من الصعب الكتابة عن العنف. يُكتب عن أسبابه وعن نتائجه، ولكن عنه هو وتزامنياً مع حصوله تصعب الكتابة. قد يعود ذلك إلى  ما يذكره أغمبن في بداية رسالته إلى حنة أرنت، والتي ترجمها كرم نشّار ضمن ملفنا هذا، من حيث أن اللغة هي الموطن الأول للسياسة، والسياسة هي تعريفاً وتاريخياً اللاعنف. يصبح العنف عندها لا مُقال ولا مكتوب حتماً. في مرحلة متقدمة من رسالة أغمبن عينها، يقول أنه تبين عبر التاريخ بأن اللغة والسياسة يشكلان -بعكس ما اتُفق عليه- موطناً أساساً للعنف، العنف المستمر الأذى بعد القول. وبناء عليه، يقول في آخر الرسالة بضرورة ترافق كل عنف ثوري بتحطيم اللغة المرافقة، لبدء لغة جديدة بعيدة عن العنف.

ما هو إذاً المحمول العنفي للغة؟ لغة الخطاب السياسي المباشر، ولكن أيضاً اللغة باستخداماتها اليومية الاجتماعية، والتي تشربت أو شَرَّبت السياسي عنفاً؟ وكيف يمكن تفكيك هذا العنف المتسلل دون وعينا؟ وهل يمكننا في هذا التفكيك فصل الإرث والثقافة وطبيعة اللغة كمسؤول عن العنف، عن الفاعلين السياسيين حاملي الخطاب العنيف؟ وهل يمكننا تفكيك هذا التراكب نظراً لأن «اللغة المسمومة» يعود تعبير «اللغة السامّة» للفيلولجي فيكتور كليمبرر، وكان أكاديمياً في ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية، أستاذاً للآداب واللغات الرومانية. ضيّق عليه النظام النازي كل سبل حياته وأقيل من عمله ولم يعد في حوزته إلا قلمه ودفتر ملاحظاته والراديو ليتابع حياته الفكرية، فقرر أن يسجل ملاحظاته عن لغة النظام النازي في دفتره الذي اعتبره عصا الأمان ضد الجنون، وخرجت تلك الملاحظات في كتاب بعد عشرين عاماً تحت عنوان لغة الرايخ الثالث «LTI » .  تتسلل بخبث وصمت لتحتل أدواتنا نفسها في التفكير والتعبير، ونصبح بالتالي فاعلين في نفس الحلقة من العنف وإعادة إنتاجه؟

الأكثر عفويّة لمقاربة عنف الخطاب واللغة هو البدء بكلمات، شيء يشبه العمل المعجمي. كيف انفصلت دالّة  «حضن الوطن» و «سقف الوطن» في أذهاننا وأذهان الأجيال الجديدة من السوريين عن مدلول الوطن والأمان أو البيت والمسكن، وأضحت تحيل إلى مفهوم قسري، غالباً ما يسعى إلى إزالة الشرعية عن الأفراد في هذا الوطن وشلّ قدراتهم؟ وتزال عنهم الشرعية كذلك بجمل أدائية قانونية من قبيل «خائن»، «مثير للنعرات الطائفية»، «موهن لعزم الأمة».. إلخ. نزع الشرعية وشلّ القدرات الحياتية هي السلاح الذي يوجهه جلادو النظام المنحرفون نفسياً عن بعد، دون الحاجة لأقبية تعذيب بعينها داخل البلد، ونتواطأ أحياناً مع أولئك الجلادين بنزع الشرعية والقدرة عن أنفسنا مكرسين ذلك العنف اللغوي. كيف أصبحت «المكرمة» المشتقة، مثل الكرامة، من الكرم، والتي يتناولها محمد جلال في مقالته، وصمة إذلال للسوريين؛ ما المعاش المقابل لصفة المخاطب «معلم» في مقالة محمد أمير ناشر النعم؛ أو معاني ومحمولات «خلصنا» في مقالة منى رافع؟ ويمكننا أن نضيف إلى المقاربة هذه:  كيف أصبح اسم «فلسطين» مرتبطاً بمركز أمني يموت فيه الناس تحت التعذيب بحجة خيانة قضايا الوطن، ومنها قضية فلسطين؟ كيف يعبر عن واقع السجون وواقع مراكز الاعتقال في تطور لغة النظام السياسي القائم، ولكن أيضاً في لغة الناس اليومية؟ حتى يصبح الاعتقال هو الناظم الطبيعي لحياة الناس في سوريا، حاله حال المجزرة، وكأنه مرض جدري الماء الذي يصيب كل الأطفال أو معظمهم، الأكثر شغباً؟ كيف لم يعد أحد منّا ينتبه إلى المحمول الإيجابي في كلمة «طلائع» وأصبحت المفردة التي تعني مبدأياً السبق والإستكشاف والتجريب تحيل في أذهاننا إلى البلادة أو الانصياع والتدجين؟ وعلى نفس المنوال يمكننا أن نطرح تساؤلاتنا حول مفردات مثل «سوريا المفيدة» والتي استخدمتها مراكز الأبحاث الأجنبية بشكل خاص وأصبحت تحيل إلى واقع ما، «تجانس»، «جراثيم»، «مندس»، «بيئة حاضنة» وغيرها الكثير.

ثمة مخاطرتين في مقاربة معجمية تتخذ الكلمات والألفاظ مدخلاً للتفكير بالعنف على العموم عبر التفكير بالعنف اللغوي، الأولى هي تحديد مدى جدية معيار اختيار الكلمة التي يُودّ معالجة بعدها العنفي: أهو تواتر ورود الكلمة؟ أهو أثرها السياسي أو النفسي؟ وكيف يمكن تحديد الأثر تماماً، وفق أي منظور وأي ذاتية؟ والمخاطرة الثانية هي أن تأخذ الكلمات منحى التداعي النفسي لكل ما يتصل بلفظة أو حقل دلالي أو حتى جذر، حيث شطط الاستغراق في انطباعات نفسانية غير دقيقة، وبالنتيجة شديدة الذاتية، عما تولّده اللغة العنيفة في كل منّا. والاستغراق في التمارين اللغوية قد يبدو محصلة الحاصل (توتولوجيا)، لا يثمر إلا لغة. إلا أنه عندما يتعلق الأمر بالكلام، تلك المساحة المتقاطعة مع الكثير من المساحات الاجتماعية والنفسانية والسياسية، فلا مفرّ من الخوض في هذه الانطباعات الذاتية والفردية لأثر العنف بهدف التفكيك. إن التتبع التأثيلي للكلمات، وتفكيكها عبر التحليل وعبر ربط المُقال والمقام لكلمة أو تعبير، بمقالات ومقامات أخرى لكلمة أو تعبير آخر،من شأنه أن يخطو الخطوة الأولى تجاه تفكيك بداهة اللغة وبث القلق تجاه تمثلها الآلي، والذي يتم بصمت ودون ضجة منبّهة. نحاول بذلك تفكيك المحمولات العنفية في كل كلمة أو تعبير نعمل لمقاربته. الشهادات ذات الطابع النفساني للعنف اللغوي لها أهميتها في مقاربتنا وكذلك استعادة مقاربات نظرية خاضت هكذا مشروع في تجارب أخرى، آملين أن تكون الأدوات مفيدة نقدياً.  قد تكون كتابة معجم للمصطلحات العنيفة عملاً نضالياً، دون أن يكون بالضرورة علمياً  وليس هو المهم برأينا، المهم هو أخذ المسافة الكافية من الخطاب والكلمات لكي نتمكن من تفكيكها. ولن نزيد العالم معرفة جديدة إن استذكرنا، مرة أخرى، أن الخطاب والكلمات تصنع واقعاً. ولكن لمقاربة الكلمات ميّزة إضافية، وهي استعادة حالات ووقائع وسرديات مصغرّة لم تعد تبرز ضمن التيار الجارف للوقائع والسرديات الكبرى، تحفّز تفاصيل مصغرة أخرى على الخروج إلى النور.

من الكلمات نحو الخطاب المركب، يمكننا أن نصوغ الكثير من الأسئلة، بيد أن طرحنا لثيمة العنف واللغة حفزّ مستوى آخر من النقاش، لنسمّه عنف ما وراء اللغة  أو ميتا-لغوي، كيف تُستخدم اللغة نقدياً لتعنيف الإنتاج الأدبي ووصمه بالركاكة، هذا ما يحيلنا إليه تباعاً مقالا زينة الحلبي ورنا عيسى، حيث تستعيد رنا عيسى  محطات تاريخية من عصر النهضة العربية، كان التقريع بين النخب الأدبية يستخدم مقولة الركاكة للجم بروز إنتاجات أدبية غير معيارية بمقاييس ذائقة العصر حينها؛ وتتابع زينة حلبي كيف كانت النخب المصرية، الأدبية والفكرية، خلال القرن العشرين تستخدم نفس الحجة بالركاكة لقمع مبدعين وفنانين لا تحاكي منتجاتهم ما ينبغي. في نفس السياق وذات النفس الأكاديمي تأتي مادة إيلاف بدر الدين لتبحث في الترجمة كفعل قد يكون حاملاً للعنف، ترجمة بالمعنى التقني الأول اللغوي، في اختيار المعادلات المعجمية والتراكيبية، وكذلك الترجمة كنقل لقضية، تخضع لمقيدات وضواغط سوق وسياسات الترجمة العنيفة في تراتبيتها وعدم تناظرها بالمعنى السلطوي للكلمة.

استعادة التفكير اللغوي من الفضاءات الاختصاصية  هو ما نطمح للبدء به مع هذا الملف  ونرجو أن نكون قد وفقنا نوعاً ما.