في روايته العائش في الحقيقة (صدرت عام 1985)، التي تُعيد إلى الذاكرة رواياته التاريخية نهاية الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات، يُبرِز العظيم نجيب محفوظ براعةً تاريخيةً معمّقة، ليس فقط بتاريخ مصر القديمة؛ إذ ينسج حكايته على لسان المؤرخ الشاب «ماري مون»، الذي يجوب بلاد مصر من أجل جمع روايات الشهود عن تاريخ المدينة المارقة؛ أخت آتون، وعن صاحبها الموحِّد «المارق؛ إخناتون»، بل بتاريخ الديانة القديمة ومستوى الوعي بها أيضاً. بدءاً من مفارقة العنوان الذي يشير فيه إلى أمنحتب الرابع؛ الفرعون المثير للجدل، والذي أحدث انقلاباً على التديّن المصري التعددي المستقر لآلاف السنين، وانتهاءً بالمأساة التي حاقت به وبحقيقته المتوهمة. والمقصود بالحقيقة هنا؛ التوحيد، فأيُّ توحيدٍ أراد إخناتون «الكافر المخنّث»، كما وصفه أهل مصر، أن يفرضه في الإمبراطورية المصرية الشاسعة؟
يُقدّم محفوظ في روايته التوحيد الإخناتوني كمعتقدٍ يجمع أسطورتان: التوحيد الأمومي السابق الموروث منذ آلاف السنين، والمتشكّل في الديانة المصرية القديمة عبر أسطورة إيزيس وأوزوريس؛ فيتحدث محفوظ عن العلاقة الخاصة التي جمعت إخناتون بأمه الملكة تي، فبحسب الكاهن الأكبر لمعبد آمون: «المرأة هي الوعاء المقدس للتقاليد…، وقد جاءت البداية على يد الملكة العظمى أم المارق…، فاقد الرجولة ومؤنث الصورة، والذي لم يحب في الواقع إلا أمه التي أعطته الحياة والأفكار، ولشدة التصاقه بها شعرَ بوحدتها وآلامها»، وهي التي أنجبت له، رغم ما يُقال عن عجزه، دون النساء جميعاً، كونه يجمع بين التكوين الذكوري والأنثوي.
أما الأسطورة الثانية، فهي التوحيد التأمّلي بالمعنى الكتابي اللاحق؛ إذ يفرض إخناتون عبادة «الإله الواحد»، الذي يوحي إليه بصيغة إبراهيمية، فـ«تتلبّسه حالٌ من الانفعال المفتعل، ويخرج من حافة الوعي غائصاً في المجهول، ويتبادل كلماتٍ غامضةٍ مع أطراف غير مرئية، ثم يعود رويداً رويداً إلى وعيه، فيحدّثنا عن إلهه الذي لن يخذله أبداً»، ويصادر على الواقع من حيث حرية عبادة الآلهة في مصر، ويتحدى كهنة آمون الأسمى، فيأمر بإغلاق المعابد، وتقف مصر على شفا حربٍ أهليةٍ مدمرة، في حين يعيش إخناتون حالةً صوفيةً انعزاليةً، خاصةً قبل تنصيبه ملكاً «لحظة الاستضعاف»؛ فيتّخذ خلوةً معزولة يتحدث فيها عن «لذة القرب من خالق الوجود… حيث يسكره الشوق بلا خمر»، قبل أن يعتمد نشاطاً تبشيرياً لاحقاً في أرجاء مصر بعد تنصيبه ملكاً.
هل يرمي نجيب محفوظ إلى علاقةٍ ما بين التوحيد والتصوف والجنسانية في لحظة إخناتونية دياليكتية من تاريخ التدين القديم؛ التوحيد الأمومي، التعددية، التوحيد الإخناتوني؟
جنسانية التوحيد الأمومي
«أنا أمّ الأشياء جميعاً؛ سيدة العناصر وبادئة العوالم، حاكمة ما في السماوات من فوق، وما في الجحيم من تحت، مركز القوة الربانية. أنا الحقيقة الكامنة وراء الآلهة والآلهات؛ عندي يجتمعون في شكلٍ واحدٍ وهيئةٍ واحدة، بيدي أقدار أجرام السماء وريح البحر وصمت الجحيم. يعبدني العالم بطرقٍ شتى وتحت أسماء شتى؛ أما اسمي الحقيقي فهو إيزيس… به توجهوا بالدعاء» … إيزيس.
في عصور ما قبل التاريخ، وفي العصر الحجري الحديث، حظيت المرأة بمكانةٍ مركزية في المجتمعات التي كانت في صيرورة التشكّل الأول، حيث اكتشف الإنسان أول مقومات الحضارة وقتئذٍ؛ استنبات البذور وتدجين الحيوانات، ما أدى إلى استقرار ثنائية توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة. كان الرجل، الذي مازال يجهل دوره في العملية الإنجابية، ويمثّل له الفعل الجنسي طقساً وعبادة، لا نشاطاً فردياً يستهدف المتعة، يضطلعُ بالمهام المناسبة لتكوينه البيولوجي. بينما مارست المرأة أدواراً أكثر حيويةً بالنسبة للجماعة؛ تتعلق بتأمين الغذاء اليومي والإنجاب والعناية بأفراد الجماعة. في تلك المرحلة، أحاطت بالمرأة هالةٌ من الغموض والرهبة، نابعة من التصورات الزراعية المبكرة في جماعاتٍ مازالت أموميةً في الأساس.
انحنى إنسان العصر الحجري أمام محدوديته الأنطولوجية مرتين؛ مرةً في مواجهة الطبيعة العاتية بالخوف من ظواهرها ومحاولة التقرّب منها وإرضائها، ومرةً أخرى أمام نزوعه الماورائي الكامن في حاجاته غير المشبعة، فكان عليه أن يطوِّع رمزاً ماثلاً أمامه، يستقلّ به من عالم الدنيا إلى عالم الأسطورة/الدين. ولأنّ الرمز اجتماعيٌّ بالأساس، وذو وظيفةٍ تآلفية وتوافقية، كانت حالة الرهبة المشتركة والإجلال التي عاينتها الجماعة في المرأة، والتي رأت فيها خير تمثيل لظواهر الطبيعة، هي حلقة الوصل الأولى في تطوير هذا الرمز، فأيُّ سرٍ يكمن في استدارة بطنها الحُبلى بالحياة كما الأرض الحُبلى بالبذور! وكيف ينفطر صدرها بزخّاتٍ ما أشبهها بحبيبات المطر التي تُنبت القمح والشعير؟
في الواقع، تمخّضت الكشوف الأركيولوجية لتلك الحقبة عن تماثيل تبالغ في تصوير المرأة الحُبلى بالحياة، أو ذات صدرٍ عارٍ ضخم، أو ممسكة بسنابل القمح. تحيل هذه الكشوف إلى استفحال دور ذلك الرمز متجسداً مادياً صار يوضع لاحقاً في المعابد؛ حيث تُمَارَس طقوس الديانات الزراعية المبكرة. من هنا كانت بداية أسطورة عصر ما قبل التاريخ، والديانة الأمومية
يحلل فراس السواح، اعتماداً على التماثيل المُكتشفة في سفوح زاغروس شرقي وادي الرافدين وتل الرماد بسوريا، والتي صُوِّرت فيها الإلهة الأم في وضعية الجلوس وقد استعاضت عن ساقيها بقضيبٍ ذكري كامل أو وهي في هيئةٍ ثنائية الجنس، كيف كان وضع الإله الابن بالقول: «إن الوثائق الفنية لعصور ما قبل الكتابة، لَتُقدم الدليل الواضح على أن هذا الإله لم يكن موضع عبادةٍ بمعزلٍ عن أمه. لقد عاش حياته كلها ظلاً للأم الكبرى…، فهو وجهها الآخر، وشقّها الذكوري الذي كان كامناً فيها منذ الأزل، ثم انفصل عنها شكلاً، ولكنّه بقي جزءاً منها فعلاً…، وإذا كانت الأم الكبرى قبل ظهور الابن تحملُ في بعض صورها التركيب الأنثوي والذكري معاً، فإن ابنها بدوره سوف يحمل ذات التركيبين، ويعيش حياته (ابن أمه)؛ الفتى الرقيق الجميل ذو الملامح الأنثوية الواضحة والجسد الطري الغض. فعشتار وتموز هما في الحقيقة أُقنومان، لا إلهان مستقلان. اثنان في واحد، وواحد في اثنين». هكذا انفطرت الكثرة عن الواحدة، ولازالت تنشطر حتى صارت تعدديةً مقبولةً لا تقيم تعارضاً بين المعبودات.
الواحد والكثرة
«… فإنّ للحق في كل معبودٍ وجهاً يعرفه مَنْ يعرفه، ويجهله مَنْ يجهله»
«وأنّ التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، كالقوى المعنوية في الصورة الروحانية. فما عُبد غير الله في كل معبود»
ابن عربي
لطالما شدّد التقليد الصوفي في صيغته الأكثر تمثيلاً على تلاشي الفارق بين الواحدية والكثرة، وأن ليس ثمّة إلا هو. في حديثه عن طقوس إخناتون، يوظف نجيب محفوظ مفردات القاموس الصوفي المتأخر؛ (الخلوة، ولذة القرب، والسُكر بلا خمر، والجسد الهزيل) بشكلٍ واضح، غير أن تلك الحقبة من تاريخ الديانة (1350 ق.م) لم تكن ترقى فيها ممارسات الزهد والتصوف بعدُ إلى الدرجة التي طوّرها لاحقاً التّديّن الإبراهيمي، بما يشير إلى مفارقةٍ جديدةٍ تكشف عنها الرواية. ربما يمكننا تفسير تلك المفارقة بعاملين: أولاً، وعيُ محفوظ نفسه الذي يختزن مشاهدات التجربة الصوفية التي نشأ في كنفها وصارت ثيمةً رئيسيةً في أهم أعماله، ومفردةً لا تنفكّ عن المعجم الروائي المحفوظي. وثانيا، الإشارة الضمنية إلى الفرضية القائلة بأثر التوحيد الإخناتوني على مسار التدين الكتابي، والذي أفرز تلك الممارسات الصوفية، ممثلاً في بداياته العبرية في مصر
غالباً ما تُواجَه لحظة الاستثناء، خاصةً في البدايات، بنظرات استهجانٍ وريبة؛ كونها تنطوي على تغييرٍ نوعيٍّ غير معتاد (قد يكون مرفوضاً) يكسر رتابة الماضي القريب، ويحمل في طياته الغموض للمستقبل. لم تكن لحظة إخناتون سوى إحدى لحظات الاستثناء تلك في تاريخ التدين المصري الطويل السابق عليه. كانت استثناءً بالمعنى الزمني والموضوعي؛ كونها استمرت 17 عاماً فقط، وهي مدة حكم «المارق» إخناتون، وأيضاً لأنها أحدثت «ردّةً» في نمط التدين المصري القديم؛ القائم ليس فقط على تعددية الآلهة _بحكم الأمر الواقع_، بل أيضاً على الإقرار بمشروعية وجود مثل هذا التعدد، فلطالما ناشده كهنة آمون وكبار رجال الدولة والجيش السماحَ بالحرية الدينية، غير أنه أصرّ على عبادة الإله الواحد.
لم تعرف الدولة الحديثة في مصر القديمة ديانةً جامعةً ذات ماهيةٍ واحدةٍ يمكن معها تأطير الحالة الدينية التي جمعت العرش والمعبد في إمبراطورية الأسرة الثامنة عشر، بل ثمّة عددٌ لا يمكن حصره من الآلهة؛ الكبرى والمحلية والإقليمية والوظيفية، وهي تندمج أحياناً وتنشطر أحياناً أخرى، غير أنّ المؤكد هنا هو اعتماد فكرة مَجْمع الآلهة، الذي يجمع عدداً من الآلهة النوعية يتقدمهم إله سيّد، وهو في حالتنا تلك: الإله آمون المهيمن على طِيْبة وما حولها، والذي تحدّى إخناتون سطوةَ معبده.
طرح إخناتون فكرته عن الإله المُجرّد المتعالي عن التمثّل في شيءٍ أو التجلي في معبد، وهو ما لم يكن مفهوماً في الوعي الديني المصري؛ حيث نُعت بالجنون. ورأى في تلك التعددية عين الضلال؛ فأقرّ بأن «لا إله إلا الإله الواحد، وأنه ابن الإله، وهو المؤمن الوحيد في بلدٍ من الضالين، يسمع مناجاة الإله له: أنا الإله الواحد، لا إله غيري، أنا الحق، اقذف بروحك في رحابي، اعبدني وحدي، وهبني ذاتك، فقد وهبتك حبي». ماجت المدينة بالهرج، ورفضَ كهنة آمون دعوة إخناتون، وألّبوا عليه العامة، حتى اضطر إلى «الهجرة» إلى مدينته التي شيدها حديثاً: أخت آتون. ونبذَ الناس حقيقته التوحيدية المتوهمة، غير أنّهم اتفقوا على حقيقةٍ واحدة، وهي أنه «خُلق نصف أنثى، ونصف ذكر». وبضغطٍ من كهنة المعبد ورجال الدولة، تمّ عزل أمنحتب الرابع وتولية الملك الشاب توت عنخ آمون، ومات إخناتون مُحاصراً وحيداً في مدينته المارقة، بعدما ساورته الشكوك في إلهه الذي يبدو أنّه تخلى عنه في محنته، وسرعان ما عادت الحالة التعددية إلى سابق عهدها. فهل ورث إخناتون جنسانية التوحيد الأمومي ونبذ تعدديته؟