يمكن لخيار واحد خاطئ على يوتيوب أن يلوث توليفة الفيديوهات التي يقترحها الموقع عليك بناء على مشاهداتك السابقة. هذا ما حدث لي فعلاً عندما كنتُ أبحث عن فيديوهات تغطي الحفلات الفنية ضمن المهرجانات التي تم تنظيمها في سوريا خلال الصيف؛ حفلة لسيرين عبد النور في اللاذقية، عبير نعمة في دار الأسد للثقافة والفنون، وأخرى لمروان خوري في مهرجان ليالي القلعة في دمشق، ثم صار يوتيوب يقترح عليَّ مشكوراً فيديوهات كواليس الحفلات والمؤتمرات الصحفية التي عُقدت مع المنظمين أو مع الفنانين قبل الخروج إلى المسرح، ليزيد هذا من الشعور بالضيق والغرابة في الوقت نفسه.

على سبيل المثال، في المؤتمر الصحفي الذي أجرته كارول سماحة، صاحبة أغنية «صباح الألف الثالث» التي تتضامن فيها مع الفقراء والمشردين والمعتقلين، تنصلّت الفنانة اللبنانية من تغريدة كانت قد أعادت نشرها على حسابها في تويتر، تدين فيها عمليات الجيش السوري لاستعادة مدينة حلب عام 2016، مبرّرة ذلك بأنه يحدث كثيراً أن يضع الشخص لايك أو ريتويت بالخطأ أو عن غير قصد! أما نجوى كرم، فقد أشار المذيع في مقابلة معها إلى الأحوال المادية الصعبة للشعب السوري، وكأنه أراد أن يسأل عن كيفية تحديد أسعار بطاقات حفلتها في سوريا، لتجيبه النجمة اللبنانية بأن الأموال لا تعنى لها شيئاً مقابل أن تستعيد نجاحها في سوريا. ويبدو أنه وفقاً لهذه السياسة تم تحديد أسعار البطاقات المخفّضة لحفلتها، والتي  تراوحت بين 45000 و60000 ليرة سورية، وهو ما يساوي أو يفوق راتب شهر كامل لموظف حكومي في سوريا.

اقترح يوتيوب عليَّ كثيراً من الفيديوهات لحفلات غنائية جرت هذا الصيف في سوريا، وكثيراً من زعيق مغنين مُطوَّقين بعناصر أمن أو حرّاس بمسدسات على خصورهم في أحيان كثيرة، ومشاهدَ لجمهور يبدو معافىً جسدياً ونفسياً واقتصادياً، ومستعداً للتماهي مع حالة التغريب بين هذه المهرجانات الاحتفالية والفضاء العام للمدن السورية المنهكة، التي يتضور بعض الناس جوعاً في أحياء كثيرة منها، ومن استطاع سبيلاً إلى لقمة العيش، يعجز في حالات كثيرة عن تدبير أساسيات الحياة الأخرى، هذا إذا لم نُرد أن نتحدث عن عشرات آلاف الضحايا والمعتقلين والمغيبين والمفقودين والمختطفين، وعن الدمار والحرب المستمرة حتى اللحظة.

كان هذا الصيف قد شهد نشاطاً فنياًِ وعودة مجموعة من المهرجانات الفنية إلى سوريا بعد انقطاع طويل دام لأكثر من سبع سنوات، واستقطبت هذه المهرجانات مجموعة من الفنانات والفنانين اللبنانيين من نجوم الصفّ الأول، مثل كارول سماحة ونجوى كرم ومروان خوري وفارس كرم وسيرين عبد النور وعبير نعمة. وأقيمت لهم ولهنَّ حفلات ضمن فعاليات لمهرجان ليالي القلعة في دمشق ومهرجان صيدنايا ومهرجان القلعة والوادي في وادي النصارى بريف حمص الغربي، بالإضافة إلى حفلات في اللاذقية وطرطوس. وقد لاقت هذه الحفلات إقبالاً جيداً وذلك لمن استطاع تحمّل تكلفة شراء البطاقات، التي تراوحت في مهرجان ليالي القلعة في دمشق بين خمسة آلاف وعشرة آلاف ليرة سورية، في حين أن أسعار بطاقات حفلات أخرى وصلت إلى حدود الستين ألف ليرة سورية.

وقد احتفل إعلام النظام السوري بتغطية هذه المهرجانات، وأجريت العديد من المقابلات والمؤتمرات الصحفية مع الفنانيين والمنظمين، ولم تخلُ هذه المؤتمرات من تصريحات تدعو للسلام والأمان إلى سوريا، ولا من التعبير عن شوق هؤلاء الفنانين اللبنانيين للجمهور السوري وتمنياتهم بالعودة للغناء على خشبات مسارحه بشكل متكرر. كما لم يخلُ برنامج الحفلات من أغنيات لسوريا، وأخرى مخصصة لتحية بشار الأسد بشكل خاص كما في حفلة فارس كرم في قلعة دمشق. وغطى الإعلام السوري هذه الاحتفالات الغنائية كجزء من إعلان الانتصار العسكري الذي حققه النظام، وجزء من خطاب التأكيد على عودة الأمن والاستقرار لسوريا، مستغلّاً المعنى الرمزي لطقس الاحتفال، الذي هو مناسبة اجتماعية يتماهى فيها الفرد مع الجماعة، وتصبح نشوة وفرح الفرد جزءاً من النشوة والفرح العام، والفرحُ العام في حالة هذه المهرجانات الغنائية التي يتم تنظيمها تحت غطاء الدولة ومؤسساتها لا يمكن أن يبدو إلا فرحاً سياسياً و«وطنياً».

هناك مجموعة تعقيدات لا بد من التفكير فيها عند الكتابة عن مهرجانات الصيف في سوريا، أو عند محاولة اتخاذ موقف منها، وأهمها المعنى السياسي غير الخفي لهذه الاحتفالات التي لا تنفصل عن كونها احتفالاً بالأسد وانتصاراته التي اقتضت قتل عشرات آلاف السوريين واعتقالهم أو تهجيرهم بعد تدمير بيوتهم وسرقة أملاكهم؛ وبالتالي فإن انتقاد هذه الاحتفالات يبدو أمراً عبثياً، ذلك أنها لا تفضح شيئاً في سلوك النظام، الذي سيسعى حتماً لتأكيد انتصاره من خلال إقامة هذه المهرجانات واستضافة فنانين من لبنان، وربما من دول عربية أخرى في المستقبل القريب. ثمة جريمة يرتكبها النظام أصلاً في وضح النهار، فماذا يعني أن ندين محاولته للاحتفال فوق جثامين ضحاياه؟!

أما العقدة الأكثر إشكالية فهي صعوبة توجيه إدانة عامة للجمهور السوري الذي يحضر هذه الحفلات أو يشارك في فعاليات هذه المهرجانات، ذلك أنه لا بد من التمييز بين حالات فردية متنوعة عند الحديث عن الجمهور في داخل سوريا، فبالرغم من أن طيفاً واسعاً من هذه المشاركة ينطوي على موافقة على المعنى السياسي  لهذه الاحتفالات الغنائية، إلا أننا نعرف في الوقت نفسه أن كثيرين يشاركون في هذه الاحتفالات إذا استطاعوا إليها سبيلاً بدافع الترفيه وكسر روتين الحياة القاسي الممل في سوريا، الذي لا يترك لكثيرين فسحة لأي لحظة فرح، خاصة في ظل الخيارات المحدودة للفعاليات الترفيهية التي يمكن القيام بها في سوريا اليوم.

ثمة طيف واسع من الجمهور في سوريا لا يحفل بالمعنى السياسي لهذه المهرجانات أو غيرها من الأنشطة الثقافية والفنية التي تقام تحت رعاية المؤسسات الرسمية، حتى أنه ليس غريباً أن نجد بين هذا الجمهور أفراداً لهم مواقف مناهضة للنظام أو حتى منحازة للثورة، لكنهم يتمايلون اليوم على أغاني كارول سماحة أو فارس كرم، ليس لأنهم باتوا من أنصار النظام، بل لأنهم باتوا يعيشون وفق المعطيات الموجودة في مناطق سيطرة النظام، التي انهار فيها حلم الثورة والتغيير السياسي، ويعيش الناس فيها تحت صور بشار الأسد وشعاراته التي باتت جزءاً يومياً من حياتهم على نحو لا يمكن مقاومته معنوياً وذهنياً بسهولة.

ولعلّ قبول فنانين بالمشاركة في التطبيع مع نظام الإبادة الأسدي يبقى من بين الأشياء التي يمكن انتقادها دون لبس، لكن حتى هذا النقد يبدو عبثياً في أحيان كثيرة، ذلك أنه لم يكن لمعظم هؤلاء الفنانين في أي يوم موقف واضح منحاز للكفاح من أجل الحرية في سوريا، ما يعني أن الانتقاد الموجه لهم لا يتعلق بمشاركتهم في هذه الاحتفالات من عدمها، بل ينسحب على مسؤوليتهم الفنية والأخلاقية العامة، وعلى توظيف رصيدهم الرمزي سياسياً واجتماعياً لصالح أنظمة الحكم لا لصالح الشعوب المحكومة بالحديد والنار.

يؤدي هذا الاستعصاء الذين نشعر به عند محاولة تكوين موقف من هذه المهرجانات إلى إكسابها نوعاً من الحصانة ضد النقد، وذلك لأن فجور النظام في التعبير عن انتصاراته مستخدماً الجمهور المتنوع الذي يحضرها، سيؤدي إلى جعل أي نقد موجه لها يبدو عبثياً، أو يبدو إدانة عامة لكل من يحضر هذه المهرجانات أو يتفاعل معها، حتى أنه قد يبدو في أحيان كثيرة كما لو أنه إدانة لفعل الاحتفال والبهجة نفسه. 

ليس الاشمئزاز الذي نُصاب به عند مشاهدة فيديوهات من هذه الحفلات ناتجاً عن رغبة في فرض حِداد عام لا ينتهي، لكنه ناتجٌ عن المعنى السياسي الذي يحمّله النظام لهذه الاحتفالات، ولا يبدو أن ثمة نقداً عقلانياً ومفيداً يمكن توجيهه دائماً لهذه الاحتفالات، لكن ما ينبغي مواصلة القيام به هو السخرية من فصامية  هذه المهرجانات ومن كيفية تنظيمها ورسائل الإنكار التي تتضمنها وعلاقتها مع الفضاء العام الذي يعيش فيه السوريون، مع ضرورة التذكير في كل وقت بأن الشخص الذي يتم رفع صوره والغناء له هو مجرم حرب، ذلك حتى لا نعتاد على الاحتفال بشروطه وتحت شعاراته، وحتى لا نعتاد على أن العيش مع المذبحة من طبائع الأشياء.