منذ بداية الحملة العسكرية التركية يوم الأربعاء الماضي، التاسع من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، تشهد أغلب المدن والبلدات والقرى المحاذية للشريط الحدودي السوري التركي في شمال الجزيرة السورية حركة نزوح واسعة للسكان نتيجة الاشتباكات والقصف، الذي أسفر عن ضحايا بين المدنيين بلغ عددهم نحو 64 شخصاً حتى يوم أمس بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان. وقد بلغ عدد النازحين نحو 160 ألف شخص بحسب تقرير أصدره يوم أمس مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة (الأوتشا)، فيما قالت الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا إن العدد اقترب من 200 ألف نازح، وحذرت الأمم المتحدة من أن استمرار العمليات العسكرية قد يؤدي إلى ارتفاع عدد النازحين إلى 400 ألف شخص خلال الأيام القادمة.
وشهدت مدينة تل أبيض شمالي محافظة الرقة ومدينة رأس العين شمال شرقي محافظة الحسكة حركة النزوح الأكثر كثافة، باعتبار أن العمليات العسكرية البرية كانت قد بدأت منهما، ونتج عنها تقدم القوات التركية والقوات السورية التابعة لها في محيطهما ثم في داخلهما. وتوجه معظم النازحين إلى قرى ومناطق بعيدة عن الحدود التركية، وعلى وجه الخصوص القرى الكردية في محافظة الحسكة؛ أو إلى مدينتي الحسكة وتل تمر بمحافظة الحسكة، ومدينة عين عيسى بمحافظة الرقة؛ في حين توجه قسم قليل منهم إلى مدينة الرقة نفسها.
كذلك شهدت مدينة عين العرب/كوباني وريفها حركة نزوح كبيرة أيضاً، وقد تحدثنا إلى هوزان، وهو أحد المدنيين الذين نزحوا من قرية عين البط في ريف المدينة الشرقي، التي تبعد عن الحدود السورية التركية نحو كيلو مترين. يقول هوزان للجمهورية إن «قرب المدينة وقراها من الحدود التركية جعلت المدنيين في قلق كبير من التعرض للقصف، ولذلك نزح معظمهم، ومعهم غالبية المدنيين في القرى الحدودية وكثيرون من سكان المدينة نفسها جنوباً نحو الداخل، متوجهين إلى القرى البعيدة نوعاً ما عن الحدود. لقد نزحتُ مع أسرتي إلى قرية تبعد حوالي سبعة كيلومترات عن الحدود بعد سماع أصوات الأسلحة الخفيفة، ولكن فيما بعد لاحظنا وجود طائرة في السماء ما زاد من خوفنا فاتجهنا نحو قرية تبعد أكثر من 15 كيلومتر عن الحدود».
يقول هوزان إن سيارة والده باتت هي «المنزل الوحيد» لعائلته وبعض أقربائه الذين فرّوا برفقتهم، مضيفاً أنهم يعيشون الآن «بين الأشجار وفي البراري» حالهم كحال الكثيرين، إذ لا تتواجد أي مخيمات أو منظمات إنسانية لتقديم الدعم لهم في مناطق نزوحهم.
ويؤكد الناشط المحلي بانكين العبد الله حديث هوزان، فهو يقول إن الحياة في عين العرب/ كوباني وقراها بدأت تصبح شديدة التوتر منذ اليوم الأول للحملة، وعاش الأهالي حالة ترقب مليئة بالخوف والذعر، مع قصف مواقع في المدينة وريفها ثم وصول أخبار المعارك، وقصف الجيش التركي للقامشلي، وقصفه وتقدمه في تل أبيض ورأس العين.
يقول بانكين «منذ اليوم الأول لبدء الحملة العسكرية استعدّ معظم أهالي مدينة عين العرب للنزوح، إذ باتوا ليلتهم الأولى في العراء ليعودوا إلى بيوتهم صباحاً خوفاً من القصف الليلي، بينما اتجه قسم منهم باتجاه الجنوب المفتوح على كافة الاحتمالات من التعرض للقتل أو النهب والاعتقال. ومع بداية استهداف المدينة في اليوم الثاني نزح نصف سكان المدينة قاصدين مواقع تواجد القوات الأميركية في المطار العسكري جنوب عين العرب بحوالي (15-20 كم) وفي بلدة خراب عشك، ليحتموا بالقوات الأميركية المتواجدة هناك».
يضيف بانكين أن عين العرب/كوباني تحولت بعدها إلى مدينة مرعبة خالية تقريباً من السكان، مع تعرض أطرافها (جبل مشتنور وتلة كانيا كوردان وحاجز مرزا داود) للقصف، الذي أجبر من تبقى من السكان على النزوح. وهو يقول إن عدد النازحين من المدينة وريفها قد وصل لأكثر من 15 ألف عائلة متوزعين باتجاه الجنوب من صرّين إلى خراب عشك شرقاً، يقطنون البراري وينامون في العراء، مضيفاً أنه لا توجد إلى الآن أي منظمة إنسانية أو إغاثية تساعد الأهالي المشردين هناك.
وقد تزايدت أحوال النازحين سوءاً مع طلب القوات الأميركية منهم إخلاء المناطق القريبة من مقراتها، ويقول بعض من تواصلنا معهم إن ذلك جاء بعد أخذ وردّ حول الدور الأميركي السلبي تجاه ما يحدث في المنطقة، وحول تخليهم عن الأهالي، مع أنباء عن انسحاب قريب للقوات الأميركية، وهو ما دفع الأهالي للنزوح مرة أخرى نحو مناطق أبعد، وذلك بحسب بانكين الذي ختم حديثه «الأوضاع الإنسانية مزرية، لا ماء ولا غذاء ولا حليب للأطفال، ولا فراش أو مأوى؛ معظم العائلات تفترش العراء بانتظار ما ستؤول إليه المعارك».
وقد أطلق ناشطون من شمال سوريا نداءً من أجل مساعدة النازحين، تضمَّنَ الحديث عن الأوضاع الإنسانية السيئة جداً، في ظل توقف الإنترنت الفضائي وخطوط الواي فاي، وهو ما فاقم المشكلة نتيجة تعذر إيصال الصورة الحقيقة لمعاناة الناس إلى العالم، وصعوبة التواصل مع الجهات التي يُحتمل ان تقدم المساعدة. وأضاف النداء أنه ونتيجة المعارك نزحت آلاف العوائل، وهو عدد قابل للزيادة مع تقدم المعارك نحو المدن، وناشد النشطاء في ندائهم المنظمات الإنسانية بالتوجه إلى المخيمات ومساعدة الأهالي، حيث بات تأمين حليب الأطفال والأدوية وحتى المواد الغذائية أمراً صعباً بالنسبة للنازحين.
وقد شهدت مدن محافظة الحسكة حالات نزوح أيضاً، لكن بشكل أضيق نطاقاً من تل أبيض ورأس العين وعين عرب، وذلك بحسب الناشط المحلي بشير خليل، الذي أضاف أن كلاً من حي قدور بيك وقناة السويس هما الحيان الوحيدان اللذين تعرضا للقصف التركي في مدينة القامشلي، وهو ما أدى لنزوح بعض العائلات منهما نحو مدينة الحسكة.
وأضاف بشير أن غالبية النازحين إلى مدينة الحسكة هم من مدينة رأس العين، وأن كثيرين منهم تم إيواؤهم في مدارس، فقد «باتت مدارس سعد بن أبي وقاص وبلال بن رباح وفواز جولي ولبيد بن ربيعة وبلحد موسى مقراً للنازحين، تتجمع فيها أكثر من 210 عائلات بمجموع أفراد يقارب الألف شخص».
علي أوسكان هو عامل في منظمات المجتمع المدني منذ ما يزيد عن ثمان سنوات في مدينة الحسكة، وهو يشغل حالياً موقع مدير فرع الحسكة والرقة لمنظمة صروح للاستشارات والتدريب، وقد صرَّحَ للجمهورية أن «غالبية النازحين من رأس العين والدرباسية يقصدون مدينتي الحسكة وتل تمر، لأنها المدن الأكثر أماناً في الوقت الحالي، حتى بلغ عدد النازحين إلى هاتين المدينتين نحو 100 ألف»، مضيفاً أن غالبية النازحين يقصدون بيوت أقاربهم أو يستأجرون بيوتاً، فيما يقيم قسمٌ منهم في مراكز الإيواء.
وقد وصفَ أوسكان وضع المساعدات الإنسانية بأنه «سيئ جداً»، خاصة أن المنظمات الدولية العاملة في مناطق الإدارة الذاتية قد غادرتها تماماً، بعضها منذ أشهر وبعضها الآخر توقف عن العمل قبل الحملة بأيام قليلة، بينما اقتصرت استجابة الأمم المتحدة على النازحين في مراكز الإيواء فقط ومن خلال المنظمات التي لديها مشاريع مشتركة معها سابقاً، وهي استجابة وصفها أوسكان بأنها «غير كافية»، بينما تعمل بعض المنظمات المحلية على تقديم بعض المساعدات للنازحين، بالإضافة إلى نشاط شبكات التضامن الأهلي والمبادرات الفردية.
ولفت أوسكان إلى أن كلّاً من الهلال الأحمر السوري وبطركية الروم الأرثوذكس، وبعض الجمعيات الأخرى، هي التي تعمل بشكل رئيسي في الحسكة في مجال المساعدات والإغاثة الطارئة، بينما ينشط الهلال الأحمر الكردي في الجانب الصحي والطبي.
وتقدم المنظمات العاملة في مدينة الحسكة، بحسب أوسكان، سلّات غذائية وفرش وعدة نوم، بالإضافة إلى تقديم ثلاث وجبات غذائية خلال اليوم الواحد، وختم حديثه للجمهورية بالقول إنه تم تشكيل لجنة من قبل المنظمات والجمعيات المحلية في الحسكة من أجل التنسيق بينهم، على الرغم من أن الاستجابة ليست بالقدر المطلوب فالناس تحتاج إلى استجابة أكثر وخاصة الأطفال والمرضى.
بعض الأهالي، خاصة كبار السن والنساء والأطفال، اتجهوا نحو مناطق النظام في مدينتي الحسكة والقامشلي، حيث تم السماح لهم بالدخول فقط دون تقديم استجابة من أي نوع، وهم يقيمون الآن عند أقربائهم أو يقومون باستئجار المنازل، فيما الشبّان النازحون في سيطرة مناطق الإدارة الذاتية خوفاً من الاعتقال على يد قوات النظام. وقد شهدت مدينة الحسكة ارتفاعاً كبيراً في إيجارات المنازل، إذ تجاوز إيجار المنزل 50 ألف ليرة (سابقاً لم يكن يتجاوز 20 ألف ليرة)، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية ومياه الشرب إلى الضعف.
كذلك توجَّهَ قسم قليل من العائلات النازحة نحو مدينة الرقة، ويقول من تواصلنا معهم إن المدينة لا تزال تفتقر إلى الخدمات الأساسية منذ طرد داعش معها، وتغيب فيها فرص العمل، كما أن الدمار كبيرٌ فيها، وهو العوامل التي أدت إلى قلّة أعداد من توجهوا إليها.
بالإضافة إلى ذلك، يخشى كثيرٌ من النازحين الذين تواصلنا معهم من نشاط خلايا داعش النائمة، وهو ما دفع كثيرين إلى عدم التوجه إلى مناطق يُحتمل أنَّ فيها نشاطاً لعناصر التنظيم، وأيضاً، تحدّثَ كثيرون منهم عن خشيتهم من أعمال انتقام أو انتهاكات متبادلة جراء التوتر بين المكونين العربي والكردي، وهو ما دفع معظم النازحين الأكراد إلى التوجه نحو مناطق كردية ومعظم النازحين العرب إلى التوجّه نحو مناطق عربية، كما تشير التقديرات التي لا يمكن التأكد منها إحصائياً إلى أن نسبة النزوح بين أبناء المكون الكردي أعلى من نسبة النزوح بين أبناء المكون العربي.
يشكو النازحون من ضعف استجابة مؤسسات الإدارة الذاتية والمنظمات المحلية والدولية لظروفهم، إذ لم يتم تجهيز أي مخيمات أو خطط استجابة لمساعدة السكان الفارين من القصف، علماً أن الحديث عن الحملة العسكرية بدأ منذ نحو شهر على أقل تقدير. ويواجه هؤلاء النازحون اليوم مصيراً مجهولاً نتيجة عدم وضوح الرؤية بخصوص مسار المعارك ومدى استمرارها ونتائجها، ونتيجة قدوم فصل الشتاء الذي سيزيد من معاناة مئات آلاف النازحين الجدد مع اتساع رقعة المعارك، التي تُضاف إلى مآسي النازحين السوريين جرّاء المعارك في سائر أنحاء البلاد.