ليس هناك مناسبةٌ هذا اليوم للعودة إلى مساكن هنانو في حلب، غير أن شِعراً أعادنا إليها منذ أيام؛ حين يوثّق الشاعر حسن إبراهيم الحسن مدينته تلك في قصيدة، ينقل لنا فيها أوجاع المكان وأطفاله الفقراء الذين تحولت قلاع الطين التي كانوا يبنونها حفاةً إلى قبور لهم، ويؤرخ الوقتَ على وقع القذائف والموت والنزوح، حين يرفع سكانها أصبعاً وسطى في وجه الطائرات ويضحكون حتى السعال.
منذ مدينة هنانو تحوّلَ المكان إلى هامشٍ في نشرة الأخبار وأقواسٍ للتنصّل. اليوم لا هنانو في أي مكان سوى في جلسات حنينٍ لشبان قذفتهم الحياة إلى بوردو في فرنسا، يحاولون عبثاً الخروج من ذاكرتهم القديمة، يتلمّسون أجسادهم الكاملة، ويقنعون أنفسهم بأن هناك أحلاماً مؤجلةً لا بدّ ستأتي عند كلّ سؤالٍ اعتاده الجميع في اللقاءات العابرة: «وين صرت؟».
«الصيرورة» هنا تعني مكاناً آخراً بمعطيات ولغة جديدة، بأحلامٍ ربما أو بدونها، بيأسٍ أو طموحٍ يشكّلان معاً هوية السوري الذي لم ينسلخ بعد عن واقعه القديم؛ ما زال ثائراً نَزِقاً وخائفاً في الوقت عينه، حين تسأله كاذباً أو صادقاً يحكي لك عن هنانو، لعنة البيوت الإسمنتية المتشابهة والشوارع العريضة والحدائق الجديدة بأشجارها القصار، كان يمكن أن تكون مدينةً بحق لولا أنها حظ الفقراء والعمّال؛ مساكن هنانو هي هبةُ «القائد» لعشرة عمّال في كل مبنى للتخلص من عقدة الإيجار، وحسدُ أقرانهم فقط لأنهم يملكون منزلاً باستطاعتهم توريثه لأبنائهم الكُثر.
هنانو لوثةُ السمعةِ السيئة لـ«شلليةٍ» على شكل عصاباتٍ من شبابٍ «سيّء الصيت»، لم أرهم إلّا نادراً وبأعداد قليلة، مقابل آلاف طلاب المدارس ومئات الجامعيين، وهي أيضاً مكان وُسِمَ بـ«البغاء»؛ إذ يقال إنّه وقبل بناء المدينة كانت المنطقة مرتعاً للراغبين بالجنس والمتعة، غير أن سكانها يدركون أنها لم تكن سوى حقول من القمح والبساتين الخضراء؛ الفقراء دائماً كانوا تلك الشماعة للتبرؤ ممّا تعتبره السلطة أخطاءً أو جرائم، وشماعةً لطبقاتٍ أخرى تسكن في أحياء راقية، وتظنّ أن المدينة لا تتسع لكلينا معاً.
تشرق الوجوه عند ذكر هنانو، يبتسم حسين وهو ينظر إلى سقف الغرفة الفرنسية الملوّن بالأصفر، وعليه عشرات من «حشرات البق المقتولة ليلة أمس، والتي تركت أثراً من دماء الأطفال على شكل خطوط». بعد أن اختار حسين مكان جلوسه على أرض الغرفة الخشبية، يوسّع لعُمَر القادم من دمشق مكاناً بالقرب منه؛ يحاول الأخير الذي لم يسعفه الحظ باستحضار صورةٍ لهنانو مشاركتَنا. أظنُّ أنه يفشل دون مثال توضيحي للمكان، فيهرب ليلعب مع طفلٍ يبحث من الشرفة المرقّعة بخشب اقتلعته مياه الأمطار عن عصفور أو حمامة.
في الطرف المقابل، يدير شابّ آخرٌ ظهره للكلمات، قبل أن يجلدنا ويجلد نفسه في كل دقيقة؛ لا أعرف حقيقةً ما الذي يريده رسامٌ من الحياة سوى أن يخنق كل اللوحات في إطارٍ حين تفرّ من قلبه الفكرة، أو أن يمشي في شوارع المدينة المحتلة.
أستندُ على عدنان الجالس على شبه أريكةٍ دون اسفنج تتّسع لرجلين؛ الشابّ النحيل الذي يخشى أن تُكسَرَ ذاكرة المدينة في قلبه يقرأ في صورة لرجل يبيع البرتقال بعد تصفيفه كلوحة مسائية حين يخلو المكان من المارّة: لا زبائن في المدينة المحتلة اليوم.
يختار حسام كرسياً على باب الشرفة. ينتظر البدء بعراكٍ حول مدينة الفقراء التي باتت حلماً للثورة، ننسى في زحمة القصيدة الحديثَ عن استشهاد شامل ورفاقه وأيام الحصار. نطلب من منعم الذي اختار مكانه مستنداً على الطاولة، عبثاً فعلنا في تحريض ذاكرته، إلا أنه ومراراً راح يبحث عن علاج للرشح ووجع الرأس والاستماع.
على جهاز اللابتوب تطلب منا الكاتبة الليبية ليلى، بلهجةٍ سوريّة، أن لا نملّ من قصتها التي قرأتها علينا، كلٌّ منا راح يدور في فلك الذاكرة بعيداً عن المكان، وحين انتهت وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع ما يشابه مدينتنا القديمة.
زوجتي لا تقبل التصويت على ما يحدث من جدالٍ حول نزار قباني ومحمود درويش. تقول: أختارُ ما يختاره مصطفى، بعد أن أنهكها تعب صناعة التبولة والبطاطا المقلية وباقي الأطعمة المركونة على المائدة. تُنهي الجدال بطرح خِيارٍ بين المربّى والعسل على طبقٍ لم أعرف اسمه؛ الجميع اختار الأخير على عكس عادة سكان هنانو، فهنانو حظُّ الفقراء ومربى المشمش ودبس البندورة.
يرقص طفلي على الطاولة وهو يردد ما يسمعه من أغنية لمظاهرة قديمة، يلفت الأنظار إليه وهو يتلقف من المرة الأولى الكلمات الكثيرة التي يضج بها المكان، تعلق على لسانه جمل وكلمات «ما في للأبد» و«حرية» و«حمامة بيضا»، يدمجها معاً وهو يدور كراقص مولوية. تفرح أمه بغنائه، وأمدُّ ذراعيَّ معاً على طولهما كي لا يقع، بينما نصف الحاضرين يدقّون على الطاولة، وفي الجانب الآخر حديثٌ طويل عن دولة العقيد لا ينتهي.
نبحث عن فلاتر وأوراق لفّ للدخان، ونمدّ أيدينا ونحن نتكلم للحصول على «قدّاحة». سريعاً ننتقل إلى ألوان القداحات المسروقة، وفي كل مرّةٍ أفتش بيجامتي الخالية من الجيوب، كان عُمَر يُسعفني بقدّاحتي السوداء.
يغيب الجميع بعد خروجهم وتحضر هنانو وحدها في داخلي؛ الكتل الإسمنتية التي تتشابه إلى درجة التطابق، أصص الزريعة التي تميّزُ أنثى عن قرينتها، الشرفات التي تحوّلت بعد ضمها للغرف إلى فسحةٍ تضمُّ أعداد العائلة الكبيرة؛ فبيوت هنانو كانت حظ من يمتلك أكثر من ستة أطفال، الشوادر المقلّمة باللون البني تخفي وراءها وجوه الفتيات الجميلة، والتي كانت «سيماً» يعرفه العشاق في المدينة؛ طيُّ طرفها الأيسر يعني أنها انتظرته طويلاً في الصباح ولم يمر، أما الأيمن فيعني أنها لن تستطيع اليوم الوقوف على الشرفة، ربما يكون والدها أو أحد أخوتها قد قرر مصادفة أن يأخذ إجازة على غير العادة؛ تحريك الشادر نحو منتصف الشرفة يعني أن البيت اليوم حظُّ النساء وهُنَّ في زيارة قصيرة إلى بيت أحد الأقارب. في المنتصف، يعلن إغلاق خيوط الشادر أن الهواء لن يمرّ، أو أن نزوحاً مفاجئاً قرر إنهاء قصة الحب تلك على أمل العودة؛ أما الشرفة التي تخلو من الشوادر فتعلن لجوءاً طويلاً، وأنَّ عليك البحث عن شرفة أخرى للحب.
حَجرَان متقابلان على الطريق الرئيسي يعنيان أن مباراة لكرة القدم قد انتهت منذ وقت قصير، وفقدانهما يعني أن طفلاً في الحي قد مات بسبب قذيفة عابرة، وأن أصدقاءه قد أعلنوا الحداد عليه وتركوا اللعبة حتى نسيانه.
بسطات الجبس على قارعة الطريق تعني أن الثوار أبعدوا القناص لمسافة جديدة، وأن رجلاً قرر البحث من جديد عن عملٍ بعد أن أُجبر على ترك وظيفته خوفاً من الاعتقال.
الحاجز الجديد على طرف المدرسة يعني أن فصيلاً جديداً قد تشكَّلَ واتخذ من المكان مقراً له، وأن أطفالاً جُدداً لن يستطيعوا ممارسة نشاطهم الصباحي في قراءة التاريخ وضجيج الأغاني الصباحية، وأن بيوتاً جديدة سينزح أهلها خوفاً من الطائرات التي تقتل كل شيء.
«برّاكة» الإكسبريس المغلقة تعني أن الكهرباء لم تزر المدينة منذ مدّة، وأن أسعار بنزين المولدة قد ارتفعت بشكلٍ جنوني، وأن المَرار يسكن في جوف شبان الحي المتنبّهين دائماً دون كافيين.
المسجد المغلق يعني أن الصلاة قد تأجلت بفعل القصف، وأن الأمهات اكتفينَ بالدعاء لحماية أطفالهنّ، وأن مظاهرة ليلية ستجوب الشوارع للتكبير والراحة.
غياب الاتصالات يعني حرمان الجميع من معرفة ماذا يدور خلف جدران المدينة، أو أن رجلاً غاضباً قام بتحطيم برج الاتصالات، أو ربما آخر قرر سرقته ليبيعه لتجّار الخردة والحديد، أو أن المبنى قد تهدم على رؤوس ساكنيه حاملاً معه أحلام الجميع برسالة واتس آب يثبتون فيها أنهم على قيد الحياة.
في هنانو أنت لست بحاجة للاستقراء، كل شيء واضح ومرسوم بلغة ودلالات مفهومة تُتعب الغريب عن المكان، وتُشعره بالضيق من كتل الإسمنت التي تشبه ملامحنا ونحن نركض حفاةً حول كرة صغيرة، بينما يأكل الإسفلت من لحمنا، وتفتح آلاف التساؤلات عن قصص تروى عن الحب والخوف والجوع والثورة القابعة خلف الجدران.
تخلو المدينة من سكانها اليوم؛ هكذا أخبرني من زارها مؤخراً بعد ثلاث سنوات من احتلالها. عائلاتٌ قليلة تسكن في ما تبقى منها، تدلُّ عليهم الخرق المهترئة على حبال الغسيل. يقول صديقي خائفاً بلغة لا يفهمها إلا من عاش في هنانو؛ «لا شوادر ولا أصص زرع ولا براكات قهوة ولا أحجار لكرة القدم». أُغلق الرسالة دون ردّ. يرسل في اليوم الثاني؛ «تائهون يعبرون المدينة»، فأفهم أن سكاناً جُدداً يحاولون العيش في منازلنا القديمة ويفشلون من جديد. الرسالة الأخيرة؛ «أزلتُ شادر البيت»، فعرفتُ أنه هجر المدينة إلى غير رجعة.