كثيرة هي الآداب والفنون التي تعبر عن نفسها كآداب أقلّية، إذ توحي اصطلاحات مثل (أدب المثليين، وفنون اللاجئين… إلخ) إلى أدب أقلّي في حضرة أدب أكثري، وكأن هناك تصنيفاً استباقياً لنوع الأدب المُنتَج. بيد أن أسئلة كثيرة تُثار حول وصف فن ما أو أدب بصفة «أقلّي»: ما هي لغة هذا الأدب؟ وعلى أي اعتبار صُنِّف كأقلي؟ وهل الفنون التي ينتجها السوريون (في أوروبا على سبيل المثال) اليوم هي فنون أقلية؟ وهل الأدبيات التي صدرت في بلاد لا يتكلم أصحابها العربية هي أدبيات أقلية؟جميعها؟   

من أجل أدب أقلّي، هي العبارة التي ذيل بها الفيلسوفان الفرنسيان جيل دولوز وفليكس غاتاري كتابهما كافكا، الذي تُرجم حديثاً إلى العربية من قِبل حسين عجة وإصدار دار سطور. تحتمل الترجمة الكثير من الملاحظات، سواء على صعيد الأخطاء النحوية الساذجة، أو ترجمة بعض الاصطلاحات، لكن ذلك لا يمنع قارئ دولوز وغاتاري من تتبع شبكة مفهومية مرتبطة عند الأول بمفهومه عن «التكرار» وعند الثاني بتنظيره لـ «الرغبة». كما يُحسب لها ترجمة عمل دولوز وغاتاري على اصطلاح «الأدب الأقلّي»، الاصطلاح الذي اندرجت تحته، جزافاً، بعض النصوص الأدبية المكتوبة اليوم.

ما هو الأدب الأقلّي؟ 

منذ البداية، يسعى دولوز وغاتاري إلى توضيح توجههما في دراسة كافكا، فهما لا يؤمنان بكل التفسيرات الجاهزة لنصوص كافكا، وهي أكثر من أن تحصى، بل «نحن لا نؤمن إلا بسياسية كافكا، والتي هي لا تخيلية ولا رمزية». كذلك، يحطم الفيلسوفان كل أصنام التأويل الكافكوي المسبقة، وعلى رأسها تأويل التحليل النفسي، التي تفسر نصوص كافكا تفسيرات أوديبية مباشرة. أوديب هذا الذي يراه دولوز عند كافكا «مفرطاً في سمنته». وهنا يبحث دولوز وغاتاري في علاقة أب ــ ابن، أعقد العلاقات الكافكوية. ينطلقان من نص «رسالة إلى الوالد»، من صورة الأب المضخّمة فيه للغاية، المضخمة حد العبث. وهنا الأب لا يفرض علاقة أوديبية مع الابن تغلق حريته، بل «لا تتعلق القضية بالحرية، وإنما بإيجاد مخرج، كما أن قضية الأب لا تتعلق بكيفية التحرر منه (القضية الأوديبية) لكن كيفية العثور على درب لم يعثر هو عليه». لم يبنِ كافكا حدوداً جديدة لأوديب في كتاباته (كما حال تفسيرات كافكا الشائعة) إنما ما فعله هو  «هدّ حدود أوديب في العالم بدلاً من إعادة ترسيم الحدود من فوق أوديب والعائلة». هذا الهدّ على المستوى الأوديبي الأبوي هو ما يجعل من أدب كافكا نموذجاً للأدب الأقلّي الذي ينظّر له الكاتبان، فقضية (أب ـ ابن) ستخرج من حدودها التراجيدية التي كرسها التحليل النفسي، وكرستها الآداب الكبرى، دون أن ترتسم في حدود أخرى. ويصبح التمرد على الأب، كما يراه كافكا: «كوميدياً وليس تراجيدياً». وبدلاً من قتل الأب (الفرويدي) مع سرديته التراجيدية الكبرى، نرى غرق الابن (الكافكوي) في قصة «الحكم» يتبعه «حركة مرور لا نهائية» ساخرة ومتهكمة.

هل هدّ الحدود بالمعنى السالف كافٍ ليجعل من أدب كافكا أدباً أقلّياً؟ وما هي بالأحرى شروط هذا الأدب عموماً؟ يجيب غاتاري أن التهديم الذي يقدمه هكذا أدب يطال اللغة، أي هدّ حدود اللغة، علماً أن الأدب الأقلي «ليس أدب لغة أقلية، وإنما بالأحرى الأدب الذي تصنعه أقلية ضمن اللغة الرئيسية، بيد أن سمته الأولى، وفي كل الحالات، تكمن في مسّه للّغة عبر عامل مزدوج لهدّ الحدود». يمثّل دولوز على ذلك بألمانية براغ في القرن الماضي، وكيف أنها لغة مهدودة الحدود و«جاهزة لاستخدامات غريبة وأقلّانية» حالها حال اللغات الكبرى. وحال كافكا معها هو حال الإيرلنديين صموئيل بيكيت وجويس مع الإنكليزية؛ وسليم بركات، الكردي، مع العربية.

 

تتجلى الخاصية الثانية لأدب الأقليات أنه مُتّهمُ دائماً بالسياسي، فكل ما في الأدب الأقلّي سياسي «أما في الآداب الكبرى، تميل إلى أن تكون شأنا فردياً (عائلي، زواجي… إلخ)». فعندما يطرح كافكا أحد أهداف الأدب الأقلّي باعتباره «التخلص من التعارض ما بين الآباء والأبناء وإمكانية النقاش بينهما، لا يطرح بهذا فنتازماً أوديبياً، وإنما برنامجاً سياسياً»، إذن، حتى أكثر الشؤون الفردية تستحيل إلى قضية سياسية. الأدب، بحالته الأقلية هذه، يعمل دائماً على إيصال الفردي بالسياسي المباشر.

الخاصية الثالثة التي يحددها دولوز وغاتاري للأدب الأقلّي هي أن كل عناصر التعبير فيه تتخذ صيغة جمعية و«كل شيء فيه يكتسب قيمة جمعية». ويغدو ذلك واضحاً حين نرى الارتباط الوثيق بين هذا الأدب وبين التعبير عن مقاومة التلاشي داخل الأكثري السائد. لذلك، تظهر آثار نَفَس ثوري في آداب كهذه، لكنه ليس ثورياً بالمعنى الإيديولوجي للكلمة، بل بالمعنى الفكري الذي يشير إلى قلب قيَم، وزحزحة بديهيات ومسلمات.

لا توجد آداب أقلّية محددة ومسماة، إنما تساعد الشروط الثلاثة السالفة على خلق أدب أقلّي بحضرة أكثرية محيطة، وذلك معناه «أن مفردة أقلية لا تشير إلى آداب بعينها، وإنما الشروط لكل أدب في صميم ما يسمى الأدب الكبير أو السائد». وفي حقل ثورة دائمة كالأدب، فإن تحديد هذا الأدب الأقلّي يبدو مهمة معقدة بعض الشيء، خاصة والأعداد الهائلة من الأفراد الذين يعيشون مع لغة ليست لغتهم «أو حتى ما عادوا يعرفون ما هي لغتهم، ولا يجيدون اللغة العامة المرغمين على استخدامها. مشكلة المهجرين، وبشكل خاص مشكلة أطفالهم. مشكلة الأقليات. مشكلة الأدب الأقلي، ولكنها مشكلتنا جميعاً».    

جبران الأقلّي…

الاشتغال الفلسفي ذاته، الذي قدماه دولوز وغاتاري هنا، قدمه الفيلسوف العربي فتحي المسكيني في كتابه فلسفة النوابت الصادر عن دار الطليعة. ومع أن المسكيني لا يتطرق مباشرة لمفهوم الأدب الأقلّي، إلا أن اشتغاله على نصوص جبران خليل جبران تصب في المنبع النيتشوي نفسه الذي يصب فيه دولوز وغاتاري، فالمسكيني يشرّح كتاب العواصف لجبران خليل جبران، لا كناقد أدبي بل كفيلسوف يحفر في «قصيدة عدمية مطولة وتفكّر رهيب في العدم، من خلاله وضده». جبران، كما كافكا، دفعَ الهدم في نصوصه إلى أقصاه، كأديب أقلّي في حضرة أدب أكثري، واستشرف أفول أصنام الحداثة، وكان بتعبير المسكيني «أول مفكر عدمي تمثّلَ فكرة العدمية بوصفها المعنى الأنطولوجي الأساسي لتجربة الإنسانوية الغربية في القرن الماضي، مثلما أنه القارئ الحديث الأول لمفكر هذه العدمية الغربية بامتياز: نيتشة نفسه». 

في قصة «حفّار القبور»، الفصل الأول من كتاب العواصف، يستبدل جبران مطرقة نيتشه التي حطم بها أصنام الحداثة بـ«رفش لا يكسر بل يحفر قبوراً لأصنام الشرق، بعدما يئس حتى من تكسيرها». ويقرأ المسكيني الشبح في قصة جبران هذه كمطرقة من مطارق فكر جبران «الفيلسوف»، وبتعبير أدق، الشبح على أنه المفكر العربي نفسه. هذا المفكر، الذي يحمل الإجابة ذاتها على سؤال «كافكا الأقلّي»، سؤال الزواج الذي يجيب عنه شبح جبران بقوله: «إنما الزواج عبودية الإنسان لقوة الاستمرار». وعلى غرار موقف كافكا الأعزب من الزواج،  فموقف جبران هنا ليس تلخيصاً لتجربة شخصية بل هو «الوجه التاريخي لسؤال المجتمع، حين ينطرح من داخل المفكر نفسه، معه وضده».

أدب حرب أم أدب أقلّي؟

باعتبارها ارتبطت بحقبة حرب لم تضع أوزارها بعد، تقف الآداب السورية التي أُنتجت في السنوات الأخيرة إلى موضع أقرب فيه إلى ما يسميه دولوز «أدب الحرب». ويؤكد دولوز أن كلايست هو الأقرب لهذا النتاج الأدبي من كافكا، رغم أن الأخير عاصر الحرب العالمية الأولى لكنه «لم يكتب الأدب السياسي أو أدب الحرب». ولا يقصد دولوز بأدب الحرب هنا الآداب التي أُنتجت في خضمّ حرب ما، وارتبط كاتبها بمكان الحرب وحسب، بل أيضاً تلك الآداب التي تكتب في هالة حرب ما، حيث لا يسع الكاتب والفنان النأي عنها، ويبقى، في منفاه أو في موطنه، في عين العاصفة معنياً فيها ومرتبطاً بها، وهو حال كل الكتاب السوريين اليوم على خلاف توجهاتهم ومواقعهم.

ومع أن الحديث حوله يستفيض، لكن يمكن إيجاز القول بأن الكاتب السوري سليم بركات هو واحد من الأمثلة البارزة على الأدب الأقلّي في تراثنا الثقافي المعاصر. لو وُضعت آثار سليم بركات الأدبية على مبضغ دولوز وغاتاري، لظهرت ملامح أدب أقلّي كما هي الحال مع كافكا وجبران. بركات كردي، يكتب بالعربية، ويقيم في أوروبا، لكن ليس كل هذا التشويش في الهوية هو الأساس في كون أدبه أقلّياً، بل لأنه هدّ حدود اللغة بمعنى دولوز للكلمة، فهو لم يكتب بالعربية وحسب، بل فجَّرَ حدودها، ونحت فيها ما نحت. زِد على ذلك أنه لطالما ربط، في شعره ونثره، اليوميَ بالسياسي المباشر، وحملت نصوصه صبغة التعبير الجمعي التي تميز الأدب الأقلّي، أي ذاك الأدب الذي لن يفنيه بارود أو نار، ولا يمحوه تدمير، ويستشرف قيامةً بقوله الذي يتردد فيه صدى جمعي: «قلما تُنتَشلُ القيامة من مآزِقها، وهمُ انْتُشِلوا من مأزقِ القيامة. قتلى في القتلِ. موتى في الموت. أحياءٌ في تبعاتِ الموتِ والقتل». 

لكن ما هو القول في النتاجات الأدبية السورية التي أُنتجت وما تزال في أطر اللاجئين (الأقلية) في حضرة أكثريات أخرى؟ أليست هذه آداباً أقلّية؟ الإجابة من وجهة نظر دولوز تبدو واضحة، فمفهوم (أقلّي) لديه لا يُقصد به فقط الانتماء لـ «أقلية» بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، أو حتى بالمعنى الجندري للكلمة في حالة المثليين، بل هو مرتبط بجذور فلسفية معقدة، وشروط أدبية سلف ذكرها. لذلك، لن تكون الآداب التي تكتب اليوم في المنافي المختلفة للعرب (والسوريين خصوصاً) أدباً أقلّياً، ولا يقدَّر لها ذلك، فهي تكتب بالعربية، وهي جزء من أدب عربي كبير له قِيَمه ومعاييره وحركته. فقط تلك الآداب، التي سيكتبها السوريون بعد مدة طويلة، بلغة البلاد التي قطنوها وأتى إليها آباؤهم، هي التي قد تحمل معها أدباً أقلياً قائماً على هدم الحدود، وارتباكات الهوية الأقلية التي كونت أدب كافكا وجبران وبيكيت وغيرهم.