أعلن كل من الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، مساء أمس الثلاثاء عن توصلهما إلى اتفاق حول الوضع في الجزيرة السورية، وقد قرأ وزيرا خارجية البلدين بنود هذا الاتفاق بالروسية والتركية، والتي تلخصت بإشراف موسكو على انسحاب «وحدات حماية الشعب» الكردية من المناطق المحاذية للحدود السورية التركية خلال 150 ساعة، على أن يحتفظ الجيش التركي وأتباعه السوريون بالمناطق التي سيطروا عليها في تل أبيض ورأس العين ومحيطها، وأن يتم بعدها تسيير دوريات مشتركة بين تركيا وروسيا، للإشراف على المنطقة.

ولم يُشر الاتفاق إلى عودة النازحين الذين هربوا من المنطقة بسبب العمليات العسكرية وخوفاً من التعرض للقتل أو الاعتقال، كما لم يُشِر إلى هوية القوات التي ستسيطر على المناطق التي ستنسحب منها وحدات حماية الشعب، إلا أن سياق الاتفاق، وسعادة بوتين التي كانت بادية على وجهه بعد الإعلان عنه، توضح أن قوات النظام هي القوة التي ستسيطر عليها في النهاية.

يأتي هذا الاتفاق بعد أيام من اتفاق مماثل بين أنقرة وواشنطن، ضمنت فيه الولايات المتحدة أيضاً انسحاب وحدات حماية الشعب من المنطقة، ووافقت عليه قوات سوريا الديمقراطية، إلا أن الرئيس التركي أعلن عدة مرات بعد إنجاز اتفاقه مع واشنطن أنه سيستأنف العمليات بعد انتهاء مهلة 120 ساعة التي أعطتها الاتفاقية لانسحاب وحدات حماية الشعب، كما أن الاتفاق التركي الأميركي لم يأتِ بدوره على ذكر الجهة التي ستسيطر على المنطقة بعد انسحاب المقاتلين الأكراد، وهو ما ترك الباب مفتوحاً على تكهنات حسمها الاتفاق التركي الروسي.

وعلى الرغم من الاتفاق التركي الأميركي الذي قضى بتعليق العملية التركية خلال مهلة 120 ساعة، لم تتوقف عمليات القصف التركية أثناء تلك المهلة، بل استمرت على مدينة سريه كانيه /رأس العين التي كانت محاصرةً من القوات السورية التابعة لأنقرة، كما استمرت الاشتباكات في محيط المدينة حتى انسحاب قسد منها تماماً، وبسط السيطرة التركية الكاملة عليها.

من الناحية الإنسانية، قالت منظمة العفو الدولية (أمنستي) إن لديها أدلة دامغة على ارتكاب انتهاكات جسيمة وجرائم حرب خلال العملية، وجاء في تقريرها الصادر حول الأوضاع في المنطقة أن المعلومات التي تم جمعها تُقدِّمُ «أدلة دامغة على الهجمات العشوائية في المناطق السكنية، بما في ذلك الهجمات على منزل ومخبز ومدرسة، نفذتها تركيا والجماعات المسلحة السورية المتحالفة معها. كما تكشف تفاصيل مروعة عن ارتكاب عملية إعدام ميداني، بصورة وحشية، لناشطة سياسيّة سورية كردية بارزة، هي هيفرين خلف، على أيدي أفراد من جماعة أحرار الشرقية، وهي جزء من الجيش الوطني السوري، وهو تحالف من الجماعات المسلحة السورية المجهزة والمدعومة من قبل تركيا».

في تسجيل مُصوَّر، يظهر أردوغان وبوتين جالسين ينظران إلى خريطة لسوريا ويتحدثان بشأنها، ثم يطويانها ويتبادلان الابتسامات الواثقة المنتصرة أمام الكاميرات. تم تصوير هذا المقطع قبيل الإعلان عن الاتفاق بين الطرفين، وهو يبدو أداة دعائية موجهة لأنصارهما، فالإثنان لا يشعران بالرضى عن شكل خرائط المنطقة، ويعتبران أنها ظلمت الحجم الحقيقي لقوة بلديهما؛ تغيير هذه الخرائط هو تعبير عن القوة التي تمتلكها الدولتان إذن، عن القوة التي يمتلكها الجيشان، وهذا المشهد بالذات كان تعبيراً عن قوة الرجلين.

youtube://v/O8Pu7TAd0D0

في عالَم صور بوتين التي يركب فيها حصانه مرتدياً بنطالاً عسكرياً فقط في الأجواء الباردة، وفي عالم خطب أردوغان التي يعلو فيها صوته الجهوري بالقصائد القومية، يمكن أن نجد مكاناً واضحاً للفكرة التي يبدو أنها تسيطر على الرجلين؛ التفوق بالقوة الغاشمة، وإنهاء الخصم بلا أي رحمة حتى لو كان بالإمكان الحصول على ما يريدانه قبل ذلك، أو من دونه.

نشأ علم الجغرافيا السياسية بشكله الحديث في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، على يد الألماني فريدريك راتزل، الذي كتب عن الدول وجغرافيتها بتأثير أفكار دارون. ولا نحتاج إلى الكثير كي نشرح مدى فاشية الأفكار التي تريد تطبيق نظرية التطور على الحياة الاجتماعية والسياسية للناس والدول، كان راتزل يقول إن الدول مثل الكائن الحي الذي ينمو باستمرار، وإن حدود الدول هي جلد هذا الكائن الذي يجب أن يتمدد معه؛ الجغرافيا السياسية كانت في تلك اللحظات، وإلى وقت طويل إذن، تعبيراً إيديولوجياً أكثر منه علمياً عن تضخم قوة الدول الصاعدة خلال الحقبة الصناعية، وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما انتقل مركز إنتاج تلك الأفكار إلى الولايات المتحدة.

الجزيرة السورية تقع ضمن هذه الصورة، صورة الرجلين وصورة ذكورتهما الفائضة، أما صورة الخريطة التي عُرضت فهي تمثيل عن مدى تحكمهما بالعالم (الذي هو في هذه الحالة مجرد جزء من سوريا)، وهي أيضاً موضوعٌ لغزواتهما «الكبيرة»؛ إنها التعبير الأوضح عن هذه الذكورة الجغرافيّة السياسية، التي تتمثل بالمدفع رمزاً لذكورتها، وتتمثل بموت الناس رمزاً لسيطرتها التامة.