين أو بتصور مغاير للدين. هذا ميدان للعمل التحرري لطالما أُهمل في حداثتنا طوال قرن ونصف.