بدأت يوم الأربعاء الفائت أعمال اللجنة الدستورية السورية في جنيف، وقد أعلن غير بيدرسون، المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، انطلاق أعمالها في بيان افتتاحي أعقبته كلمتان؛ الأولى لممثل وفد النظام أحمد الكزبري، الذي أسمى مجموعته بـ«الوفد المدعوم من الحكومة»، والثانية كانت لممثل وفد هيئة التفاوض السورية المعارضة هادي البحرة. ثم أعقب ذلك على مدار ثلاثة أيام إلقاء كلمات من أعضاء القوائم الثلاثة المشاركة في اللجنة، قائمة النظام وقائمة المعارضة وقائمة المجتمع المدني التي شكلتها الأمم المتحدة.
وقد وجّه أعضاءٌ في قائمة النظام تحيات لجيش النظام وقواته، مما تسبب بلغط ضمن القاعة استدعى توقف أعمال اللجنة في بعض الأحيان. وكانت كلمات وفد النظام بشكل عام واضحة في الرسالة التي تقدمها، إذ يعتبر أعضاء الوفد أنفسهم الممثلين الحقيقيين لسوريا، كما أنهم كرروا مراراً كلام النظام وإعلامه حول المؤامرة والجماعات الإرهابية المسلحة، موجهين اتهامات بدعم الإرهاب للمعارضة، بمن فيها «بعض الحاضرين في القاعة». بالمقابل، أشارت الكلمات التي قرأها أعضاء وفد المعارضة إلى الرغبة بكتابة دستور ديمقراطي يضمن المساواة بين السوريين، دون أي إشارات واضحة للمسؤولين عن الحرب والمذابح وسفك الدماء في سوريا.
وعلى الرغم من الخلافات التي شهدتها الجلسات على مدى ثلاثة أيام، إلا أن المبعوث الدولي استطاع في نهايتها الإعلان عن إقرار ما كان متفقاً عليه سابقاً من تعيين رئيسين مشتركين للجنة هما هادي البحرة عن المعارضة وأحمد الكزبري عن النظام، كما تم إقرار نظام داخلي ومدونة سلوك للجنة بما يتضمن قواعد عامة لعملها وآلية التحدث وإدارة الجلسات فيها. وبالإضافة إلى ذلك، تم الاتفاق على أسماء أعضاء الهيئة المصغّرة التي تضم خمساً وأربعين شخصاً، ومهمة هذه الهيئة أو اللجنة المصغّرة هي القيام بصياغة مواد دستور سوري جديد أو التعديل على الدستور الموجود، على أن يتم نقاش نتائج عملها لاحقاً ضمن اللجنة الموسعة، التي ستتخذ قراراتها بالتوافق أو بالتصويت بأغلبية 75 بالمئة. وكانت قائمة أسماء أعضاء اللجنة الدستورية الموسّعة، التي تضم 150 شخصاً، قد اكتملت قبيل بدء أعمال اللجنة بأيام قليلة، إذ كان عدة مرشحين لعضويتها في قائمة المجتمع المدني قد انسحبوا وتمّ استبدالهم بآخرين.
ومن المقرر أن تبدأ أعمال الهيئة المصغرة اليوم الإثنين، وهي تضمّ خمسة عشر اسماً من قائمة هيئة المفاوضات السورية المعارضة، ومثلهم من قائمة النظام، ومثلهم أيضاً من قائمة المجتمع المدني. وليس معروفاً بعد ما إذا كان سيتم الاتفاق على صياغة دستور جديد، أم الاكتفاء بإدخال تعديلات على دستور العام 2012، كما أن الإطار الزمني لعمل هذه الهيئة ليس متفقاً عليه بعد.
في المؤتمر الصحفي الذي عقده هادي البحرة، الرئيس المشترك للّجنة الدستورية، كانت اللهجة بالغة الحيادية، وقد حاول البحرة من خلالها على ما يبدو لعب دور توافقي من موقعه كرئيس مشترك، مع أنه في الواقع يمثل وفد المعارضة السورية. بالمقابل، لم ينسَ أحمد الكزبري، الرئيس المشترك الآخر، موقعه كممثِّل للنظام في أي وقت، وكذلك فعل جميع أعضاء وفد النظام، وذلك على الرغم من أن الوفد يرفض اعتبار نفسه وفداً للنظام، وهو ما أكده بشار الأسد نفسه في اللقاء الذي أجراه قبل أيام، معتبراً أن الوفد يمثّل وجهة نظر حكومته دون أن يكون ممثلاً رسمياً لها، ما يعني قدرته على الانسحاب من أي تفاهمات قد تنتج عن أعمال اللجنة الدستورية.
شهدت وقائع الأيام الثلاثة الأولى خلافات بنبرة عالية بين المشاركين، لكن هذه الخلافات لم تكن أكثر ما يلفت النظر في أحداث وتطورات ملف اللجنة الدستورية، بقدر ما كانت ملفتة للنظر التسجيلاتُ المصوَّرة التي سرَِّبها أعضاء من وفد النظام من الجلسات، والتي ركزّت دوماً على الاتهامات التي كانوا يوجهونها خلال كلماتهم للمعارضة السورية بالإرهاب وبارتكاب انتهاكات.
youtube://v/eLtEJ2IjUTo
كانت الرسالة التي توجهها هذه الفيديوهات المسرّبة واضحةً للغاية، إذ لا تراجع عن أيٍّ من مكونات رواية النظام حول ما يجري في سوريا، ولا اعتراف من أيّ نوع بأن هناك معارضة سيتم التشارك معها في صياغة مستقبل البلاد. لقد أدّت تلك التسجيلات دورها في التأكيد على ولاء أعضاء الوفد الشديد للنظام، والتزامهم الموقف الذي لم يتغير لمعلميهم في دمشق، إلا أنها أدت دوراً أكثر أهمية في الواقع، وهو التأكيد على أن أيّ تفاوض مع النظام ضمن الأوضاع والشروط الراهنة هو نقاش عبثيّ بالضرورة، وأنّه سيكون بالضرورة أيضاً خطوة لشرعنة وجوده كونه لا يترافق مع أي خطوات لبناء الثقة، مثل إطلاق سراح المعتقلين، أو إيقاف القصف العنيف الذي تشهده في هذه الأيام قرى ريف إدلب الجنوبي والغربي.
سيكون ممتعاً لو أننا نستطيع أن نشاهد تعابير وجه غير بيدرسون عندما يقرأ النص المترجم لكلمات أعضاء وفد النظام، أو تعابير وجه الممثلة العليا للشؤون الخارجية الأوروبية فيديريكا موغيريني، التي أصدرت بياناً اعتبرت فيه بدء أعمال اللجنة الدستورية «لحظة مهمة طال انتظارها»، إذا ما شاهدت تلك الفيديوهات المسرّبة. تشرح هذه الفيديوهات وطريقة تصويرها وتسريبها مدى تفاهة المسار السياسي الذي يريد الأوربيون دعمه للتفاوض مع نظام الأسد، الذي هو تافه بمقدار تفاهة تلك التسجيلات التي نشرتها صحيفة الوطن السورية شبه الرسمية. ومن الصدف الممتعة أيضاً أن يكون قدري جميل، رئيس منصة المعارضة السورية المقربة من موسكو، قد اعتبر في افتتاحية صحيفته قاسيون أن بدء أعمال اللجنة الدستورية تقدمٌ كبير نتيجة «تراجع الدور الأميركي» وثبات موقف «ثلاثي أستانا»، وذلك بالتزامن مع تغريدة مصطفى سيجري الناطق باسم «الجيش الوطني» التابع لأنقرة، والتي وصف فيها كلمة هادي البحرة بـ«التاريخية».
من الممتع حتماً مشاهدة هذا التوافق بين قدري جميل ومصطفى سيجري وهادي البحرة، ومن الممتع أن نشاهد كيف أن المشاركة في أعمال اللجنة الدستورية كانت فرصة لتأكيد الولاء للنظام ورأسه بشار الأسد بالنسبة لأعضاء «وفد الحكومة السورية» بحسب تعبير الأمم المتحدة، التي تصر على استخدام هذا التعبير رغم أن بشار الأسد قد أكد صراحة عدم صحته، وكذلك أعضاء الوفد نفسه. يقول أعضاء الوفد إنهم لا يمثلون النظام، ما يعني إفقاد أعمال اللجنة الدستورية أي معنى لها مهما كان هذا المعنى تافهاً ومتواضعاً، لكن الأمم المتحدة ووفد المعارضة ووفد المجتمع المدني يصرّون على استكمال التمثيلية السمجة حول أن اللجنة الدستورية تطورٌ بالغ الأهمية.
ولكن بعد الانتهاء من تلك النكات الممتعة، سيكون من الضروري أن نسأل أعضاء وفد المعارضة السورية عن الهدف من وجودهم في حفلة التفاهة تلك، عن الاستحقاق الذي ينتظرون المشاركة فيه بينما النظام لا يقبل بالوجود رسمياً في تلك اللجنة؛ ما هو سبب حضور تلك الاجتماعات وسماع عبارات تمجيد القتلة من وفد النظام؟ بينما رأس النظام في دمشق يرفض أن يعتبره ممثلاً لحكومته، ويؤكد أن نتائج أعمال هذه اللجنة لن ترتبط بإجراء أي انتخابات مستقبلية، وأن أي انتخابات مستقبلية ستكون تحت إدارة «الدولة السورية» وحدها.
من حق جميع السوريين الذي يعانون ويلات القصف والمذابح والاعتقال معرفة سبب وجودكم هناك؛ ما الذي تفعلونه إذا كان وفد النظام غير مستعد لتقديم أي تنازلات، بل إذا كان وفد النظام غير موجود أصلاً؟ لماذا تجنبتم الإشارة إلى رأس النظام وجرائمه في كلماتكم فيما كان وفد النظام يوجه الإهانات لكم ولكل معارض له أو ثائر عليه؟ لماذا حرصتم على أن تتضمن كلماتكم حديثاً عاماً عن دستور يضمن المساواة والكرامة للسوريين، بينما لا يضمن موقعكم هذا أي كرامة لكم أو للسوريين.