تتفاقم الأزمة الإنسانية في مناطق شمال وشرق سوريا بعد نحو شهر ونصف من العملية العسكرية التركية في شمال الجزيرة السورية، التي بدأت في التاسع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وأدت إلى سيطرة القوات التركية وفصائل سورية موالية لها على مدينتيّ رأس العين وتل أبيض وقرى وبلدات في محيطهما، وإلى نزوح مئات الآلاف من السكان إلى مناطق أخرى في محافظتيّ الحسكة والرقة.
ومع الحديث عن عودة جزء من الأهالي إلى مناطقهم، فإن أعداداً كبيرة ما تزال في المخيمات ومراكز الإيواء المؤقت، في ظل غياب واضح للمنظمات الإنسانية، ودعم محدود من قبل الإدارة الذاتية لنحو ثلاثمائة ألف نازح بحسب تقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان، عاد منهم 37258 شخصاً إلى مدينة رأس العين، هم 16128 رجلاً و11784 امرأة و9346 طفلاً، وذلك بحسب تغريدة لرئيس الحكومة السورية المؤقتة، عبد الرحمن مصطفى، على حسابه في تويتر قبل أيام، قال فيها إن الفضل في ذلك يرجع إلى «الخدمات التي يقدمها الجيش الوطني، والأمن الذي أرساه مدعوماً من حلفائنا الأتراك» بحسب تعبيره.
لكن بالمقابل، ينفي مكتب الشؤون الإنسانية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا عودة أي شخص من المسجلين لديه إلى مناطق سيطرة القوات التركية وحلفائها السوريين، واصفاً تلك العودة بالمستبعدة بسبب «الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها أبناء تلك المناطق من قبل الفصائل المسلحة». وأضاف المكتب في تقريره الصادر في الحادي والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري أن عدد النازحين وصل إلى نحو ثلاثمائة ألف، أكثر من نصفهم في محافظة الحسكة، كما وصل عدد الضحايا إلى 478 والجرحى إلى 1070، وتعطلت العملية التعليمية في 810 مدارس ما أدى لحرمان 86 ألف تلميذ من الالتحاق بمدارسهم. كذلك تضررت الخدمات الصحية بسبب استهداف المشافي والطواقم الطبية ونقص وصول الإمدادات الطبية والغذاء والماء بعد قطع طريق m4 من قبل القوات التركية، ما يعرض 500 ألف شخص لخطر الجوع والعطش، وذلك بحسب التقرير نفسه.
الخوف من الاعتقال والقتل يمنع الأهالي من العودة
يقول يوسف برو، وهو مصور صحفي من مدينة رأس العين يعيش مع عائلته في مدينة الحسكة، إن أسباباً عديدة تمنع النازحين من العودة، منها احتمال تعرضهم للقتل، ويروي هنا حادثة كل من مصطفى أحمد سينو وشيار محمود عثمان وريزان خليل سيدو، الشبان الثلاثة الذين ظهرت صور جثامينهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
يقول يوسف إنه وبتاريخ السادس عشر من تشرين الأول الماضي قرّرَ الشبان الثلاثة العودة إلى رأس العين بعد نزوحهم عنها بسبب المعارك الدائرة، وذلك بهدف جلب أثاث منازلهم، لتنقطع أخبارهم لأيام، ثم تظهر صور جثامينهم على مواقع تتبع لفصائل المعارضة السورية.
ويرى برو في الاعتقال سبباً آخر يحول دون عودة الأهالي، فالفصائل السورية المدعومة من أنقرة تقوم بالاعتقال اعتماداً على «هوية الشخص وقوميته» على حد قوله، إذ يكفي للشخص أن يكون كردياً لتلصق به تهمة «التعاون مع الحزب» ومن ثم الاعتداء عليه واعتقاله، مستدّلاً على ذلك باعتقال أحد أقاربه من الذين عادوا إلى رأس العين، وكذلك اعتقال الجبهة الشامية لـ «إسماعيل البدراني» وهو خطيب جمعة في قرية عين العروس بريف رأس العين، وأيضاً اعتقال أحمد الجميلي، وهو شاب من مدينة تل أبيض كان يعمل في إحدى مؤسسات المجتمع المدني؛ دون إعلان أسباب اعتقالهم في كل هذه الحالات.
ويرى برو أن كل الذين عملوا في الإدارة الذاتية سيواجهون المصير نفسه في حال عودتهم، سواء كانوا مدنيين أم عسكريين، مضيفاً أسباباً أخرى تحول دون عودة النازحين، منها عدم الاستقرار إذ يسيطر على المنطقة أكثر من فصيل، وتعرّض بعض البيوت والمحلات للسرقة ووضع اليد من قبل هذه الفصائل.
الألغام والغلاء تؤرق العائدين
يقول أحمد علي، العائد إلى مدينة رأس العين، للجمهورية إن الأهالي ما يزالون خائفين من الألغام والمفخخات التي تضرب المناطق التي سيطرت عليها القوات التركية والفصائل السورية المرافقة لها، وعلى الرغم مشاهدته لفرق مختصة بإزالة الألغام، إلَا أن المنطقة تشهد أسبوعياً تفجيرات بسيارات مفخخة وألغام، نتج عنها فقدان مدنيين لأرواحهم وجرحى بالعشرات. كذلك تشهد هذه المناطق ضعفاً في الخدمات وغلاءً في الأسعار، فبالرغم من عودة أربعة أفران خبز للعمل، الفرن الآلي وأفران عبو والنخبة وفتحي سعود، إلا أن سعر ربطة الخبز حالياً خمسمائة ليرة. ويعتمد الأهالي على شراء مياه الصهاريج، بعد تضرر شبكات المياه بفعل المعارك دون إصلاحها حتى اللحظة، يضاف إلى ذلك انعدام الأمان وخشية الأهالي من السرقات.
لكن المجلس المحلي في مدينة رأس العين يعد بتغيير هذه الأوضاع؛ وقد تحدّثنا إلى مرعي اليوسف، رئيس المجلس المحلي الجديد الذي تم تعيينه بعد سيطرة القوات التركية والفصائل السورية المدعومة منها، الذي يقول إن المجلس يعمل على فتح الطرقات وترحيل الأتربة والتراكمات، كما أنه أصلح الفرن الآلي وبالتالي توفرت مادة الخبز الأساسية، ويعمل على إصلاح مولدات المياه ومحطة الكهرباء وشبكات الكهرباء العالية والمتوسطة، واعداً بعودة الكهرباء خلال فترة قريبة.
كذلك تحّدث اليوسف عن فتح المجلس المحلي باب الانتساب إلى الشرطة المدنية لتحقيق الأمن، وعن البدء بصيانة المدارس وتأهيلها من أجل افتتاحها من جديد، وتجهيز عيادات للمعاينة في المشفى الوطني. وهو يرى أن «كثرة الألغام ووجود الأنفاق والأضرار التي ألحقتها قوات سوريا الديمقراطية بالبنى التحتية ودوائر الدولة والمدارس، هي ما يحول دون عودة الأهالي، فضلاً عن تهديد الأهالي بالسيارات المفخخة، وكذلك خوف كثيرين ممن تعاملوا مع قسد والإدارة الذاتية من العودة إلى المدينة».
وقد برَّرَ اليوسف اعتقال الجبهة الشامية لبعض العاملين في منظمات المجتمع المدني، على الرغم من أن هذه الاعتقالات لم تحدث في رأس العين، قائلاً إنه «لم يسمع يوماً بوجود منظمات للمجتمع المدني طيلة عمره الذي بلغ 56 عاماً»!!
النازحون يعيشون ظروفاً مأساوية
توقفت معظم المنظمات الدولية العاملة في شؤون الإغاثة عن دعم مناطق الإدارة الذاتية، وبشكل خاص عقب دخول قوات النظام السوري إلى مناطق في شرق الفرات، وذلك بسبب عدم امتلاكها لتراخيص عمل وضبابية ملامح المرحلة القادمة، وذلك بحسب ما نقله ناشطون عن مسؤولين في تلك المنظمات، الذين أخبروهم أنه ومع نهاية العام الحالي سيتم إبلاغهم بقرار العودة للعمل واستمرار الدعم أو توقفه بشكل نهائي. وهو ما أكده مكتب الشؤون الإنسانية في الإدارة الذاتية، الذي قال إن المنظمات الإنسانية سحبت موظفيها وعلقت معظم أنشطتها مع بدء العملية التركية، بسبب مخاوفها الأمنية، إضافة إلى تعرّضها لضغوط من قبل الحكومة التركية بهدف تحديد مدى ونوعية استجابتها.
كذلك هو حال وكالات الأمم المتحدة، التي تربط استجابتها بالإصرار على التنسيق الكامل مع الحكومات، وتتأثر مواقفها وتقاريرها بطبيعة علاقة موظفيها مع حكومات الدول التي تعمل على أراضيها أو عبر أراضيها، وفي حالة الجزيرة السورية، يكون للتأثير التركي والسوري دور كبير عبر مكاتب دمشق وغازي عينتاب.
وتتحمل الإدارة الذاتية عبر المنظمات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني، التي تعاني من نقص الإمكانيات وشح الموارد، مسؤولية الاستجابة الطارئة في مناطق عملها، وهي قامت ببناء مخيم «واشو كاني» في قرية التوينة على طريق تل تمر، الذي يضم حالياً نحو ألفي شخص (140 عائلة)، كما يتم حالياً بناء مخيم آخر بالقرب من عين عيسى.
توفر المنظمات المحلية بعض المساعدات للنازحين في مخيم واشو كاني، وكذلك للمدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء، والتي يفوق عددها 100 مدرسة. ويلعب الهلال الأحمر الكردي دوراً كبيراً في مساعدة النازحين سواء من الناحية الطبية أو الإغاثية، إذ قام بإدخال 140 شاحنة على دفعات منذ بدء المعارك، قادمة من إقليم كردستان العراق، كان آخرها 22 شاحنة محملة بحليب الأطفال والحفاضات والمواد الغذائية والأدوية والأغطية، بحسب تصريح لـ كمال درباسي، الإداري في الهلال الأحمر الكردي لموقع نورث بريس.
ويتمحور دور الإدارة الذاتية في إعداد المخيمات وإيواء النازحين في المدارس والتنسيق مع المنظمات المحلية والهلال الأحمر الكردي لتوزيع المساعدات، دون أن يكون لها دور فعال في تلبية الاحتياجات للنازحين، الذين يعيشون في ظروف مأساوية في ظل فقدان المياه والمواد الأساسية من غذاء وصحة.
لا يبدو أن المناطق التي سيطرت عليها القوات التركية وفصائل المعارضة السورية المرافقة لها ستشهد عودة كبيرة للأهالي الذين نزحوا منها في وقت قريب، إذ تزايدت أعداد النازحين من هذه المناطق خلال الأسبوعين الأخيرين، بمعدل 1300 عائلة في محافظة الرقة و1060 عائلة في الحسكة، وهو ما يفرض استجابة طارئة من قبل المنظمات الإنسانية، كما يفرض على الجهات المسيطرة تقديم تطمينات فعلية على الأرض للأهالي، تمهيداً لعودتهم تجنباً لتفاقم الكارثة الإنسانية المستمرة.