أعاد البيان الذي أصدره البيت الأبيض مساء أول أمس الأحد بتوقيت واشنطن (فجر الإثنين بتوقيت سوريا)، الوضع في منطقة شرق الفرات إلى الضبابية التي خيمت عليها، وعلى سوريا عموماً، بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب جنوده من سوريا العام الماضي. وعلى الرغم من أنه تم التراجع عن تنفيذ ذاك القرار، إلا أن النتائج التي كان يمكن أن تترتب على تنفيذه ظلت تفرض حضورها على الملف السوري،  حتى أعاد البيت الأبيض الكرّة مجدداً، وفاجأ الجميع بإعطائه ضوءاً أخضر لتركيا كي تقوم بعملية عسكرية في المنطقة التي تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية بدعم من الولايات المتحدة.

وقال البيان الذي وصفت وسائل إعلام أمريكية وقت صدوره بالاستثنائي، إن «الرئيس دونالد ترامب تحدث على الهاتف مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تركيا ستتحرك قريباً للقيام بعملياتها التي خططت لها طويلاً شمال سوريا، والقوات الأميركية لن تدعم أو تنخرط في هذه العملية»، وأضاف البيان أن القوات الأميركية لن تبقى بعد الآن في المنطقة المباشرة (الحدود السورية-التركية)، كما أشار إلى أن تركيا ستتكفل بعناصر داعش المحتجزين في المنطقة بعد أن رفضت دول أوروبا طويلاً إعادة مواطنيها من عناصر التنظيم.

بعد ساعات قليلة من البيان المفاجئ، قامت قوات أميركية كانت متمركزة في مدينتي تل أبيض ورأس العين الحدوديتين مع تركيا بالانسحاب من مواقعها، الأمر الذي دفع إلى ترجيح احتمال بدء القوات التركية بعملياتها خلال فترة قريبة جداً، إلا أن تصريح لمسؤول تركي لوكالة رويترز خفَّفَ من احتمالات بدء الجيش التركي العمليات فوراً، إذا قال المسؤول التركي الذي لم يكشف عن اسمه إن تركيا ستنتظر انسحاب كل القوات الأميركية من مجال العمليات قبل بدء المعركة، وأن هذا الأمر قد يستغرق حوالي الأسبوع.

من جهتها، اعتبرت قيادة قسد في بيان صادر عن مصطفى بالي الناطق باسمها أن هذا التصرف الأميركي طعنةً في الظهر، وأن العمليات التركي ستقضي على الجهود الطويلة لمحاربة داعش، وفي الوقت نفسه ألمحت قيادة قسد في تصريحات لوسائل الإعلام أن أحد نتائج الأولى لسماح الولايات المتحدة لتركيا بالتعمق داخل شمال شرق سوريا ستكون سيطرة النظام على مدينة منبج.

أما وسائل الإعلام التركية فقد نشرت صوراً خلال يوم أمس لما قالت إنه استعداد عناصر «الجيش الوطني» السوري المدعوم من أنقرة للتحرك نحو شرق سوريا والبدء بالعمليات العسكرية هناك، فيما أكد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في تصريح له أمس أيضاً عزم بلاده على «تطهير المنطقة من الإرهابيين».

ردود الفعل على قرار ترامب جاءت سريعاً، فقد أعلن عدد من الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ رفضهم لهذا القرار، وعلى رأسهم السيناتور ليندسي غراهام المهتم عادةً بالملف السوري، الذي قال البارحة إن «هذا القرار بالتخلي عن حلفائنا الأكراد وتسليم سوريا إلى روسيا وإيران وتركيا (يشبه) حقنَ كل متشدد بالمنشطات، حقنة في ذراع الشخص السيئ، ومدمر بحق الشخص الصالح»، وهدد غراهام بأن يتشاور مع النواب الديمقراطيين لإقرار قانون عقوبات على تركيا إذا قامت بعمليات عسكرية شمال شرق سوريا، وهو أمر يحظى بـ «تأييداً بين نواب الحزبين الكبيرين» حسب غراهام.

كذلك قال رئيس الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل إن تصرف ترامب سيقوّضُ الأمن القومي للولايات المتحدة، وربما يؤدي إلى تعزيز إرهابييّ الدولة الإسلامية، وأضاف ماكونيل في بيان يوم أمس الإثنين أن «الانسحاب السريع للقوات الأمريكية من سوريا لن يفيد سوى روسيا وإيران ونظام الأسد»، بعد تأكيده على أن الغالبية العظمى في مجلس الشيوخ تعارض قرار الرئيس ترامب، مما سيعرّضُ هذا القرار لاحتمال اتخاذ فيتو ضده من قبل السلطة التشريعية في واشنطن. كما شمل هذا الخلاف العلني النادر مع الرئيس من قبل أعضاء جمهوريين كبار في مجلس الشيوخ العديد من الأسماء الأخرى أيضاً، فقد قال السيناتور باتريك ج. تومي في بيان له أمس إن «هذه الخيانة للأكراد ستضرّ بشدة بمصداقيتنا كحليف في جميع أنحاء العالم. على الرئيس ترامب إعادة التفكير في هذا القرار على الفور».

في المساء غيرت تغريدة لترامب حسابات النهار، إذ قال الرئيس الأميركي عبر تويتر بأنه سيقضي على الاقتصاد التركي كلياً إذا ما «تجاوزت أنقرة الحدود»، هذه الحدود التي قال إنه يعرفها «بحكمته العظيمة التي لا مثيل لها». وقد أدّت هذه التغريدة إلى إعادة النظر مجدداً في بيان البيت الأبيض وأبعاده، خاصةً بعد أن نقلت عدة وسائل إعلام أميركية، من بينها موقع قناة الحرة، تصريحات لمسؤول رفيع المستوى في الخارجية الأميركية، أعطى خلالها  تفسيرات مختلفة لمجريات المكالمة الهاتفية التي جرت بين ترامب وأردوغان، إذ قال إن المكالمة كانت إيجابية وتعرضت لعدة نقاط من بينها مسألة صواريخ إس-400، غير أن الرئيس التركي تحوَّلَ نحو الحديث عن نيته القيام بعملية عسكرية شمال شرق سوريا لأن المعطيات الحالية للمنطقة الآمنة لا تلبي مطالب تركيا، فكان جواب الرئيس الأميركي مفاجئاً عندما قال إن الولايات المتحدة لن تدعم مثل هذه العملية شكلاً أو مضموناً، وإنها «فكرة سيئة جداً» و«لن توفّرَ أمناً أفضل لتركيا وأبناء المنطقة في القتال مع داعش».

كما لفت المسؤول الأميركي إلى التباين بين بياني الرئاسة التركية والبيت الأبيض، إذ أشارت أنقرة إلى دعوة الرئيس التركي إلى واشنطن للتباحث في المسائل المشتركة، بينما لم يتم ذكر هذه النقطة في بيان البيت الأبيض، وهو ما يعني حسب المسؤول نفسه أن هذه الدعوة تم توجيهها خلال الجزء الإيجابي من الحوار وتم سحبها لاحقاً.

جاءت هذه التطورات لتغيّر من الانطباع الذي كان سائداً حول أن بيان البيت الأبيض قد منح تركياً ضوءاً أخضر لتنفيذ عملية واسعة شمال شرق سوريا، وهو ما أكده مجدداً تصريح لاحق لترامب، شرح فيه قصده من الحدود التي لا يبغي لتركيا تجاوزها، عندما قال مجدداً إنه سيمحو الاقتصاد التركي إذا تعاملت أنقرة بطريقة غير إنسانية مع الأكراد، وهو ما يفهم منه أن الضوء الأخضر قد تحوّلَ إلى اللون البرتقالي الآن.

تصريحات البنتاغون خلال بيان للناطق الرسمي جاءت أيضاً لتقلّل من أهمية عملية سحب الجنود الأميركيين، إذ قال جوناثان هوفمان الناطق باسم البنتاغون للصحفيين إن «الجنود الذين تم سحبهم من الحدود مع تركيا هم أقل من عدد الموجودين في هذه الغرفة (غرفة الإيجاز الصحفي)»، وبأن الولايات المتحدة «ستستمر بالسيطرة على المجال الجوي للمنطقة»، وهو ما يعني عملياً منع الطيران التركي من تغطية القوات المتقدمة.

هكذا راحت تتراجع أجواء صباح أمس المشجعة على عملية عسكرية تركية شمال شرق سوريا، كما أن التهديدات التي وجهها سياسيون أميركيون لتركيا بفرض عقوبات عليها، قد تعني عملياً انهاء التحالف طويل الأمد بين أنقرة وواشنطن إذا ما بدأت أنقرة عمليات عسكرية واسعة النطاق فعلاً.

على الرغم من تغريدة ترامب التي أعقبت بيان البيت الأبيض، والتي تحدث فيها عن انسحاب أميركي كامل من سوريا، إلا أن التصريحات والتطورات اللاحقة، بالإضافة إلى المعلومات التي نشرها موقع المدن يوم أمس حول أن القوات الأميركية المنسحبة توجهت إلى موقع الفرقة 17 شمال مدينة الرقة وليس إلى خارج سوريا، تعطي انطباعاً بأن المجال المسموح به للقوات التركية صغير للغاية، ما يرجّح الآن بأن أي عملية عسكرية إن حصلت ستشمل على الأغلب تل أبيض ومحيطها فقط، وهي عملية قد ترضي الرئيس التركي الذي أعلن قبل يومين عن احتمال بدء العمليات العسكرية في أي لحظة، ويمكن لواشنطن التغاضي عنها في الوقت نفسه.

أربع وعشرون ساعة من التحولات والبيانات والتصريحات المتتالية والمتضاربة، تصلح تكثيفاً لمجمل السياسات الدولية العقيمة والمرتبكة حيال المسألة السورية.