الإرهاب كشرٍّ سياسي

كان القرن العشرين قرن الاستعمار والإمبريالية، وحروب القوى الأوروبية التي كان مسرحها «العالم»، والمعمّدة باسم حروب عالمية؛ كان كذلك قرن النازية والفاشية وإبادات غير مسبوقة، كان اليهود من ضحايا أكبرها؛ وهو بعدُ قرن الاشتراكية وحركات التحرر الوطني ونزع الاستعمار؛ وفي عمومه كان عصر تنازع سياسي وإيديولوجي بالغ الحدة، قبل أن ينتهي بانتصار عالمي لشيء أقدم: الرأسمالية، نبتت عليه وردَّت عليه معظم التشكلات التاريخية المذكورة. وخلال هذا «القرن العشرين القصير» الذي ابتدأ بالحرب العالمية الأولى وانتهى بنهاية الحرب الباردة بحسب إريك هوبزباوم، تنوعت صور الشرّ السياسي وتشخيصاته بتنوع مواقع الفاعلين في صراعاته. كان الاستعمار هو الشر السياسي عند الوطنيين في البلدان المستعمرة، والإمبريالية عند أطياف قومية واشتراكية في القارات الثلاث، والرأسمالية عند الشيوعيين، والاشتراكية والشيوعية عند الأميركيين، و«الشمولية» عند الليبراليين، والطغيان أو الدكتاتورية عند الديمقراطيين في بلداننا. وبصورة ما لا تزال هذه التشخيصات قائمة، لكنها تبدو مجردة اليوم، فاقد للقدرة التعبوية، كما للترجمة إلى برامج عمل.    

بالمقابل، منذ نهاية الحرب الباردة بانتصار الرأسمالية والليبرالية، حلّ الإرهاب كتشخيص للشر السياسي الأساسي في العالم، إن لم يكن الوحيد. من يُشخِّص الشر؟ من هم أطباء العالم وحكماؤه؟ المنتصرون في المؤسسة الغربية، ووسائل ووكالات الإعلام المركزية الكثيفة التمويل. وكلاهما على ارتباط وثيق بالشركات الرأسمالية الكبرى في زمن ما بعد الصناعة. 

ولا تكاد تقاوم هذا التحديد قوى منظمة، بل سارت الأمور في اتجاه ما يقارب تبنيه الشامل. 

وبينما لا يرتد الإرهاب إلى «الشرق أوسطي» أو «الإسلامي» منه، إلا أنه يغلب أن يكون الحال كذلك إلى درجة تجعل هذا التحفظ نافلاً أو غير ذي موضوع عملياً. دول ما بعد الاستعمار ذاتها، وفي المجال الشرق أوسطي والإسلامي بخاصة، أقرب إلى الإجماع على أن الإرهاب (الإسلامي ضمناً) هو العدو، وبخاصة بعد «الربيع العربي». بعضها مقاتلة مثل دولة الأسديين في سورية ونظام السيسي في مصر، لكن ليس بينها ما تعترض على التشخيص، دع عنك أن تعمل على تطوير تصور مغاير. غاية ما قد يُسمع من غمغمات متحفظة هنا يتصل بنفي المطابقة بين الإسلام والإرهاب. ما بقي من منظمات شيوعية واشتراكية لدينا فقدت تصورها القوي القديم للشرّ السياسي، الرأسمالية والامبريالية، وهي إن لم تتبن رواية الإرهاب الإسلامي (أو السلفي أو الوهابي، أو التكفيري، وهي أسماء مختلفة للمسمى نفسه) كتحديد للشر، فإن تفاقم المنزع الدولاني في تكوينها يُقرِّبها بنيوياً من هذ الرواية. بل هي في الواقع أقرب إلى الترويج لهذا التشخيص بحكم كون محاربة الإرهاب عنصر في سلة تحتشد فيها «العلمانية» مع «نمط حياة عصري» ومع «الدولة»، سلة آلت يسارية شائخة المخيلة والحساسية إلى أن تتقاعد فيها. المجموعات والتيارات الديمقراطية الليبرالية تبدو مشتتة القوى والأفكار، بعد هزيمة الثورات العربية، وظهور الإسلامية في أشكال تتراوح بين التمركز الاستبعادي حول الذات وبين الفاشية المعتدية الصريحة، على نحو يتحدى التصور الاستيعابي للدولة والسياسة الذي دافع عنه الديمقراطيون (ومنهم كاتب هذه السطور). كان «الاستبداد» الدولتي هنا هو المشكلة أو الشر الأساسي، وهو قول يقع تحت ضغط شديد اليوم، وليس لدينا بعد قول مركب يستوعب الوقائع الجديدة، ويرد على ضغطها بمرونة. 

القوى المركزية في «الشمال الكوكبي» وفي إسرائيل، والدول الغنية الأخرى، ترى في الإرهاب الشكل الأبرز الذي لا يقارن بغيره للشر السياسي، وهي أقدر من غيرها على تعميم تصورها عالمياً. تتلقى في ذلك دعماً من فلسفة الخبر الحديثة. فوفقاً لقاعدة محترمة، إذا عض كلبٌ رجلاً، فهذا ليس خبراً، لكن إذا عض رجلٌ كلباً فهذا هو الخبر الجدير بأن يُسلّط عليه الضوء. وإذا قتلت دولة محكوميها فهذا من طبائع الأمور، أما إذا جنح قطاع من المحكومين إلى اقتباس القتل فهذا خروج على الطبائع، وخبر يروى. الدول تقتل، هذه طبيعتها، وهو ما يسمى «عنفاً مشروعاً». أما المحكومون فلا يقتلون، فإن فعلوا فهذا إرهاب، عنف غير شرعي

وكانت نظرية «صراع الحضارات» التي برزت بعيد نهاية الحرب الباردة كأساس محتمل لنظام دولي جديد تضع «الحضارة الإسلامية»، المردودة إلى دين الإسلام، بين أبرز أعداء الغرب. وهذا في الوقت الذي صار العنف الممارس في داخل مجتمعات المسلمين ضد الطغم الحاكمة أو ضد قوى ومصالح غربية عنفاً إسلامياً بصورة شبه حصرية منذ وقت مبكر من ثمانينات القرن العشرين. مر ذلك بهزائم متكررة ألحقتها إسرائيل وحليفها الأميركي بأي مقاومات قومية ويسارية عربية، كانت أخرها هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت 1982، ثم تلزيم نظام حافظ الأسد «العلماني» مقاومة إسرائيل لحزب الله الشيعي ضد أول المقاومين من اليساريين اللبنانيين.   

توقُّع الإرهاب وتحقيقه 

الواقع أنه بدا لبعض الوقت بعد نهاية الحرب الباردة أن الدكتاتوريات شرٌّ سياسي، وأن الخير السياسي العالمي هو الديمقراطية. لكن خلال عشر سنوات كان الإرهاب يصعد كتشخيص للشر، والدكتاتورية تهبط. وقت احتلال الأميركيين للعراق في ربيع 2003، لم تجد إدارة بوش الكلام على نظام دكتاتوري يفتك بشعبه تعذيباً وقتلاً، بل اختلقت علاقة لهذا النظام بالقاعدة التي كانت قبل عام ونصف أنتجت تحفتها الإرهابية في نيويورك. بصورة ما نحن هنا حيال «نبوءة ذاتية التحقق» كما يقال في الانكليزية. تتكلم على الإرهاب، وتريد أن تنتظم السياسة الدولية حول مواجهته، وتضغط على الدول من أجل ذلك، وهذا لأنك بحاجة إلى عدو، فلا يلبث هذا العدو أن يحضر. أخفق الأميركيون في العراق، وعملياً جرى تسليمه لإيران، وانقلب البلد الذي عانى من حصارٍ لـ 12 عاماً، ثم من حرب دمرت بنيته التحتية، ثم حل دولته وبعثرة كل ما هو منظم فيه، إلى بيئة مناسبة للقاعدة وأمثالها. ومن هذا الضرب من نبوءة ذاتية التحقق تعلم النظام الأسدي الذي سيكون بعد الأميركيين بأقل من عقد نبيَ نفسه. 

وبقدر ما أخذت تتمركز خبرة الأميركيين العراقية حول محاربة الإرهاب، فقد أخذ يبدو حلُّ الدولة العراقية، بما في ذلك الجيش، خطأ فادحاً. بالعكس، أخذت الدولة، وبخاصة الجيش والأجهزة الأمنية، تبدو هي الترياق ضد الإرهاب. ما كان عدواً للديمقراطية في بلداننا، أجهزة التعذيب والقتل، «أجهزة الدولة القمعية» بلغة ألتوسير المجردة، صار هو الحل للمشكلة الإرهابية. وليس إلا من مضمرات هذا التفكير أن يكون مصير الديمقراطية والديمقراطيين في منطقتنا من الأضرار الجانبية للحرب ضد الإرهاب. 

الدولة، وبخاصة ما ستسميه هيلاري كلينتون متكلمةً عن سورية «البنية التحتية الأمنية»، أي أجهزة المخابرات والرعب، ستمسي هي الشريك في مكافحة الإرهاب. ولذلك كانت غاية ما قد يطلب من النظام الأسدي قبل الثورة هو «تغيير سلوكه». وليس الأمر بعيداً عن ذلك اليوم، بعد 102 شهر من الثورة والحرب والإبادة. وإنما بفعل الدرس العراقي المطبق بصورة عمياء في السياق السوري لم يجر الكلام على الديمقراطية وعلى تغيير ديمقراطي في سورية من قبل القوى الغربية، هذا على الرغم من أننا هنا حيال ثورة شعبية فعلاً، صعدت من القاع فعلاً، ضد نظام بالغ الوحشية، أظهر طاقات إبادية حرة في سياق الصراع.  

وجد الحكم الأسدي في سردية الحرب على الإرهاب ما يناسبه كثيراً. في صيف عام 2012 حلت قوانين مكافحة الإرهاب محل حالة الطوارئ التي كانت سارية المفعول طوال نحو 50 عاماً وقتها بذريعة كون سورية في حالة حرب مع إسرائيل. صدرت ثلاثة قوانين لمكافحة الإرهاب في الأسبوع الأول من تموز 2012 في سياق الحرب ضد الثورة، وبذلك أعد الحكم الأسدي نفسه ليكون شريكاً قانونياً وفعلياً في الحرب العالمية ضد الإرهاب، الحرب الشرعية تعريفاً بحكم احتكار المحاربين تعريف ما هو شرعي وما هو غير شرعي عالمياً. وقتل باسم هذه القوانين الإرهابية فعلاً كثيراً من الثائرين السوريين، ويحكم باسمها ويُلاحق كثيرون، نساء ورجال. هذه الحرب هي سردية كبرى لحكم السيسي في مصر كذلك، الذي جاء في انقلاب عسكري على حكم الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي. 

قبل الثورة السورية بسنوات كان استقرار القوى القائدة في النظام الدولي على الإرهاب عدواً، وعلى الحرب ضد الإرهاب سياسة، وعلى الدولة حلاً، مناسباً جداً لروسيا، التي احتاج بوتين إلى الشيشان المدمرة كي يصير بطل بعث روسيا قوية من جديد. وهو مناسب للصين ضد أي نزعات انفصالية من قبل المسلمين. وهو مناسب جداً اليوم كذلك لحكم اليمين الهندوسي في الهند في عهد رئيس الوزراء نارندرا مودي. وبالطبع لإسرائيل، «دولة الشعب اليهودي»، التي يشاركها الأميركيون الحكم بأن كل مقاومة لها هي إرهاب. ولا تتحفظ على ذلك دول أوروبا الغنية والفاقدة للوجهة السياسية. بعد 11 أيلول وتفجيرات مدريد ولندن صار الإرهاب هو المشكلة هنا أيضاً، مع بطانة متزايدة السماكة من الإسلاموفوبيا، ومع قلق متصاعد من المسلمين المحليين.  

المنعطف الجينوقراطي

بنظرة راجعة، أعتقد أنه يمكن أن نتبين ارتسام نموذج سياسي جديد على المستوى العالمي، أسميه الجينوقراطية، حكم الجينوس السائد أو الأكثري. الجينوس كلمة يونانية الأصل تعني العرق أو السلالة أو الجنس، والأرجح أن كلمة جنس العربية تمتُّ لها بصلة نسب. لكني أستخدم الكلمة للدلالة على الأكثرية الثقافية، وليس العرقية في المجتمعات المعاصرة، وهذا بالتوزاي مع الصعود السياسي للثقافي أو «الحضاري» ولسياسات الهوية، كما لتحوُّلِ العنصرية من نِصاب العرق والعنصر إلى نِصاب «الثقافة» والدين. نشهد اليوم ما يمكن تسميته منعطفاً جينوقراطياً، نرى دلائل أوروبية له في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بركزيت)، وفي حكومات كل من هنغاريا وبولونيا حيث الإسلاموفوبيا عالية النبرة رغم عدم وجود مسلمين تقريباً في البلدين، وفي صعود اليمين الشعبوي في أوروبا الغربية، الذي يُعلي من جذور أوروبا البيضاء والمسيحية على حساب تكوينها الحالي المختلط والملون والكوسموبوليتي، وبقوة لافتة في الهند اليوم، فضلاً عن أمثلة أقدم مثل إسرائيل وإيران، وفضلاً عن دولة الأسديين في سورية التي قد يمكن وصفها بأنها جينوقراطية مقلوبة. الجينوقراطية هي، فضلاً عن ذلك، سياسة الإسلاميين الطبيعية، يتطلعون إلى حكم إسلامي، حكمهم هم، بالنظر إلى «الطبيعة» الإسلامية لمجتمعاتنا. على أنَّ أبرز مؤشرات المنعطف الجينوقراطي هي الولايات المتحدة بعد ترمب. من المهم تذكر أن مؤلف صراع الحضارات، صموئيل هنتنغتون الذي وُصِفَ بعد موته بأنه نبيٌ لعصر ترمب، هو مؤلف كتاب آخر عن الهوية الأميركية، اسمه: من نكون؟ يشخّص فيه الهسبان واللغة الإسبانية كخطر داخلي أول على الهوية الأميركية. جدار ترمب الفاصل عن المكسيك موجه ضد هذا الخطر. 

وخلافاً للأكثرية الديمقراطية المتغيرة فإن الأكثرية الجينوقراطية ثابتة، ما يجعل الجينوقراطية أشبه بتحول طائفي للدول في زمن العولمة والهجرة واللجوء، أو بحثاً عن أرض ثابتة في زمن متلاطم التحولات. ويبدو المنعطف الجينوقراطي موجهاً في الغرب ضد التعددية الجديدة، المتمثلة في المهاجرين واللاجئين والملونين والمسلمين. التعددية القديمة، أعني استيعاب الطبقة العاملة والنساء والشيوعيين في الدولة الأمة الديمقراطية، لم تعد ديمقراطية وتقدمية بحال. ولعل الانكفاء الجينوقراطي في الغرب متولد عن الفشل في مواجهة التناقض بين التكوين الفعلي للأمة اليوم، وهو تكّون معولم بقدر لا بأس به، وبين تعريف الأمة المخزون في اسمها وفي لغتها. سياسات الاندماج ترمز إلى هذا الفشل، وتقترح حلاً فاشلاً له.  

وبينما يمهد تشخيص الإرهاب كشر سياسي أساسي لعنف إبادي من قبل الدولة، منظوراً إليه (العنف) كاختصاص سيادي، فإن المنعطف الجينوقرطي ييسر اتخاذ العنف شكلاً إبادياً (جينوسايدياً)، يستهدف الجماعات التي تعتبر غريبة عن التصور «الجنسي» (الجينوسي) للأمة، المسلمين بصورة خاصة في هذه الحقبة. ويبدو لي أننا بحاجة لهذا المفهوم لإعطاء وزن لتحولات اجتماعية وسياسية ونفسية—عالمية جارية، لا يزال يطبع تعامل أكثرنا معها النظر كشيء عارض، كشذوذ نستخفّ به، ونتصور أنه لا يلبث أن يزول. لا يبدو الأمر كذلك. نبدو حيال تحولات غير عارضة، متصلة بالعولمة وبالهجرة واللجوء والتحولات المناخية وبمفهوم الدولة السيدة التي تملك الحق في قتل محكوميها. ما ينبغي الاستخفاف به هو استخفافنا ورفضنا للتفكير في جديد مبهم يشق دربه بصمت.    

بعد «الربيع العربي» ثم ظهور داعش تحوَّلَ الجميع إلى محاربين نشطين للإرهاب، مع ميل عالمي جارف إلى قصر الإرهاب على الإسلامي منه (وهو ما سيُخرِجُ عملياً تنظيم بي كي كي الكردي التركي من الحرب ضد الإرهاب، وإن مع بقاءه على قوائم محاربي الإرهاب)، وما يقترب من قصر الإرهاب الإسلامي على السني منه. وبهذا التكوين، الحرب ضد الإرهاب مناسبة جداً لإيران، وتجعل حروبها في سورية والعراق واليمن، وسيطرة أتباعها في لبنان غير مرئية أو شرعية تماماً.

والواقع أن الجهادية السنية أظهرت من العنف الأعشى والعدمية ما سهَّلَ تأليب العالم كله ضدها. لكنها من حيث النشوء كما من حيث التكوين الراهن، ومن حيث وعيها الذاتي كما من حيث الصراعات التي تخوضها، جزء من بنية عالمية تزداد الإسلامية ترسّخاً فيها بقدر ما تمعن في العنف ضدها، وتزداد البنية ترسخاً بقدر ما تمعن في حربها ضد العدمية الإسلامية. ليس العالم في تكوينه اليوم، وفي انعطافه الجينوقراطي، هو الحل للمشكلة الإرهابية. بالمقابل يتوزع الإسلاميون إلى جينوقراطيين، باسم أكثرية إسلامية ثابتة وطبيعية، وإلى إباديين أو جينوسايديين هم تيارات السلفية الجهادية التي تتولد من تحطم المجتمعات، وتجد في هذا التحطم بيئة حياة طبيعية لها.

منافع الإرهاب

أولويات الأقوياء هي أقوى الأولويات. وحين يقرر الأميركيون أن الأولوية للحرب ضد الإرهاب، فإن هذه تصير أولوية دولية. ومع هذه الأولوية جرى تحول مهم: أمننة السياسة، أي تركّز السياسة حول العمليات الأمنية ومواجهة مجموعات إرهابية أو خلايا نائمة لها. لسنا هنا حيال حرب بين جيوش وتحالفات دولية، ولا حيال صراعات سياسية قد تكون بالغة الحدة، بل حيال إطلاق يد أجهزة المخابرات في التعامل مع مواطني الدول الأخرى والمهاجرين، وبخاصة القادمين من الشرق الأوسط، على نحو يدرجهم في وضع «الإنسان المباح» (أغامبن)، المحروم من الحقوق، والذي لا يعتبر قتله جريمة. الشرق الأوسط العربي طليعيٌ سلفاً في هذا الشأن، فهو فردوس للإبادة والحرمان من الحقوق، وللجريمة والحصانة؛ إنه مستقبل العالم في زمن الحرب ضد الإرهاب، وهذا بعد أن كان الغرب المتقدم والديمقراطي مستقبل العالم قبل هذا الزمن. المُعتقَل السياسي في العالم اليوم في هذا الزمن إسلامي، ومسلم، بعد أن كان الشيوعي المناضل ضد الإمبريالية ومن أجل التحرر والاشتراكية في زمن سبق.     

ولا ترتد أولوية الإرهاب إلى كونه خطراً أمنيا فقط، وإنما كذلك إلى ملاءمته في الحفاظ على النظام القائم، بل ورص الصفوف وراء نخبه القائدة في مواجهة خطر شبحي غير واضح المعالم.. الاستنفار في مواجهة تحديات تستهدف بنى السيطرة السياسية والامتيازات الاجتماعية معرضة للمنازعة محلياً وعالمياً يسهم في حجب منابع التمييز واللامساواة في النظام، وتالياً في كبح تناقضاته والحيلولة دون تفجّره. قد تدرك هذه التحديات بوصفها انحدار أميركا التي يجب أن تعود عظيمة، أو منازعة المهاجرين لنا على ثرواتنا ونمط حياتنا. الإرهاب يُشغّل آلة الاستنفار على أكمل وجه لأنه يجمع بين الشبحية والانتشار المحتمل في كل زاوية، وبين كونه خطراً محدوداً في النهاية مقارنة بأي حرب، فضلاً عن أنه بلا بداية ولا نهاية خلافاً لحروب الدول. يتجه النظام على هذا النحو لأن يحتاج إلى الإرهاب ويتعايش معه. وإلى ما يقارب حالة طوارئ عالمية، أو حالة حصار واستثناء عالمية، تضع مجتمعات بأكملها تحت الرقابة والحجر السياسي. 

منافع حالة الاستثناء عالمياً تماثل نظيرتها السورية التي سوَّغَت نفسها طول خمسين عاماً تقريباً بالحرب ضد إسرائيل، قبل أن تعثر على تسويغ بديل، الحرب ضد الإرهاب ذاتها، من أجل استمراريتها. المهم هو منع السياسة، وتحديداً منع إعادة النظر العامة في الترتيبات السياسية الامتيازية التي أثمرت عبر السنين ملكية البلد لحاكميه. الأمر مماثل عالمياً: تعطيل إمكانية إعادة النظر في بنى عالمية تشهد تفاقم اللامساواة وتعاظم امتيازات قِلّات نافذة. حكم الجنس أو الجينوس الأكثري يحجب امتيازات القلة. في سورية احتاج الأمر إلى طلب حماية أجنبية مباشرة لأن الأمر ليس كذلك. يمكن الكلام هنا على جينوقراطية مقلوبة.     

… ومضاره: فضاءات استثناء جديدة

ضحايا أمننة السياسة وحالة الاستثناء العالمية ليسوا الإسلاميين، وليسوا الإرهابيين المحتملين بين الإسلاميين، بل جميع السكان من منطقتنا ممن لا يندرجون في خانة تنال استثناءاً إيجابياً على أسس جينوقراطية. ومعاملة الجميع كما لو أنهم مشتبه بهم هو في واقع الأمر خدمة للإرهابيين الفعليين، تماماً مثلما أن الإرهاب ذاته يعاقب البريئين بالضرورة من حيث استهداف المدنيين وزجهم في حروبه التي لا تنتهي، ولا يعاقب المجرمين الرسميين إلا مصادفة وعلى نحو عارض.    

ولا تظهر أمننة السياسة ولا شمول الأذى لسكان المنطقة في موقع بعينه أكثر من قنصليات الدول الغربية، ونوعية المعلومات المطلوبة من طالبي التأشيرة السوريين والشرق أوسطيين مع قوة احتمال الرفض بعد ذلك (أو قبله)، ثم في المطارات التي يتعرض القادم من هناك لأشكال مريرة من التمييز. هذا بعدٌ للنظام الدولي غير مرئي في الغرب، يقسم عالم اليوم إلى حاملي الجوازات المرحب بها، التي تمر عبر كل باب pass par tout، وحاملي الجوازات التي تمر وإن دون ترحيب، ثم عالم ثالث من حاملي جوازات ووثائق لا يُرحَّب بها ولا تمر، إن مرت، دون تدقيق شديد. هناك عالم أول فوق القانون، وعالم ثان خاضع للقانون، وعالم ثالث تحت القانون وبلا حماية قانونية. وهناك فضاءات استثناء لم يرَها أغامبن: المطارات، القنصليات، فضلاً عن منطقة بأسرها: الشرق الأوسط.   

أقل من يتضرر من أولوية الحرب ضد الإرهاب هم الإرهابيون الفعليون. لهؤلاء، تشكل الحرب وانعدام القانون والحقوق شرط وجود وازدهار. أقلَّ حتى من الإرهابيين المحتملين تضرراً من أولية الحرب ضد الإرهاب الأنظمةُ المحاربة التي توفر لها هذا الحرب قضية لا تتوفر من مصدر آخر: قضية الشراكة مع النافذين الدوليين، وبالتالي إثارة إعجاب من يعتقدون أن الأقوياء هم المحقون، وأن القوة هي الحق. أما أول من يتضرر فهم المناضلون من أجل الديمقراطية والعدالة في بلداننا، وقبلهم عموم السكان ممن دفعوا الأثمان الرهيبة لجعل هذه البلدان ساحات لحروب لا بداية لها ولا نهاية، تحتاجها دول يتدهور محتواها الاجتماعي السياسي كي تؤكد دوليتها. وباختصار، يتضرر من أولوية الحرب ضد الإرهاب من يتضررون من الإرهاب ذاته، وينتفع منه الأقوياء الذين تناسبهم الحروب وتغنيهم عن السياسة الصعبة دوماً.  

عالم الحرب ضد الإرهاب

ولا نعلم بعد ذلك غير القليل من تفاصيل التنسيق الأمني بين الدول لمكافحة الإرهاب. فعالم الحرب ضد الإرهاب هو عالم من السرية والعنف والاغتياب. لكن نعلم مثلاً من تسريبات ويكيليكس أن النظام الأسدي كان يخترق المجموعات المشتبه بقيامها بأنشطة إرهابية، ولا يسارع إلى مهاجمة الإرهابيين مثل الأميركيين، على ما تفاخر علي مملوك أمام مسؤول أمني أميركي قبل الثورة السورية. ثمرة ذلك اعتقال المئات، كما قال المسؤول الأمني السوري في شباط 2010، قبل الثورة بعام واحد. والمهم هو أن «الإرهاب الإسلامي» قضية مشتركة أخذت تجمع بين الطرفين قبل الثورة. 

ومن قناة مكافحة الإرهاب تسترجع بعض الدول الأوروبية، مثل إيطاليا، الاتصال بالحكم الأسدي الوالغ في دماء محكوميه. وقد يكون التصريح المشين الذي أدلى به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حزيران 2017، حين قال إن بشار الأسد «عدو الشعب السوري لكنه ليس عدو فرنسا»، قبل أن يزيد أنه لا يرى بديلاً شرعياً عن بشار. أي أنه لا بديل عن عدو الشعب السوري حاكماً شرعياً للشعب السوري. الرئيس الفرنسي أضاف: «كنا ثابتين على موقفنا منذ البداية بتركيز الحرب ضد عدو واحد هو تنظيم الدولة الإسلامية». بعبارة أخرى، الإرهاب هو مشكلتنا، قتل السوريين هو مشكلتهم. عدونا هو داعش، بشار عدو السوريين، وهذا لا يجعله غير شرعي. 

هذا تفكير سطحي، قصير النظر ومثير للاحتقار. السوريون الذين يعتبرون بشار وداعش أعداء لهم يجدون أنفسهم بفضل هذا التفكير في وضع سيء في الديمقراطية الفرنسية وجميع الديمقراطيات الأخرى، التي يضعها تحولها الجينوقراطي في مواقع أقرب إلى بشار من أيٍّ من معارضيه.  

ليس أن الحكومات الغربية تحب بشار الأسد ونظامه. الأرجح أن قادتها يحتقرونه. لكن التعددية التقليدية التي تقوم عليها «الديمقراطيات» (ما تقدمت الإشارة إليه من استيعاب «الآخر» الوطني من طبقة عاملة ونساء وشيوعيين… في وقت سبق)، والتي تفشل نسقياً في استيعاب الآخرين الجدد أو التعددية الجديدة من مهاجرين وملونين ولاجئين ومسلمين، تتعرف في بشار الأسد على شيء يشبهها. جينوقراطية الأسديين المقلوبة المحاربة للإرهاب (السني) هي استمرار للجينوقراطيات الغربية المحاربة للإرهاب (الإسلامي). التعددية الجديدة هي ما يتصل بالمهاجرين واللاجئين، الذين يتجه الإجماع الوطني في بلدان غربية عديدة على استبعادهم. هذا يطلق ديناميكية مضادة للديمقراطية، جينوقراطية، من شأن ترسخها أن ينقلب على الآخر الوطني ذاته بعد حين، وينتج أشكالاً جديدة من حكم النخبة. 

ولعل الإرهابيين الغربيين، من صنف ما رأينا في نيوزلندا أو أميركا أو النرويج، مشبعون بالروح الجينوقراطية التي ربما يأخذون على حكومات الغرب ضعف تمثّلها، والتساهل مع المهاجرين والكوسموبوليتية، على نحو يجعل من هؤلاء الإرهابيين أنبياء الجينوقراطية أو طلائعها المقاتلة. والأكيد في تصوري أن تحولاً جينوقراطياً «شرعياً» يمثل عليه أمثال ترامب، لا يستطيع أن يكبح إرهاباً جينوقراطياً «غير شرعي»، لا يعدو كونه شكلاً آخر للخوف من الاختلاط ورفض التعددية الجديدة.  

ومن المؤسف أن المرء لا يكاد يجد اعتراضاً مسموع الصوت من مثقفي الغرب على هذا التحول. الواقع أن مثابرتهم على الكلام على تقاليد الغرب وتراث الغرب فلسفة الغرب وحضارة الغرب وقيم الغرب… تشير إلى ترسخ في النزعة المحلية أو في التفكير المحلي، بينما تُرِكَ لنا، القادمون من الشرق الأوسط أو من أفريقيا وغيرها، أن نفكر عالمياً. المؤهلون لمعرفة العالم أكثر من غيرهم يفكرون محلياً، والأقل تأهيلاً مدعوون لأن يفكروا عالمياً. بيد أن هذا مؤشر على أزمنة متغيرة: العالم مصلحة لنا، نحن الذين بلا أوطان أو بأوطان مستباحة. ليس مصلحة للراسخين في أوطانهم الراسخة في العالم.       

وبينما يقل «ديموس» أو الشعبي وتزيد السلطة أو «كْراسي» في تكوين «الديمقراطيات» الغربية بفعل أمننة السياسة، فإن دولة هي سلطة محض (cracy) دون شعب (demos) هي شيء مرغوب لهؤلاء الآخرين هناك، من السوريين ومن يشبههم. وما نحصل عليه من شعب أقل وسلطة أكثر هو بالضبط الجينوقراطية التي تطبع الأذهان اليوم وخلال العقود الثلاثة الأخيرة دون أن تكون موعاة أو محللة. لعشر مرات على الأقل سمعتُ تعليقات من أوروبيين وأميركيين عن أن بشار درس في بريطانيا، وكان يُفترض أن يكون إصلاحيا بالتالي، فكيف انقلب إلى الوحش الذي صاره؟ هذا بكل بساطة مديحٌ صفيقٌ للنفس، مع نرجسية وتعصّب.

الواقع أن التوحش الإبادي لبشار ونظامه يدين بالكثير من حيث إمكانيته طوال ثماني سنوات ونصف إلى أن ممارسته للإبادة مرغوبة في غرب جينوقراطي، وإن تكن هذه رغبة مكبوتة، وغير مُعترَف بها.  

أمننة السياسة

النقطة المهمة التي أريد الوصول إليها هي أن في اعتبار أن الإرهاب هو الشر السياسي الأساسي، وأن الدولة هي الخير السياسي، ما يجعل كل عنف تمارسه الدولة غير مرئي، ولو وصل إلى درجة الإبادة، وهو وصل إليها وتعداها في سورية. وأعلى فضائل الدولة هي «السيادة»، التي تعني الحق في الحرب الداخلية (وليس بحال الحرب ضد عدو خارجي)، أي عملياً الحق في إبادة أعداء الداخل الذين يشكل الإرهاب تعريفهم الحصري، دون تدخل خارجي. بالعكس، النظام مصمم لتعزيز السيادة الإبادية للدول، والتدخل ليس خطراً ولا احتمالاً وارداً أصلاً (أكد ذلك مراراً وتكراراً مسؤولون أطلسيون منذ 2011). هذا باب للفاشية يبدو أنها تلجه بثقة ودون تردد في مصر مثلاً، التي يستطيع رئيسها أن يخاطب رئيس المجلس الأوروبي في شباط 2019 بأن على الأوروبيين ألا يتدخلوا في شؤوننا، فلنا إنسانيتنا وأخلاقيتنا وقيمنا الخاصة ولكم إنسانيتكم وأخلاقيتكم وقيمكم الخاصة، وهذا بعد أربعة أيام من إعدام نظامه تسعة شبان مصريين، تطبيقاً فيما يبدو لإنسانيتنا وقيمنا وأخلاقيتنا الخاصة. 

الإبادة والفاشية ليست تالياً وقائعَ عارضة تحدث بعيداً هناك في الشرق الأوسط، كما قد يفضل التفكير فيها ثقافويون وليبراليون، إنها نتاج بنيوي لنظام دولي جعل من الحرب ضد الإرهاب سرديته الكبرى، ومن الدولة ترياقه. ما يعني أن هناك شراً سياسياً كبيراً في التشخيص الغربي والدولي للإرهاب كشر سياسي أساسي. إدارة أوباما عاملت داعش عملياً كشر أكبر وعملت على تجنيد سوريين لمحاربته بشرط ألا يحاربوا من قتل 90% من ضحاياهم. هذا المثال يكثّفُ حقيقة أن الإرهاب هو الشر و«الدولة» هي الترياق، ولو كانت مخصخصة وإبادية. عبر ذلك تنكر إدارة أوباما عملياً الأهلية الأخلاقية ethical agency والسياسية للسوريين، وتحديدهم من العدو ومن الشر الأكبر في بلدهم. هذا مسلك مُعادٍ للديمقراطية جوهرياً. بل هو في واقع الأمر استمرار للإباحة الأسدية بطريقة أخرى. 

والأصل في ذلك هو مقاومة المساواة، المرتبطة على نحو وثيق ببنى السيطرة والقوة الدولية، والتي تبدو العاطفة السياسية الأقوى في الحقبة الجينوقراطية. من يقررون اليوم ما هو شر وما ليس كذلك ليسوا من قد يعانون من الشر، بل هم أقوياء نافذون، يرجح لهم أن يمارسوا كثيراً من الشر، مثل الأميركيين والإسرائيليين، ومثل الروس والإيرانيين والأسديين. هذا يشبه أن تعطي الحق في تقرير ما إذا كان التعذيب خيراً أم شراً بيد أجهزة المخابرات الأسدية، وما إذا كان التحرش الجنسي شراً بيد المتحرشين من الرجال. ضد ذلك، ينبغي أن يكون الحق في تقرير الشر بيد المُعرَّضَين له، عموم السوريين والفلسطينيين والمصريين وغيرهم، والنساء. هذا لا يخرج الإرهاب من الشر بحال، لكنه يدرج الصراع ضده ومقاومته في الدفاع عن العدالة لمن نالهم الإرهاب، وفي رفض إفلات المجرمين من العقاب. ذو دلالة في هذا الشأن أنه لم تُسمَع كلمة واحدة من مسؤول غربي أو أممي عن محكمة خاصة للدواعش أو عن تحقيق العدالة لضحايا إرهاب داعش في سورية والعراق والعالم. الكلام على العدالة لضحايا داعش سوف يثير حتماً تساؤلات عن العدالة لضحايا بشار وضحايا بوتين وضحايا نظام الملالي وغيرهم. 

الدول الرهيبة

هل يمكن أن نسمى هذه دولاً إرهابية؟ أو نتكلم على إرهاب الدولة؟ المشكلة في ذلك أنه يمكن أن يحجب واقعاً مترسخاً اليوم، يتمثل في أن الدول كلها تجنح لأن تكون إرهابية، تفتح أبواب استثناء سيادية لمواجهة الهجرة مثلاً، أو الثورة الشعبية مثلاً.

بمحصلة تشخيص الإرهاب كشر سياسي أساسي خلال نحو ثلاثة عقود اتجهت الحدود بين الدول والإرهاب إلى الامحاء، لا إلى ارتسام أقوى. ليست كل الدول مضادة أو سواء في ممارسة العنف خارج القانون، صحيح. لكن الدول التي تمارس عنفاً غير «شرعي» أقل تجد في الدول التي تمارس عنفاً غير شرعي أكثر مساحات أو «مناطق آمنة» مكملة في إطار نظام الاستثاء العالمي، الموحد بقدر طيب في مواجهة الإرهاب. السياق الذي صارت أميركا تحيل إليه مشتبهاً بهم إسلاميين إلى دول تعذيب مثل سورية ومصر… هو ذاته السياق الي احتاجت فيه إلى فضاء استثناء داخلي- خارجي مثل غوانتانامو، واستباحت فيه العراقيين في سجن أبو غريب، وهو ذاته السياق الذي جرى التساهل ضمنه مع تعذيب مشتبه بهم فيما يسمى تقنيات التحقيق المعزز enhanced interrogation techniques. إنه سياق ممارسة العنف خارج القانون من قبل الدول، وهو يضفي شرعية كاملة على الإرهاب الذي لا ينضبط بقانون. وليس منعزلاً عن ذلك أشكال العنف غير العاقل التي صرنا نراها في فرنسا ضد محتجي السترات الصفراء، ونراها وكنا نراها في أميركا ضد السود، ونراها دوماً في إسرائيل ضد الفلسطينيين، عنف لا يمنعها من عضوية نادي «الدول الديمقراطية». 

لم يعد الإرهاب شيئاً خارج الدولة أو نقيض الدولة، بل ممارسة دولانية، لا تنضبط بقواعد مؤطرة تقبل التوقع، يكفلها مبدأ السيادة. عبر السيادة والاستثناء يتجه الإرهاب لأن يكون بنية دولتية مترسخة، نشاطاً طبيعياً من أنشطة الدولة. لا يتقلص الأمر إلى ممارسات «وحشية» تستهدف المدنيين، بل يتعداه إلى اقتضاء الدول للإرهاب، تأصّله في بنية الدولة. يمكن التكلم هنا على دول مضادة، تقتل محكوميها المتمردين من أجل الحصول على مجتمع متجانس وصحي مثلما تكلم بشار الأسد قبل ثلاث سنوات. الجنس (أو الجينوس) الجامع هنا سياسي: جنس المطيعين. 

وبالمقابل لم تعد الدولة خارج الإرهاب أو نقيضه. صارت المنظمات الإرهابية تريد أن تصير دولاً، على نحو لا يتجسد في داعش والقاعدة وحدهما. حزب الله وحزب الاتحاد الديمقراطي التابع لحزب العمال الكردستاني مثالان قريبان. ما يحجبها عن الأنظار هو التكوين المحاسيبي والزبائني للتفكير الجينوقراطي. 

ويدفع الاتجاه نحو إمحاء الحدود بين الدولة والإرهاب إلى التساؤل عما إذا لم نكن إزاء تحلل نظام الدولة أو النظام العالمي القائم على الدول. يدفع إلى التساؤل أيضاً عما يكون الخير السياسي حين تشخص الدولة الإرهاب شراً سياسياً أساسياً قبل أن تطور لنفسها خصائص إرهابية. نجدنا مَسوقين إلى اعتبار هذه الدول هي الشر السياسي الأساسي، وهذا لكونها إرهابية، ثم احتكارها تعريف الإرهاب وتشخيص الشر.  

التبعية والامبريالية السياسية 

أختم بنقطة أولى تبدو أساسية في زمن الإرهاب والإبادة وأمننة السياسة: الدولة اليوم هي قاعدة التبعية، والتبعية اليوم سياسية وليست اقتصادية، خلافاً لما كان الحال لنحو جيل في زمن ما بعد الاستعمار. من لديه دولة يكسب، بل ويحظى بالشرعية، على ما بدا من ماكرون. الدولة تبدو شرعية تعريفاً، مع قيامها أكثر وأكثر على الاستثناء، بل إن شرعية الدولة وسيادتها تبدوان اليوم شيئاً واحداً. وهذا تأسيس قوي للفاشية، بالنظر إلى أنه يعني إقامة الشرعية على الاستثناء، هذا إن أخذنا بتعريف كارل شميت للسيادة (التقرير في شأن الاستثناء). غير الدولة بالمقابل غير شرعي تعريفاً. وفي هذا ما يقوّي من هم أقوياء سلفاً من دول وتحالفات دولية، ومن دول إبادة ومن نظام دولي تمييزي وغير عادل، ويضعف من هم ضعفاء سلفاً من مقاومات وقوى اعتراض على الدول الرهيبة. وفي هذا النظام يجد بشار الأسد نفسه طبيعياً، ولا تنزع عنه الطبيعية دون نزع سردية الإرهاب كشر سياسي أساسي. الواقع أنه طليعي اليوم في الحرب ضد الإرهاب، على نحو يجعله طبيعياً أكثر من غيره وأجدر بالمكافأة بالأحرى، لا بالمقاطعة. 

ولا يتعارض نظام الإمبريالية السياسية والتبعية السياسية مع سيادة الدولة، بالعكس، يحتاج إلى «الدول السيدة»، كفضاءات استثناء، أشبه بمعسكرات اعتقال أو أراض مباحة. السيادة هنا لا تقتصر على «التقرير في شأن الاستثناء»، بل القيام على الاستثناء الذي يتجسد في دول بأكملها: دول استثنائية. سورية الأسد بالتأكيد واحدة كبيرة منها. وفي علاقتها بالفلسطينيين إسرائيلُ دولة استثناء مستمر. وليس هذا في أي حال استثناء من قاعدة عامة، بل هو قاعدة عالمية، وجه يزاد أساسية لعالم اليوم، وليس شيئاً من خارجه أو استمراراً لماض لم يعرف أن يموت. معنى سورية بشار الأسد في رأيي هو مواجهة الصراعات الاجتماعية الحادة، المرشحة للتكاثر والانتشار، بالإبادة. هذا يدخل في ترسانة الدول المعاصرة كلها ممكناً قمعياً يعززها في مواجهة الاحتجاجات المحتملة. وهو يدخلنا في أزمنة حرجة جديدة تستدعي منا تفكيراً نقدياً جديداً.  

في نظام التبعية السياسية الدولي، أو الإمبريالية السياسية التي تؤمنن السياسة فتربطها بالقوة والدولة، نحن اللاجئون والمنفيون والمهاجرون، المنفصلون عن أي أرض، محالون إلى بروليتاريا سياسية مجردة من «الحق في الحقوق» (حنة آرنت)، أي من بناء جماعة سياسية وتناضل من أجل الحرية. الحق في الحقوق يتجاوز الأهلية السياسية political agency، إلى تشكيل جماعات سياسية، قد تُعرَّف في شروط اليوم بأنها لا تناضل من أجل وطن، بل من أجل تغيير عالم الأوطان. كبروليتاريا سياسية، يحصل أن نُعاد بالقوة كي نُقتل في دولنا كما فعلت الحكومة اللبنانية، وكما تفعل تركيا مؤخراً، وكما تحلم قوى أوروبية كثيرة (لم يُدِن أي منها الإجراءات التركية رغم تحمسها المألوف للتنديد بالحكومة التركية. تعرف أنها ضالعة في الجريمة منذ الاتفاق الأوروبي التركي في شباط 2016). الهجرة تتجه لأن تكون الخطر الأساسي اليوم، بقدر ما إن الإرهاب هو الشر الأساسي. 

ويفسر نظام التبعية السياسية الفشل المتكرر لمبدأ التدخل الإنساني. ليس رغماً عن التبعية والتداخل السياسي العالمي لا يحصل التدخل، بل بالضبط بسببه. هناك حاجة لفضاءات استثناء سيدة، تستطيع الحرب الداخلية ولا تستطيع الحرب الخارجية (أي ضد المحكومين وليس ضد حاكمين آخرين)، فضاءات تقوم بدور معسكرات الاعتقال البعيدة جغرافياً والقريبة بنيوياً (مثلما الولايات المتحدة دولة شرق أوسطية بنيوياً وإن لم تكن كذلك جغرافياً). الواقع أن التدخل في سورية كمثال أساسي كان محققاً دوماً من قبل الأميركيين وغيرهم طوال الوقت، ولكن ليس في حق الدولة الاستثناء، التي تمتلك اختصاصاً سيادياً في قتل محكوميها.     

ليست التبعية السياسية تبعية لمركز. تبدو أقرب إلى التزامٍ بمنطق أمننة السياسة والتسليم بحالة استثناء دائمة، والقبول بتحول الدول السيدة إلى قوى إرهاب بغرض مواجهة الإرهاب، مع مهمة مركزية تتمثل في ضبط تحركات الناس وتوثيق المعلومات عنهم ونزع الخطورة من أجسادهم وتصرفاتهم، منها إلى تبعية نظم سياسية لأميركا مثلاً أو للمراكز الغربية أو للدول الأقوى. التبعية السياسية هي نظام ترابط أمني عالمي، تندرج فيه كل الدول ومن يعمل في خدمة الدول من ميليشيات ومنظمات، ضد مجتمعات مستثناة من الحماية ومن العدالة، وضد «خوارج» النظام وعدمييه. النظام قائم على الاستثناء والمحسوبية، تماماً مثل النظام الأسدي. والمحسوبيات ذات طابع طائفي و«ثقافي»، كما يمكن أن نتوقع من نظام جينوقراطي. 

ومن الظواهر الجديدة لنظام الإمبريالية- التبعية السياسية ظهور إمبرياليات محلية فرعية، تبرز منها اليوم كقلعة من قلاع التوحش دولة الإمارات التي تعمل على صوغ الأنظمة السياسية في بلدان مثل مصر واليمن وليبيا والجزائر، فضلاً عن كونها طليعية في إعادة تأهيل وتطبيع دولة الإبادة الأسدية. ومنها كذلك قطر التي تنافس الإمارات على إفساد النخب والدول. وهذا فضلاً عن السعودية وإيران. وفضلاً عن الإمبريالية مدللة الإمبرياليات كلها: إسرائيل. وتفسر زحمة الإمبرياليات الصاعدة هذه انزلاق المنطقة إلى مسلخ فظيع، يدفع اليمنيون والليبيون، فضلاً عن السوريين، وعن العراقيين، وعن الفلسطينيين قبلهم، الأكلاف الرهيبة للعيش فيه. عالم الإمبريالية السياسية لا مركزي، خلافاً لما يتوقع من طبائع السياسة، ووفاقاً للعب أمثال محمد بن زايد دور الإمبريالي العربي الأول.      

ولأن التبعية السياسية ليست تبعية لمركز، فإن الاستقلال السياسي اليوم ليس كما سبق في مرحلة نزع الاستعمار، فصم روابط التبعية لمركز مسيطر، بل الاتجاه نحو إلغاء حالة الطوارئ العالمية ونزع مركزية أمننة السياسة، ومعها مركزية الدولة التي تجمع بين القومية الجنسية (ضد الغرباء والدخلاء) والسيادة (الاستثناء والإرهاب وعدم التدخل) واحتكار العنف (حق الإبادة). الاستقلال هو تغيير القواعد باتجاهات تضمن حريات أكبر ومساواة أكبر وحقوق أكبر للناس، وعدالة أكبر للجماعات واحترام أكبر بينها، وضبط الاستثناءات في الزمان والمكان.  

ولا يبدو اليسار التقليدي الموروث من القرن العشرين مؤهلاً بحال للنضال ضد عالم يشهد تحولاً جينوقراطياً. منشدّاً إلى القرن العشرين وصراعاته، وإلى مبدأ السيادة الذي لا يزال يُفكَّرُ فيه في تعارض مع التبعية السياسية، دون رؤية تضميناته الإبادية اليوم، ثم قيامه (مبدأ السيادة) جوهرياً على الاستثناء؛ كذلك دون تبين أن السيادة على المحكومين هي بالأحرى الشكل السيد للتبعية وليس للاستقلال اليوم، أقول منشدّاً إلى كل ذلك، هذا اليسار قديم وعقيم. ورجعي.  

في تكوينه، يتجه نظام الإمبريالية السياسية لأن يكون مغلقاً، فلا شكل لمقاومته غير الإرهاب الذي يعززه ويخدم نرجسيته ورفضه لأن يكون له أي بديل. الانفتاح على التعدديات الجديدة والمساواة مرفوض. يموت الإمبريالي ولا يقبل بالمساواة. وهو إلى حين يموت ويميت كثيرين غيره، يمر بطور انحدار جينوقراطي. 

وفي حين أن الإرهاب نخبوي وعدمي، ويناسب نظاماً دولياً نخبوياً لإعادة إنتاج نفسه، فإنه يغدو مُلحّاً أكثر وأكثر نشوء مقاومات تحررية تواجه حكم الإبادة والإرهاب، والعنصرية وحرق الكوكب، والإمبريالية السياسية الجديدة. 

والنقطة الختامية الثانية تتصل بتشخيص الشر الأساسي في عالم اليوم. إنه ببساطة التحول الجينوقراطي الذي يرى في الأقليات، والأقليات المسلمة في زمننا، الخطر الأساسي، ويمهد على هذا النحو للجينوسايد. لا يقتصر الأمر على أن عالماً يشهد تحولاً جينوقراطياً يفصل محاربة الإرهاب عن العدالة للضحايا غير مؤهل لمكافحة فعالة للإرهاب العدمي، بل هو يخفي شره الأساسي وغير المحدود وراء الشر الإرهابي المحدود. 

أمننة السياسة التي تقوم على تشخيص الإرهاب كشر سياسي تضعف المؤسسات الديمقراطية، والمنعطف الجينوقراطي الذي يبقي الأقليات الجديدة خارج الديمقراطية يضعفها بصورة أخرى، ثم تلاقي هاتين الوجهتين، الأمننة والجينوقراطية، في بنية عالمية تقوم على الاستثناء وامتصاص الإرهاب في الدولة، تضعف الديمقراطية أكثر وأكثر. هذا هو الاتجاه العالمي اليوم، ولا يبدو أن هناك قوى منظمة تقاومه.

ما هو الخير السياسي في عالم كهذا؟ ليس غير نضال من أجل عالم أكثر ديمقراطية وتعددية، نتصارع فيه على أشياء غير شرعية التعذيب، غير شرعية القتل الجماعي بسلاح ولا شرعيته بسلاح آخر، وغير أفضليات اعتباطية تؤصل نفسها فيما أعطته الطبيعة أو الماضي من أجناس وألوان وأديان.    

خلاصة

والخلاصة أن تشخيص الإرهاب كشر سياسي يتوافق مع أمننة السياسة وجعل عنف الدولة غير مرئي، ما يمهد الطريق للإبادة. وبقدر ما جرت مطابقة الإرهاب مع الإرهاب الإسلامي فقد توافقَ ذلك مع معاداة دولية للديمقراطية في إقليمنا، ومع صعود الإسلاموفوبيا عالمياً، ومع مقاومة أشكال التعدد الجديدة التي يرتهن مستقبل للديمقراطية باستيعابها، بل مع انعطاف جينوقراطي استبعادي. فإذا كان يبدو أن النخب السياسية في الشمال الكوكبي وفي كل مكان تعرض انحطاطاً متسارعاً في العقدين الأخيرين، فالأمر وثيق الصلة في تصوري بنوعية الأولويات العالمية، وبتقدم الرجعية في العالم بفعل هذه الأولويات الزائفة.   

الإرهاب شرٌّ فعلاً، لكنه أحد وجوه بنية عالمية منتجة لأشكال متنوعة من التمييز واللامساواة والعنصرية. هذه البنية هي الشر السياسي، وما يجعلها أشد شراً بعد هو ادعاؤها الفضيلة بالتجند في تحالف عالمي ضد أمثال داعش والقاعدة. على ظهر قوى عدمية مثل داعش والقاعدة قبلها وبعدها يجري أمام الأعين الغافلة تحولٌ جينوقراطي، ينذر بقتل «الأجناس» المنبوذة، أي بالجينوسايد. وتسمح الشرانية المُسلَّم بها للإرهاب الإسلامي بجعل حتى دول إبادة كالحكم الأسدي، ودول عنصرية مثل إسرائيل، ودول بالغة الرجعية مثل روسيا وإيران، قوى خير. من المناسب هنا أن نتكلم على «تفاهة الخير» أو ابتذاله على هدى حنه آرنت، خيرٌ لا يفكر ولا يتأمل في نفسه ولا يضع أصحابه أنفسهم موضع غيرهم، وأن نتساءل: ترى إن كان هذا هو الخير، فما هو الشيء السيء جداً في الشر؟