يُصادف المُتبحر في عوالم البورنوغرافيا ما يسمى بـ verification video، أو باللغة العربيّة، «فيديو التحقق»، الذي يوظفه المستخدم العادي لـ «تأكيد» حسابه وهويته كشخص حقيقي ومستخدم وفيّ لأي موقع إباحي، ما يتيح له الوصول إلى محتوى مختلف، أو تحميل فيديوهاته الخاصة، ويتم هذا «التحقق» عادة عبر تصوير الجسد المكتوب عليه، أو على ورقة بجانبه، اسم الموقع الإباحي المراد تأكيد العضويّة فيه.

المثير للاهتمام أن هذه الفيديوهات علنيّة، أي يمكن مشاهدتها من قبل المتلصصين السرييّن الذين لا يريدون فضح هوياتهم. الأمر ذاته ينسحب على المحتوى العربي الفقير، الذي نرى ضمنه مئات «فيديوهات التحقق»… ثوانٍ عديدة يكشف فيها رجال ونساء عن أعضائهم التناسليّة في سبيل الوصول لمحتوى جديد.

تَظهر هذه الفيديوهات على صفحة البحث أشبه بكولاج من الأشلاء. مئات من الأعضاء التناسليّة الذكرية والأنثويّة، الأيدي والأرجل، الأوجه في بعض الأحيان، تتحرك لثوانٍ وتختفي. بعض هذه الفيديوهات لا تنتمي لأشخاص حقيقين، إذ يكتفي البعض بتحميل فيديوهات منشورة سابقاً، لكن بعضها حقيقي، ينتمي لمواطنين وموضوعات سياسية في العالم العربيّ، لنرى أنفسنا أمام تمثيلٍ جديد «للحم»، وكأن هناك جسداً لا نظاميّاً من أشلاء اللذة التي «ترغب» دخول عوالم البورنوغرافيا السريّة، حيث الأحاديث والصداقات، وتدليل الانتصابات وتأخير الرعشات إلى أقصى كلمة/بيكسل.

هذه الأشلاء الإباحيّة المنفصلة عن الأجساد، التي تؤدي وظيفة واحدة وهي «التحقق» من «الهويّة»، أشبه بشكل من أشكال الـabject، أو ذاك الجزء العضويّ المنفيّ في سبيل الحفاظ على وحدة الذات أو تكوين متخيّل جديد عنها. هي أشلاء تُستعرض منفصلة عن سياقها وكُليتها، ينفي فيها الفرد قناعه/هويته السياسيّة على حساب جزء من جسده لرسم حدود جسديّة- سايبريّة- إباحية.

شُلوٌ لا-سياسيّ، حرّ من وظيفته، يظهر على الشاشة أمامنا، كأسلوب لتفكيك الكلّ الواعي (للحم العضويّ) وتكوين جسد سايبري لا حدود بين أعضائه التي تتداخل وظائفها. الأهم، أن هذه الفيديوهات تبدو كعمليّة ضد «الوجه»، بوصفه العلامة الأولى على الـ«أنا» و«الهوية»، وتوظيف للشلو الجسديّ العضويّ كعتبة نحو اللحم المُستثار السايبري، الموسوم بموقع اللذّة، فهناك مواطن من سوريا أو مصر أو لبنان، وشلو من Pornhub أو xnxx.

يحوّل الخوف الجسدي من انكشاف الهويّة ضمن العالم البورنوغرافيّ اللحمَ بأكمله إلى «فَضلةٍ» غير مهمة على حساب الشلو الذي لا يمكن تحديده، والذي يصبح بدوره «لا غرض» (non object)، جزء عضوي من لحم بلا أصل كلّي، وعلامة على العنف الممارس على الجسد الإباحي، وجسد اللذة نفسه في المنطقة العربيّة، الذي يُختزل إلى عضوّ أو قطعة لحم أو جلد تحوّل «الكلّ» إلى مُشين ومرفوض في حال حاول اقتحام مساحات محرّمة أو ممنوعة.

التقنيّة السابقة في استعراض الأشلاء أمام المتلصصين والفضوليين و«الخائفين» تحضر ذاتها في الفضاء العام، إذ تُوظَّف الأشلاء كشكل من أشكال  التأديب التي تنفى «سياسيّة» جسد العدو/ المذنب ليتحول إلى «حياة صرفة»، يباح تفكيكها إلى أشلاء، لا داعي لمعرفة هوية صاحبها، بل يكفي ظهورها العلنيّ واستعراضها، كما في العقوبات العلنيّة التي تمارس في إيران مثلاً، حيث تُقطع اليدّ أو الرأس. 

لا داعٍ للتصفح البورنوغرافي كي نتعرف على الشكل الآخر من الأشلاء في المنطقة العربيّة، تلك الناتجة عن العنف السياسي، أشلاء تملأ الأخبار والأفلام الوثائقية، مستعرضة وعلنيّة، وتزداد قسوة كلما بحثنا أكثر، حتى أن هناك مواقع بورنوغرافيّة شديدة القسوة خصصت تصنيفات لسوريا واليمن، يمكن ضمنها مشاهدة عالم جديد من الأشلاء وكيفية إنتاجها سياسيّاً من قبل كتلة بشريّة تمارس القتل والتخويف.

تدأب السلطة السياسيّة في المنطقة العربيّة على «إنتاج» الأشلاء وجعلها مادة للاستعراض والتبادل، لا بهدف التأديب أو القتل، بل لتفكيك وحدة الجسد الإنساني، لتخلق رعباً لدى المشاهد، رعبٌ ينتشر في الفضاء العام ويترك أثراً جسدياً وقشعريرّة وخوفاً من التحول إلى شِلو، ما يعني تفادي كل ما يمكن يستفز عنف السلطة القمعيّة التي تضرب في تكوين «شكل» الإنسان.

هذه الأشلاء، التي هي أيضاً «لا-أغراض» تُفقِد المُشاهد اتزانه وعلاقته مع وحدته الجسدية التي تشكّل جوهر كرامته كإنسان، ليسأل ذاته عما يراه، هل هذه يد طفل، أم يدٌ فقط ؟ هذا السؤال يعني تداخل الحدود بين الميت والحي، بين الكرامة الإنسانيّة والفضلات، فكومة الأشلاء هذه لمن؟ لشخص أو اثنين؟ أو أكثر؟

توظف السلطة السياسيّة الارتباك المرافق للرعب لتمكين سيادتها، وللتأكيد على قدرتها لا فقط على القتل، بل على تهديد الوجود الإنساني، ما يسبب انهياراً في تكوين العالم الرمزي في عقل المشاهد، هذا العالم ذو الحدود الواضحة بين داخل الجسد وخارج الجسد، بين المتماسك والهش، يتخلخل بسبب رؤية الشلو، وإدراك إمكانية توليده في أي مكان. وهنا تكمن خطورته، هو علامة جسديّة تكشف هشاشة النظام القانوني، وعدم قدرته على رد العنف الذي يصل إلى حد فصل الجسد عن نفسه لاستعراض القوة.

هذا الرعب الذي يحركه الشلو داخلنا أشبه برد فعل مناعي تجاه «الآخر»، والعضو الذي انفصل عن أصله وأصبح «فضلةً»، هو خوف عميق يرتبط بإدراكنا لذاتنا نفسها، وشكلنا الجسدي الذي ندرك وحدته منذ لحظة الفُطام، ما يجعل الرعب ذا أثر داخل الجسد نفسه، قشعريرة دائمة تحول الحياة اليوميّة إلى جهد للنجاة، وتنفى القيمة السياسيّة للجسد الذي تنزاح قدراته نحو تفادي الخطر، خصوصاً أن الشلو يهدد الشكل المتوارث لأجسادنا، فهو قريب حد التطابق مع ما يكوّننا ويكوّن وعينا بالعالم، اللحم بوصفه معيار وعينا بذاتها.

الأهمّ، أن الرعب من الشلو يفعل «جهاز القرف المفاهيميّ»، ذاك المزروع فينا، ويدفعنا لتفادي ما يهدد النظافة والاكتمال والصلابة. وهنا تأتي السلطة السياسيّة لتبني هذا الجهاز وتطوره، مراهنة على قدرته على تفعيل سلوك في الجسد يضمن الحركة بعيداً، خصوصاً ضمن المساحات الآمنة، فهو الجهاز الذي يدفع أجسادنا بعيداً عن احتمالات الأشلاء، ويضبط سلوكنا كي لا نصبح كتلة لحم غير متماسك، ضمن سياق يومي، كالحذر الشديد حين الاقتراب من حاجز أمني ما، أو فرع أمن ما، أو حتى لعبة مرميّة في الشارع كما كان يحصل في العراق حين كانت تُفخخ هذه الألعاب، فالجهاز المفاهيميّ هذا يتلاعب بإدراكنا لتكوين العالم الرمزيّ لتفادي احتمالات الأشلاء ضمنه.

تبدو صور الأشلاء التي توّلدها السلطات الوطنيّة الديكتاتوريّة كنتاج عمليّة للتطهير الذاتيّ، إذ تحول أجساد «الأعداء» داخل جغرافياتها وخارجها إلى «فضلات» لا بد من التخلص منها، لأنها تهديد للطهرانيّة الداخليّة للجسد الوطنيّ، ما يعني تلاشي كرامة «الأعداء» الإنسانيّة، وكأن هذه السلطة -كحالة سوريا- تقوم بعملية تطهير لفئة من الناس لخلق جسد داخليّ «نظيف» مُتخيل، كعملية استئصال يد مصابة بالغرغرينا، والتي تُقطع كتضحية في سبيل وحدة وصحة الجسد الوطنيّ، وتُستعرض لنشر الرعب من تهمة «عدو» أو «جرثومة»، وكأن هناك طاعوناً خفيّاً ينتشر بين الناس، ولا حلّ إلا بممارسة طبيّة جراحيّة، تنفي الجسد الميت الذي يتحول إلى «شيء» لا بد من تفكيكه لنفي كل احتمالات «المرض».

تنفي الأشلاء، ضمن أشكال العنف السياسيّ، الحدود بين المواطنين الصالحين والأعداء، بين «الأصحاء» وأولئك الذين لا بد من نفي جسمانيتهم عنهم وتحويلهم إلى «فضلات». وهنا يمكن تفسير قبول البعض للعنف الشديد ضد الآخرين، فهو جذاب ومخيف في الوقت ذاته، وعودةٌ للنقاء في سبيل جسد-وطنيّ- مثاليّ-مُتخيّل. جسد اللذة ذاته الذي يُسعى له في البورنوغرافيا، فالأوّل صحيّ دوماً والثانيّ مُستثار دوماً، في الأول الأشلاء تحمي الأنا من خطر «الأعداء»؛ وفي الثاني الشلو يحمي الأنا من عنف انكشاف الهويّة للعلن.

جماليات الأشلاء

ما يفعّل قدرة الأشلاء على خلق الرعب هو المسافة بيننا وبينها، لأن قيمة ما يصبح «خارجاً» تصبح ضبابيّة: السن المقلوع، الزائدة الدوديّة، الجنين الميت، دماء الحيض، المني.. كلها «لا-أغراض» أصبحت خارجاً، وفقدت اتصالها مع اللحم، والمسافة بيننا وبينها مرتبطة بالمؤسسة واللغة المستخدمة لتبرير توليدها، كالخطاب الطبيّ القادر على إضفاء صفة «السميّة» على هذه المفرزات والأشلاء، لكن القطاع الفنيّ يرفض التعريفات السابقة، ويوظف كل «الداخل» في عمل فنيّ. والتجارب القصوى لإنتاج الأشلاء فنياً كانت في عمليات الخصاء مثلاً، حيث قام فنان صينيّ ببيع خصيتيه مقليتين لمشترٍ على أمازون، لن نناقش هنا هذه التجارب، لكن نذكر جماليات الأشلاء الناتجة عن العنف السياسيّ، فالشلو على الشاشة «لا-غرض» سحريّ يأسر المشاهد، كونه يهدد وحدته الذاتيّة، ويكشف هشاشة الأنا. هو يُسائل جوهر الوجود الإنساني نفسه، ويهدد تماسك العالم القائم بأكمله على أساس وحدة الجسم البشريّ، نافياً كل الحكايات الطبيّة عن الجسد السليم والحكايات الدينيّة عن أحسن تقويم، لتغدو عملية صناعة الأشلاء أِشبه بممارسة ضمن اللحم لتشكيله وتكوينه، إذ يفقد خاصيّة الملكية الذاتيّة، ويتحول إلى موضوعة مفتوحة الحدود يمكن تكوينها و«جبلها» وتغييرها، لتحريك الرعب والقرف والالتباس.

هناك لا أخلاقيّةٌ في الحديث عن جماليات الأشلاء الناتجة عن العنف السياسيّ كتلك التي تظهر في اليمن وسوريا، وتلك التي أنتجها تنظيم الدولة الإسلاميّة، فأشكال الحديد والاسمنت واللحم البشريّ التي تخاطب الرعب، وتعكس الانتهاك، تتحرك في المساحة بين اللذة والألم، وتستفز ردّ الفعل الجسديّ والعقلاني تجاه ما نراه. وتحرك الفانتازمات «الشريرة» عن هشاشة الجسد الإنسانيّ واحتمالات تكوينه وتلاشي الحدود بين الداخل المائع والخارج الصلب. لكننا لن نضرب أية أمثلة، بسبب استمرار القتل، وتجنباً لاستدعاء الرعب السياسيّ، ونستعير من المسرحي اللبناني ربيع مروة رأيه بأن تداول هذه الصور العنيفة هو ترسيخ للهدف الذي أنتجت في سبيله، وهو التداول والمرئيّة لبثّ الخوف والرعب.