أعلنت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، يوم الثلاثاء الفائت، عن بدء إجراءات تحقيق نيابي بهدف عزل الرئيس الأميركي دونالد ترامب من منصبه، بتهم تتعلق بمحاولة التأثير في الانتخابات الرئاسية عبر الضغط على رئيس دولة أجنبية. وعلى الرغم من جدية هذه الاتهامات، التي قد تؤثر جداً على وضع ترامب السياسي وحتى القانوني، إلا أنها ستفشل على الأرجح في عزل ترامب من منصبه.

منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض بعد فوزه بفارق بسيط عن منافسته في الانتخابات هيلاري كلينتون، لم تتوقف الأصوات الداعية لعزله بين النواب الديموقراطيين، وذلك وسط استقطاب حاد بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وقد دفعت توجهات ترامب الشعبوية واليمينية النوابَ الديموقراطيين، وحتى جزءاً من النواب الجمهوريين، إلى انتقاده مراراً منذ وصوله إلى سدة الرئاسة، حتى أن الاتهامات الأخيرة لم تكن أول الاتهامات الخطيرة التي يتم توجيهها إلى إدارته.

ويوجّه النواب الديمقراطيون لترامب تهمة الضغط على الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي خلال اتصال هاتفي جرى في شهر تموز (يوليو) الماضي، بهدف دفعه إلى فتح تحقيق في نشاطات ابن جوزيف بايدن في أوكرانيا عندما كان الأخير نائباً للرئيس باراك أوباما. وقد أثار نص المكالمة الهاتفية تلك، التي نشرها البيت الأبيض لاحقاً، كثيراً من الجدل حول محاولة ترامب التأثير في الانتخابات الرئاسية التي من المفترض أن تجري العام القادم، من خلال تشويه سمعة أحد أبرز مرشحي الحزب الديموقراطي للمنصب الرئاسي.

تقول الفقرة الرابعة من المادة الثانية في الدستور الأميركي: «يُعزَل الرئيس ونائب الرئيس وجميع موظفي الولايات المتحدة الرسميين المدنيين من مناصبهم إذا وُجِّهَ لهم اتهام نيابي بالخيانة أو الرشوة أو أية جرائم أو جنح خطيرة أخرى»، ويعتمد الديمقراطيون على التوصيف الأخير من هذه المادة في التحقيقات التي ستجريها عدة لجان نيابية، من بينها اللجنة القضائية ولجنة الاستخبارات. وقد صرّحَ رئيس اللجنة القضائية أنهم سيعملون على الانتهاء من إجراءات التحقيق قبل نهاية العام الجاري.

ويملك النواب الديمقراطيون الأغلبية في الكونغرس (غرفة مجلس النواب)، ولكن إقرار تلك الاتهامات من قبل هذا المجلس لا يعني عزل الرئيس الأميركي تلقائياً، بل ستتم إحالة القضية إلى مجلس الشيوخ الذي يحظى فيه الجمهوريون بأغلبية المقاعد، والذي ستكون له وحده صلاحية محاكمة الرئيس وعزله من منصبه. ويجب أن يوافق ثلثا أعضاء مجلس الشيوخ على القرارات الاتهامية لتصبح نافذة، وهو أمرٌ مستبعدٌ حتى لو لم تكن للجمهوريين تلك الأغلبية، إذ لا تحظى إجراءات العزل بأي شعبية في الولايات المتحدة، التي يحافظ دستورها وتقليدها السياسي على كثير من القدسية لمبدأ فصل السلطات، الأمر الذي يضع مثل هذه الإجراءات في خانة محاولة سيطرة السلطة التشريعية (الكونغرس) على السلطة التنفيذية (الرئيس وإدارته). حتى عندما كان الجمهوريون يحظون بأغلبية مجلس الشيوخ في عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، لم تنجح إجراءات العزل في الإطاحة بكلينتون، الذي واجه عام 1998 تهماً تتعلق بالحنث باليمين وإعاقة العدالة في قضية العلاقة التي أقامها مع المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي.

على الرغم من أن احتمالات فشل هذا الإجراء هي الأكبر، إلا أن تحرك رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، وإعلانها فتح التحقيق لبدء إجراءات عزل ترامب، قد يكون بداية لحملة أوسع على إدارة ترامب المثقلة بالمشاكل، خاصةً وأن بيلوسي نفسها عارضت لفترة طويلة اتخاذ مثل هذا الإجراء عندما دعا نواب في الحزب الديموقراطي إلى محاكمة الرئيس بعدة تهم من بينها إعاقة مسار التحقيق في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة. تعني موافقة بيلوسي الكثير في هذه المرة، إذ ربما تمتلك هذه الإجراءات فرصةً بالفعل بعيداً عن حسابات أحجام الكتل النيابية، أو ربما تكون قد جاءت في سياق محاولة لإظهار قوة الديمقراطيين أمام إدارة الرئيس الأميركي، في محاولة لشدّ عصب ناخبي الحزب الديمقراطي قبيل الانتخابات الرئاسية القادمة.

تُظهر الفضائح التي تلاحق ترامب مدى ضعف إدارته واعتمادها على مزاج الرئيس، الذي يحاول دوماً الظهور بمظهر السياسي القادم من خارج أوساط النخب السياسية التقليدية التي أصبحت موضع اتهام من الشارع الأميركي، إلا أنه بخطواته الشعبوية تلك أدى إلى الإضرار بمصالح وسياسات واشنطن الخارجية، فلم يمضِ وقت طويل بعد على التسريبات التي قالت إن وكالة الاستخبارات المركزية قامت بسحب جاسوس في موقع حساس وعالي المستوى من موسكو، خشية افتضاح أمره على يد ترامب بلا قصد خلال أحاديثه مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين.

كما أن التعقيدات المتصلة بقضية عزل الرئيس تُظهِرُ مدى ضعف الجهاز الإداري في البيت الأبيض وارتباكه، حتى أن أحد الموظفين قد أرسل بالخطأ قبل أيام قليلة رسالة إلى النواب الديموقراطيين، كان يفترض توجيهها إلى النواب الجمهوريين فقط، وتتضمن نقاطاً مقترحة للرد على التهم الموجهة للرئيس. وقد سارع الديمقراطيون إلى نشر تلك الرسالة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ساخرين من إدارة ترامب التي فضحت استراتيجيتها في مسألة غاية في الخطورة.

يواجه ترامب اليوم إجراءات فعلية لعزله، بعد أن كانت الدعوات السابقة للسير في إجراءات العزل قد اقتصرت على الأصوات الأكثر يسارية في الحزب الديمقراطي، ولكن حتى إذا كانت هذه الإجراءات لن تفضي إلى العزل فعلاً، إلا أنها تبدو جزءاً من استراتيجية متكاملة لدى الديموقراطيين لمنع دونالد ترامب من الفوز بفترة رئاسية ثانية في الانتخابات التي ستجري خريف العام المقبل 2020.