دفعت المصاعب الاقتصادية، التي خلّفتها ثماني سنوات من العمليات العسكرية والنزوح المستمرَّين، بشرائح واسعة من النساء السوريات المقيمات في مناطق سيطرة النظام للعمل ضمن قطاعات لم تكن المرأة السورية جزءاً منها سابقاً، وذلك على الرغم من ضعف تأهيل هؤلاء النسوة مهنياً وخوض كثيراتٍ منهنّ هذه التجربة للمرة الأولى. ويبدأ عمل المرأة ضمن قطاعاتٍ معينة في الغالب اضطرارياً، وذلك نتيجة فقدان المُعيل في حالاتٍ كثيرة، بالإضافة إلى تزايد أعباء الحياة والاضطرار لتغيير مكان العيش وما يترتب على ذلك من استئجار بيوت وحرمان من عوائد الأملاك غير المنقولة كالبيوت والأراضي الزراعية، فضلاً عن انخفاض القوة الشرائية وصعوبة التعويل على مصادر الدخل القديمة كالرواتب الحكومية. ولكن كثيراً ما يؤدي هذا العمل الاضطراري إلى تعزيز الشعور بالاستقلالية لدى هؤلاء النساء، ويصبح من الصعب على المرأة التخلي عنه. وتفكّر كثيرات من النساء (النازحات بشكلٍ أكبر) في مآلاتهنّ المهنية، ومدى قدرتهنّ على مواصلة أعمالهنّ بعد استقرار الأوضاع في سوريا وعودتهنّ إلى مدنهنّ وقراهن.
وليس الانخراط في أسواق العمل المفتوحة حديثاً أمام النساء بالأمر الهيّن، لا سيّما بالنسبة للنساء النازحات اللواتي فقدن أزواجهن فاضطررن لإعالة الأطفال بمفردهنّ، فهؤلاء معاناتهنّ مضاعفة، وقد فُرض عليهنّ الخروج إلى سوق العمل دون مؤهلات أكاديمية أو مهنيّة كافية، فاضطررنَ للعمل ضمن أشغال متفرّقة في القطاع الخاص وغير النظامي؛ ممّا أدى لتعرّض كثيراتٍ منهنّ إلى أشكال متنوّعة من الاستغلال المادي والنفسي. في السنوات الأخيرة، وبعد انهيارٍ شبه كلي للبنية التحتية وإغلاق عددٍ كبير من المعامل والورش وتراجع القطاع الزراعي، وهي أكثر القطاعات الخاصة التي كانت تحضر فيها نساء الطبقات الفقيرة قبل الثورة، افتُتح عددٌ غير قليل من الورش الصغيرة غير النظامية، وقد جذبت هذه الورش النساء إليها بأجور رخيصة وظروف عمل قاسية وتهديد دائم بالفصل من العمل، بسبب وجود عرضٍ كبير من قوة العمل النسائية ومحدودية في الفرص.
تعمل صالحة الحسن (اسم مستعار) في ورشةٍ لصناعة الأحذية داخل قبوٍ سيء التهوية في مدينة دمشق، وبسبب الاستعمال الدائم للمواد اللاصقة في صناعة الأحذية باتت تعاني من صداع ودوار دائمين نتيجة استنشاقها لهذه المواد. وعلى الرغم من أنّ راتبها الشهري لا يتجاوز 24 ألف ليرة سورية، فهي تعمل لتسع ساعاتٍ متواصلة في اليوم، وليس بمقدورها الحصول على إجازة صحية حين يصيبها الصداع، بل تُخصم تلك الإجازة من راتبها، مع وجود تهديدٍ دائمٍ بالطرد حين تعترض على ذلك، وذلك بسبب «وجود مئات العاملات اللواتي ينتظرن الفرصة للعمل بدلاً منها» على حدّ قول مالك الورشة.
وخلال العامين الأخيرين، ومع تناقص أعداد الشباب السوري لجهة انخراطه في الحرب أو فراره من الخدمة الإلزامية، لجأت عددٌ من البلديات في ريف دمشق، وبشكلٍ أقل في العاصمة، إلى توقيع عقود مياومة مع نساءٍ نازحاتٍ في معظمهنّ، في أعمالٍ كانت حكراً على الرجال، مثل أعمال النظافة. مدة هذه العقود ثلاثة أشهر قابلة للتجديد ثلاث مرات في العام الواحد؛ بحيث ينقطع العامل عن العمل لمدة ثلاثة أشهر في العام الواحد، وبالتالي يفقد حقه في التثبيت ولا يُحتسب هذا العمل كجزءٍ من وظيفته في حال تقدّمَ إلى وظيفة حكومية وحصل عليها لاحقاً، كون جميع مسابقات التوظيف تضمّ بين بنودها شرطاً يقضي بقبول «العمال الوكلاء ممّن مضى على عملهم عامان كاملان من غير انقطاع».
بالحديث إلى عاملة نظافة بريف دمشق، وقد حجبت وجهها بالكامل ورفضت إعطاء اسمها، قالت للجمهورية إنّها تعمل ثماني ساعاتٍ يومياً في تنظيف الشوارع، وتتقاضى أجرها بشكلٍ أسبوعي بواقع 700 ليرة سورية عن يوم العمل الواحد. وبسبب عدم كفاية هذا الأجر لتأمين الطعام لأولادها، فهي تعمل أيام العطل في تنظيف البيوت وشطف الأدراج. تضيف السيدة: «قبل أن أعمل في تنظيف الشوارع كنتُ أعملُ في البيوت فقط، وقد تعرضت للتحرش بشكلٍ متكرر، كما اتُّهمتُ في إحدى المرات بالسرقة، وذلك من أجل التهرب من دفع أجوري التي تراكمت مدة شهر بعد عملي في بيت إحداهنّ. الميزة الوحيدة التي أجدها في تنظيف الشوارع هي أنّ رائحتي القذرة تُبعد المتحرّشين عني».
كذلك دخلت النساء في قطاعات أخرى في سوق العمل، كانت الأعراف الاجتماعية حاجزاً يفصلهنّ عنها، كمحلات بيع وصيانة الأجهزة المحمولة وتجارة المواد الصحية والكهربائية. وفي هذا السياق تروي حسناء الجابر (اسم مستعار)، التي تدير محلاً لبيع المواد الصحية والخردوات في إحدى ضواحي دمشق، كيف بدأت تجارتها، فتقول: «أنا لا أبيع مواد الصحية فقط، بل أذهب إلى البيوت لتصليح الأعطال الطارئة. في الحقيقة لم أختر هذا العمل، غير أنّ أخي كان يُدير هذا المحل، ثم اختفى في ظروفٍ غامضة وصارت عائلتنا بلا مُعيل، ولم يكن أمامي من خيار سوى إعادة فتح دكانه وإدارته بنفسي. ونتيجة التشجيع والتعاطف الذي لقيته من جيراني في المنطقة بدأتُ بتصليح الحنفيات في بيوت هؤلاء الجيران، ومن ثمّ راكمتُ خبرةً معقولة وبات لدي مساعدة، وصرنا لا نتردد في قبول اتصالات الزبائن الذين يطلبون إصلاح أعطال في التمديدات الصحية لبيوتهم داخل المنطقة».
تنتشر في دمشق وريفها مجموعات النساء التي تدير المطاعم وتقدّم خدمات الطبخ والتوصيل إلى البيوت، كما تُحضِّرُ هذه المطاعم جميع أنواع المعجنات والحلويات والكبب. وعند سؤال إحدى هذه المجموعات عن الظروف التي جعلتهنّ يفكرن في هكذا مشروع، أوضحنَ أن البداية كانت عند نزوحهنّ من مدنهنّ وقراهنّ مع أطفالهنّ، ومن غير أزواج أو إخوة شباب، فاستأجرنَ منزلاً مشتركاً للسكن، وبدأنَ بالعمل فيه على تقديم الطعام للزبائن حسب التوصية، ونتيجة الزيادة في الطلب قرّرنَ أن يفتحنَ مطعماً مستقلّاً، وتعمل اليوم في هذا المطعم 16 امرأة جميعهنَّ يُعِلن أسراً. وعلى غرار المطعم، هنالك اليوم مخبزٌ مشابه قد افتتح مؤخراً، وكل العاملات فيه من النساء.
بالانتقال إلى الساحل السوري، وتحديداً في قرى ريف طرطوس، بات شائعاً أن تضمن النساء المحاصيل الزراعية، بعد أن فرغت هذه القرى من قسطٍ كبير من رجالها وشبّانها الذين التحقوا بجيش النظام والميليشيات التابعة له. وإذا كانت النساء في هذه القرى متعودات على العمل في أراضيهنّ أو داخل نطاق القرية، أو في مجموعات عمل ذات طبيعة عائلية ويترأسها رجالٌ في العادة، فهنّ اليوم يضمنّ المحاصيل في قرى أخرى مجاورة، وقد تشجّعن على الذهاب إلى الحقول البعيدة لزراعتها وجني المحاصيل منها، وذلك في مجموعات عمل تتألف من نساء فقط في حالات كثيرة.
أيضاً، ظهرت مؤخراً بعض شركات الصناعات اليدوية الصغيرة والمتوسطة، تديرها نساءٌ من الطبقة المتوسطة أو المتوسطة العليا، وتصدّر منتوجاتها إلى البلدان الأوروبية. وتعمل في هذه الشركات نساءٌ نازحات، لا سيّما من دوما وداريا، اللتين تشتهران بصناعة البروكار الدمشقي، وتمكنت هؤلاء النسوة من إعادة إحياء هذه المهنة، وهنّ يتقاضينَ عن هذا العمل رواتب جيدة نسبياً، كما أنهنّ يصنعنَ إلى جانب ذلك المنتوجات الجلدية المطرزة والمصنوعة يدوياً بشكلٍ كامل، فضلاً عن صناعة الكروشيه والإكسسوارات وتطريز كافة أشكال الملابس النسائية يدوياً.
وقد جذبت النساء العاملات في مثل هذه الشركات اهتمام المنظمات المحلية والدولية، ومنها صندوق الأمم المتحدة الإنمائي، فشاركت نساء عديدات في ورشات تدريبية بهدف صقل وتطوير مهاراتهنّ اليدوية، بالإضافة إلى ورشات حول كيفية كتابة مخطط مشروع وإدارته لاحقاً، كما تم تعريفهنّ من خلال هذه الورشات على بعض المفاهيم النِسوية، وقد تمكنت بالفعل أكثر من سيدة من افتتاح مشروعها الخاص في وقتٍ لاحق.
تفرض الوقائع الراهنة في سوريا تحولات على مدى ونطاق حضور النساء في سوق العمل، ولا نستطيع التنبؤ اليوم فيما إذا كانت هذه التحولات ستقود إلى مكاسب حقيقية للنساء في المدى المنظور، سواء على صعيد أدوارهنّ الاجتماعية أو على الصعيد البنية الحقوقية والاقتصادية التي تميّز ضدهنّ، غير أن ما يبدو مؤكداً هو أن هذه التحولات ستترك أثرها العميق في المجتمع السوري على المدى الأطول.