اعتدنا كل عام على قراءة المقالات والتقارير التي تترافق مع إعلان جوائز نوبل، والتي تعيد مراراً قصة ألفريد نوبل واكتشافه للبارود، ثم تكريس ثروته لخمس جوائز سنوية في الفيزياء والطب والكيمياء والسلام والآداب، ثم الاقتصاد التي أضيفت لاحقاً عام 1968. تُعيد التقارير كل عام النبش في حياة الفائزين، تضيء على مناقبهم، تثني أو تعترض على النتائج، خصوصاً في مجالي السلام والآداب، ثم تذهب كل الحماسة والنقد أدراج الرياح مع انتهاء الاحتفال في 10 كانون الأول/ ديسمبر، لننتظر دورة جديدة وأسماء مختلفة تفتح الصفحات من جديد.
هذه السنة…
هذه السنة، كما غيرها، طالعتنا أخبار جوائز نوبل تباعاً حتى وصلت إلى إعلان جائزة نوبل للآداب، وهذه الأخيرة هي التي سنركز عليها هنا، فقد تم منح جائزتين هذا العام، واحدة عن عام 2018 بسبب حجبها العام الماضي، وقد كانت من نصيب الأديبة البولندية أولغا توكارتشوك، التي نُشرت ترجمتها العربية الأولى، روايتها الرحالة، منذ أسابيع قليلة؛ والثانية، عن عام 2019، وذهبت للنمساوي بيتر هاندكه، الذي سبَّبَ إعلان حصوله على الجائزة عاصفة هائلة من الانتقاد، كونه من أصدقاء الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش، إضافةً لإصداره تصريحات متطرفة بما يخص الحرب في البلقان. وهكذا فإن المحاولات الحثيثة التي خرجت علينا بها لجنة تحكيم الجائزة في السنة الماضية لتلطيف الصورة السلبية قد ذهبت أدراج الرياح مع إعلان الفائزين هذه السنة، ففي حين حاولت مؤسسة نوبل لملمة فضيحة العام الماضي، التي كانت من تأثير هاشتاغ #أنا_أيضاً (MeToo#)، الذي منح زخماً للكلام العلني من نساء تعرضن للتحرش والاعتداء الجنسي على يد زوج إحدى عضوات الأكاديمية، الذي كان له دور قوي لعقود في الحياة الأدبية في ستوكهولم؛ جان كلود أرنو مصور هواة، مع زوجته الأكاديمية كاترينا فروستينسون، كان يدير نادياً وصالوناً أدبياً حصل على تمويله من الأكاديمية السويدية، وهنالك إشاعات أنه أفشى كثيراً من أسماء الفائزين في السنوات الأخيرة.
من الواضح أن تبعات الفضيحة، التي سرت مثل النار في الهشيم، فتحت الأبواب الموصدة للأكاديمية العتيدة، وما كان في الماضي أصواتاً مفردة وضعيفة تحاول التساؤل والنقد، أصبح الآن سؤالاً أساسياً عن الأحكام الأخلاقية للأكاديمية وأعضائها، ما أجبر التداولات السرية لأعضاء الأكاديمية على الخروج إلى العلن، خاصة بعد استقالة سارة دانوس، التي شغلت منصب أول سكرتيرة دائمة امرأة للأكاديمية السويدية، لتتوالى الانسحابات بعدها حتى وصلت إلى سبعة آخرين من الأعضاء الثمانية عشر الدائمين. وهكذا خرج السكرتير الدائم في الأكاديمية، أندرس أولسون، ليقول في بيان: «لقد وجدنا أنه من الضروري تخصيص وقت لاستعادة ثقة الجمهور في الأكاديمية قبل الإعلان عن الفائز التالي، وذلك من منطلق احترام الفائزين في الأدب سابقاً ومستقبلاً، ومؤسسة نوبل والجمهور».
أما عن الخطوات العملية لإدارة الأزمة، فقد جاء الخطاب الحضاري الذي واجهت به الأكاديمية الناس والصحافة، وتعهداتها بقطع أي صلة مع النادي الذي يملكه المتهم، وعدم استدعائه لحضور حفل جوائز نوبل، وأخذ عام إجازة للأعضاء، وحجب نوبل للآداب عام 2018 وتقديمها مع جائزة العام التالي.
كيف أصبحت نوبل للآداب الجائزة رقم واحد
هذه الفضائح، وغيرها من الأشياء غير المعروفة عن الآليات الغامضة للأعضاء الثمانية عشر الدائمين في الأكاديمية، تفتح الباب على تساؤلات حقيقية بشأن الثقافة اليوم، وبشأن عوالم نوبل للآداب من ناحية محكّميها ونزاهتهم، مرشحيها، والفائزين فيها. ففي حين أن الترشيحات بقيت غير معلنة مدة خمسين سنة حفاظاً على السرية!، يبدو بالمقابل أن هذه الاستراتيجيات الغامضة خالية من الشفافة وغير منطقية، ولكن بدل الغوص في تفاصيل آليات عمل الجائزة، نجد أن الأسئلة الأكثر إلحاحاً هي: لماذا وصلت نوبل إلى الشهرة التي هي عليها اليوم؟ لماذا يتمتع مجموعة من الأكاديميين السويديين بهذه السلطة الواسعة على الثقافة، وحتى على العلوم الطب والاقتصاد؟ وكيف يتم استخدام هذه السلطة؟ ومن هي الأسماء التي تدعم ترشيح وربح الجائزة؟
يمكننا أن نأخذ الآن خطوة نحو الخلف، وأن نرى الأمور بعين جديدة؛ نوبل للآداب هي إحدى الجوائز التي تمنحها الأكاديمية السويدية للآداب، وبذلك فإنها إدارياً تُشكّلُ جانباً من عمل هذه الأكاديمية وأعضائها المُحكِّمين، الذين يملكون مهاماً أخرى ولا ينتخبون من أجل الجائزة بحد ذاتها. وللتوضيح، فإن تاريخ الأكاديمية السويدية أقدم بكثير من جائزة نوبل، فهي المنظمة السويدية المكرسة للحفاظ على اللغة السويدية وآدابها والارتقاء بها، تأسست من قبل الملك غوستاف الثالث في 5 نيسان/أبريل 1786 في ستوكهولم، وتم تعريف هدفها على أنه العمل من أجل «النقاء والحيوية والجلالة» للّغة السويدية، من خلال أنشطة مثل إنتاج قاموس وقواعد اللغة السويدية، والاعتراف بإنجازات السويديين في «البلاغة والشعر» في المسابقات السنوية، واستصدار عملة سنوية لتكريم سويدي بارز. وتمنح الأكاديمية أكثر من عشر جوائز أدبية، أما الأهم فهو أنها منذ عام 1901 تمنح جائزة نوبل للآداب، كما طلب ألفريد نوبل في وصيته. وتضمّ الأكاديمية ثمانية عشر عضواً يتم انتخابهم مدى الحياة (أصغر الأعضاء اليوم هو في عمر الخمسين، وأكبرهم في عمر الخامسة والتسعين)، وغالباً ما يكونون أناساً مرموقين في المجتمع الثقافي السويدي، وبالطبع يحتل الذكور النسبة الأكبر ضمن هؤلاء الأعضاء.
جائزة نوبل ككل، وجائزة نوبل للآداب على وجه الخصوص، أصبحت منظومة متكاملة، فالأكاديمية هي التي تخبر العالم كل سنة من هم أفضل الكتّاب، وأيّ الكتب علينا أن نقرأ، وهكذا تتحول آليات النشر إلى ما يشبه الماكينة بعد الإعلان دوماً، حيث ترتفع نسبة ترجمة كتب الفائزين، وتبدأ دورة اقتصادية مثيرة بالعمل، تتضمن الطلب المتزايد على كتب جديدة لهم، وإعادة طبع كتبهم القديمة.
وإذا كنا من المؤمنين بأنه من أهم عوامل استقرار الكتّاب عموماً هو استطاعتهم الحصول على عوائد مالية، فإن فكرة تحفيز دور النشر للمساهمة في إعادة قراءة أعمال بعض الكتّاب، هي بالتأكيد من الأمور التي تُحسب لجائزة نوبل، فهي تقوم بتعريف العالم على أسماء ربما لم نكن لنسمع بهم من دونها، إلا أن تكريس الكتّاب ضمن معايير ضبابية غير واضحة على حساب آخرين، يهزّ القناعة بفكرة جائزة مثل نوبل للآداب على المستوى الفني البحت، فالسؤال عن معايير اللجنة في الاختيارات يُظهر تحيّزاً واضحاً ضد النساء، حيث أن من بين 116 فائزاً بالجائزة بين عامي (1901-2019)، هنالك خمس عشرة امرأة فقط. كما أن اللغة الإنكليزية تتصدر إحصائيات الفائزين بالجائزة، بـ 29 جائزة لكتّاب يكتبون باللغة الإنكليزية، ثم الفرنسية التي تأتي لاحقاً بـ 14 جائزة، ثم الألمانية بـ 13 جائزة، وهو ما يُحيلنا إلى تساؤلات عن هيمنة أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية على الجائزة، حيث تتصدر فرنسا الفائزين بـ 15 فائزاً.
يمكننا طبعاً فهم طبيعة هذه الأرقام من خلال عبارة «ثقافة السوق»، التي باتت تحدد اليوم كل معايير الثقافة، ما ينجح وما يفشل، بمعيار ما يبيع وما يكون «Best Seller». وتطرح ثقافة السوق حالة مصطنعة للثقافة، فهي تنطلق من إمكانية دور النشر أكثر من إمكانيات الكتّاب أنفسهم، وبذلك تصبح صناعة، ويكفي أن نعرف أن ثمة مزحة متداولة في الأوساط الأدبية تقول إن أجمل الكلمات في اللغة الإنكليزية هي «ناشري السويدي»، فالنشر في السويد بالطبع يقوي فرصكَ في جذب انتباه الأكاديمية. وهكذا فإن كلمات مثل «البحث عن الأدب المثالي الذي يعزز المعرفة بالإنسان وحالته ويسعى لإثراء وتحسين حياته»، التي تُظهرها نوبل على موقعها بالخطوط الكبيرة، تصبح فعلاً بلا معنى إذا تتبعنا، ليس فقط فضيحة الأكاديمية الأخيرة، وإنما تاريخ هذه الأكاديمية كاملاً، ذلك أن تقديم الأكاديمية الملكية نفسها كوصي على معايير الثقافة «الجيدة» يشبه إلى حد كبير كل هذه الهالة الملكية التي تحيط نفسها بها، وكأنها فعلاً من بقايا الحالة الإمبراطورية الأوروبية وهواجسها في تسليط نفسها على العالم.
إذا كانت هذه الهيمنة قد انتهت إلى حد كبير بشكلها المباشر اليوم، إلا أنه ما يبدو مؤكداً هو أن أفكار جائزة نوبل هي من ترسبات صراعات القوة التي تخوضها الثقافة. وإذا كانت مناقشتها على أنها جائزة أدبية تخضع لمعايير معينة أمراً مشروعاً، فإن علينا أيضاً أن نجعل هذه المناقشة تمتد إلى آليات التفكير في كل فكرة الجوائز الأدبية قاطبة، ذلك أنه من حق أيّ كان أن يقول إن هنالك نمطاً أدبياً محبباً له دون آخر، ولكن دون أن يحتكر هذا النمط من خلال طريقة تلقينية تعليمية في تقديم الجائزة كأنها حالة تثقيفية للعالم. هنا سيكون من حقنا فعلاً إنكار الجائزة والقائمين عليها، والبحث في حالات أدبية مختلفة بعيداً عنها، لأن أي أعمال متمردة وجريئة ستكون في هذه الحالة تماماً خارج معادلة اهتمام نوبل، وهذا بالطبع دون الدخول في تفاصيل البلاد البعيدة عن القطبية الأوروبية والنشر باللغات الشائعة، مثل البحث عن أسماء الكتاب الذين يكتبون بالعربية، المفقودين تقريباً من اللائحة، لتبقى حكاية فوز نجيب محفوظ وكأنها أسطورة علينا أن نستمر في الحديث عنها مراراً وتكراراً، وهو ما يحدث في العديد من الدول والثقافات واللغات، عن أسماء لن نعرفها ولن نستطيع التواصل مع نتاجها الأدبي.
يحيلنا هذا بالطبع إلى أبعد من نوبل نفسها، نحو كل الهوس بالمنتج الغربي ومتابعة الحالة الكولونيالية التي تجبرنا دوماً على اجتراع القادم من الشمال الأوربي، متضمناً النتاج الروسيّ طبعاً، وكأنه الأفضل والأنقى والأكمل، دون أن نرى ما قد يحمله من عنصريات خفية وهرمية سلطوية ومشاكل اجتماعية، لتصبح معاييرنا هي كتابة تشبه كتاباتهم تلك، أو تقترب من ملامستها، ولا أعتقد أنني أبالغ إذا قلتُ إننا جمعياً حلمنا سابقاً بأن تكون ضيعنا البعيدة مزارع تعاونية تشبه الدون الهادئ لـ ميخائيل شولخوف، في حين أن غرامنا المُنتظر كان حبّاً أسطورياً كما كاثرين وهيثكليف في مرتفعات وذرينغ لـ إيميلي برونتي.
الأكاديمية السويدية لجائزة نوبل للآداب تقدم لنا صورة عمّا تكونه الوصاية على الثقافة، ولذا فإنه من المؤكد أن البحث في تفاصيل أمر مرفوض بشكله الكلي هو هدرٌ للطاقة والوقت، وكلما كبرت نوبل للآداب أكثر، كلما كان علينا البحث عن الهامش، عن الكتابة والرواية التي كانت لحظة خلق جديدة في الثقافة فيما مضى، والتي كانت لوقت كبير أحدث صرعات الفن في تفرده وتعبيره عن أصوات غير قادرة على النطق في الحياة الحقيقية.