هناك صيغة جاهزة للتغزل بالنساء في بلداننا تقول «قوية الشخصية لتغطي هشاشتها من الداخل». الهشاشة تكاد تكون صفة جمالية للنساء، ولا أحد يشرح ضرورة التغطية، ولا لماذا هي «هشاشة» بدل «حساسية» مثلاً؟ على كلٍ، ورغم بلادتها، إلا أنني استرجعت هذه العبارة أثناء قراءة قصة «مخدرات شمسية» ضمن المجموعة القصصية كيف تمّ اختراع اللغة الألمانية لرشا عباس: «أنا شخصٌ أشبه بمصاص دماءٍ متقاعد بجهاز عصبي هشٍّ ومعدة متعبة، أقلُّ شعاع شمس يؤذي بشرتي ويملؤها بالطفح، لذلك أفضّل ألّا أتعرّضَ للشمس، ولا أخرج كثيراً للطرقات، وأصاب بالقلق من أدنى صوت وأشعر بالغثيان لأبسط سبب». تحاول الكاتبة ترتيب كل تلك العناصر المبتذلة اللامتناسقة، الطافية كعناصر متسخة بعد زلزال أو طوفان في ديستوبيا حاضرنا، كالعناصر الكثيرة التي نبّأت في قصتها «قيامة الهيبستر» للاستعداد لمصيبة وشيكة. أشياء تذكّر بـ «أشياء» جورج بيريك، نستهلكها دون أن نعرف لماذا، تحاول رشا عباس ترتيبها ضمن ألعاب فيديو، ألعاب ساعدتها في سياق آخر «على تحمل المعاملات البيروقراطية في ألمانيا» عبر ترتيب صعوبات الإدارة ومهمات الحياة على العموم ضمن تصنيفات كـ «سهل»، «متوسط الصعوبة»، أو «صعب جداً». الكاتبة -التي تقيم بينها وبين العالم شاشة أو مسافة ما- تذكرنا بالأحرى، بدل الهشاشة والقوة التي أتينا على ذكرها في البداية، بعنوان كتاب فرنسي بسيط صدر حديثاً ويحكي عن أزمة العالم الرأسمالية والبيئية، بعنوان: الغرق بجمال بدل الطفو دون هيبة، ليس غريباً عندها أن يكون عنوان قصتها الأولى في مجموعة ملخص ما جرى هو «الوقوع أرضاً بتهذيب بالغ أو كيف تستخدم الرصاصات الستّ كلها عوضاً عن أن تلعب الروليت الروسي». وهي أشياء تحدثت عنها الكاتبة في مقالها تلك الفكاهة المنجية ضمن ملف أعدته الجمهورية عن الكتابة ومشاغلها: «قد تبدأ باستخدام النكتة عندما تعجزك السبل وتريد وسيلة تتفاوض بها مع العالم. لبعضنا هي اليد التي نمدّها لكل أولئك الآخرين الكثر من خلف ساتر زجاجي، عندما نتوجّس من اقترابهم أكثر».

تحوي كتابة رشا عباس تحديداً هذا الاستغناء الذي يفضل الغرق أو الانسحاب جمالاً بدل الظهور أو الطفو دون أناقة. سخريتها سخرية استغناء، وليست سخرية سينيكية تريد قتل الآخر معنوياً؛ حتى أن إيقاع الكتابة يُبدي حرصاً ما على الابتعاد عن السخرية القاتلة. المبالغة السينمائية المضحكة في صورها هي من قبيل ذلك الحرص واللطف. الحقيقة أن السخرية في كتابتها هي لطف؛ تُبالغ في تصوير كاريكاتوري للأشخاص والمواقف، وكأنها بمبالغتها تريد الإرداف وبسرعة «أنا امزح فقط، لا تزعل مني». في باروك السخرية ومبالغاتها التي تطفح بها قصص رشا عباس ثمة تقشف ملفت ومؤثر في الحزن يجعله أكثر أناقة. وعند هذه النقطة بعينها تمكن الإشارة إلى كتابة نسائية جديدة، الأدائية الساخرة تلك تحمل اختراقات صغيرة في الظاهر، دون ادعاء، ولكنها حتماً أهم على مستوى الشكل الأدبي. شكل باروكي ساخر، كما أشرنا، ولكنه محملّ ومثقل بعناصر أخرى، كوابيس سريالية وإحالات تاريخية تخرج فيها رؤوس خصوم المعتمد بن عباد المقطوعة التي زرعها في حديقته. 

في استغنائها، لا تعلي رشا عباس نبرتها أبداً؛ تحفظ مسافة أمان مع قسوة العالم؛ لا تنقضّ على الآخر في زمن هزائم؛ وتبقى في موقعها الساكن الذي تشاهد منه العالم بعين فاحصة ولكن دون هياج أو رغبة بجلد الآخر كمحاولة مسبقة للانتحار. هناك حركتان في كتابتها، حركتها المراقبة البطيئة وحركة العالم المسعورة المندفعة على غير هدى، وكتابتها حريصة على أناقة ولطف البطء الحلزوني في مواجهة الانسعار. في تفحّصها للآخر، الألمان في مجموعة كيف تمّ اختراع اللغة الألمانية، أو في إعادة تفحصها للألفة الغريبة أو الغرابة الأليفة -لم أعد أعرف ما كان تعبير فرويد بهذا الخصوص-، أي السوريين الذين التقتهم في بلد اللجوء أمام مكان منح الإقامات في برلين أو في الطريق إلى المخيم في قصة «فيزا؟»، لا تملي المتأملة أي درس أو أي حكم قيمي على أي شيء أو أي أحد، تستغرب فقط دون أن تفصح علناً عن الاستغراب. الكتابة بأكملها في هذه المجموعة، وقبلها في ملخص ما جرى، هي استغرابٌ مديدٌ من حال عالمٍ شديد القسوة، والاستغراب يأتي في كتابة سخرية تبدو وكأنها ضحكة عصبية، ارتكاساً للمقلب الذي رتبته الحياة دون استشارتها مسبقاً. 

إلا أن الاستغراب والمسافة والاستغناء أشياء لا تأتي على شيء من مضيّ النظرة والفكر، يبدو الكتاب الصغير وكأنه كتاب مُثاقفة أو أدب رحلات (أعي تماماً أن كلمة رحلات غير ملائمة في هذه الحالة)، أو ربما وصف إثنوغرافي يُنصفنا قليلاً، نحن أبناء البلدان المدروسة، ويقلب الأدوار لنضطلع مرةً بدور الدارس لأوروبا، دون أن يأتي ولا مرة على ذكر المنفى واللجوء والهجرة بأسمائها وآلامها. في قصة «كيف فشلتُ في ابتكار بطل خارق ألماني» التي قد نقهقه ضحكاً عند قراءتها نجدُ، عدا عن كونها في الواقع قصة حزينة حتى الثمالة كما حال معظم قصص رشا عباس، ورمادية الأجواء بوحدتها الموحشة وخيبتها قبل كل شي، نجدُ أنها ثاقبة في تثبت المواقع؛ مواقع السوريين في بلاد جديدة تختلف في حساسيتها، وتفتقد ما كان بديهياً في بلدانهم، فالعين الخارجية الحافظة للمسافة دون التماهي التام يُتاح لها من التبصر أكثر مما يُتاح للعين الداخلية. نرى هذه المقولة مصوغة كتابة في مجموعات رشا عباس، حتى التي لم تُكتب عن أو في ألمانيا، بل في سوريا وعن سوريا مثل «آدم يكره التلفزيون» و«ملخص ما جرى». ليس تغريب العين دون غدق القلب كله بالمتاح دائماً كتابةً، إلا أن كتابة رشا عباس تبدو وكأنها تمتلك الأدوات لتفعله، وما سخريتها التي تنطلق كضحكة عصبية من النص إلا من تلك الأدوات التي تَعِدُ بأشكال قصصية جديدة. 

صدر لرشا عباس ثلاث مجموعات قصصية حتى الآن: آدم يكره التلفزيون التي صدرت عام 2008 عن منشورات «دمشق عاصمة الثقافة العربية»؛ كيف تم اختراع اللغة الألمانية بنسختها الألمانية عن دار ميكروتكست الألمانية عام 2016؛ وملخص ما جرى عن دار المتوسط عام 2017.