تأتي قذائف نظام الأسد وروسيا على حين غرّة في أحيان كثيرة، ولكن المراصد تنجح في تحذير الأهالي في بعض الأحيان، فتمنحهم دقائق قليلة وثمينة لإخلاء بيوتهم قبل وصول الطائرات وبراميلها وصواريخها؛ يتوجه الأهالي إلى أماكن ومناطق أكثر أمناً، وفي حالات كثيرة يخرجون مسرعين إلى سياراتهم ليغادروا بلداتهم وقراهم إلى البساتين القريبة، وفي كل هذه الحالات، سيكون سهلاً تمييز سيارات الدفاع المدني والإسعاف التي تسير على الطرقات في الاتجاه المعاكس، نحو الأماكن المستهدفة. يتم العمل في المجال الإنساني في سوريا غالباً في ظروف مشابهة؛ عندما يهرب المدنيون من الموت، يتجه العاملون في الإنقاذ والإسعاف نحوه بشكل مباشر.
تعرَّضَ العاملون في المجال الإنساني في سوريا بعد الثورة مراراً للاستهداف المباشر والممنهج، وتشرح كثيرٌ من التقارير الحقوقية أشكال هذا الاستهداف وأعداد ضحاياه، ومنها تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان في شهر آذار الماضي، الذي جاء فيه أن أكثر من ألف عامل وعاملة في المجال الإنساني قضوا في سوريا خلال السنوات الثمانِ الماضية، فيما بلغ عدد المعتقلين منهم قرابة الأربعة آلاف معتقل، ويقف النظام خلف الغالبية العظمى من هذه الانتهاكات، التي شاركت فيها أيضاً تنظيمات جهادية مثل داعش وهيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) وبعض الفصائل المسلحة الأخرى.
يواجه العاملون في المجال الإنساني في إدلب اليوم استهدافاً واسعاً على عدة مستويات، من قبل النظام وأيضاً من قبل هيئة تحرير الشام، إذ يواجه هؤلاء خطر الموت الدائم نتيجة استهداف مراكزهم وطواقمهم بشكل مباشر من جانب طيران النظام والطيران الروسي، كما يُعَدّ المتطوعون والعاملون في المجال الإنساني أحد الأهداف الرئيسية للاعتقال من قبل قوات النظام في حال سيطرت على أي منطقة جديدة، وفي الوقت نفسه فإن النظام وموسكو يقودان حملات تشويه سمعة على المستوى العالمي للمتطوعين والمنظمات التي تقوم بإنقاذ السوريين، مثل الحملة المستمرة على الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء).
يقول محمد، وهو متطوع في الدفاع المدني يعمل في قطاع إدلب الغربي، للجمهورية: «عندما نتوجه إلى مكان القصف، نكون على علم بأن هناك احتمالاً كبيراً بأن يقصف النظام مجدداً الموقع ذاته، بغرض استهدافنا وقتلنا، لكن لا يمكننا فعل شيء، هناك جرحى قد يعني تأخرنا عليهم فقدان حياتهم». يضيف محمد بأنهم يعيشون أيضاً ما يعيشه أهل إدلب من نزوح وتهجير، عددٌ من زملائه قاموا بإخراج عوائلهم من ريف إدلب الجنوبي نحو الشريط الحدودي من دون أن يستطيعوا تأمين خيمة حتى، لكنهم يحاولون العودة والمشاركة في أعمال الإنقاذ رغم ذلك.
وقد تم توثيق عدد كبير من الاستهدافات المباشرة لطواقم أو مراكز الدفاع المدني في إدلب خلال الفترة الأخيرة، من بينها قيام طيران النظام بقصف سيارة إطفاء تابعة للدفاع المدني في معرة النعمان، وكاد القصف أن يودي بحياة الفريق الذي كان يحاول إطفاء حريق كبير سببه القصف في المنطقة. كذلك وثّقت تقارير صحفية قصف مركز الدفاع المدني في مدينة خان شيخون قبل سيطرة النظام عليها بأربعة عشر غارة بشكل مباشر. ويحاول طيران النظام بشكل مستمر استهداف طواقم العمل الإنساني، لتدمير أي قدرات تساعد السكان على مواجهة موجة العنف الوحشية تلك، وقد دفع العاملون في المجال الإنساني حياتهم في مرات عديدة ثمناً لهذه الاستراتيجية التي يتبعها النظام، مثل حادثة قصف طيران النظام لسيارة إسعاف تابعة لمنظمة بنفسج قرب مدينة معرة النعمان، ما أدى إلى استشهاد ثلاثة مسعفين في العشرين من تموز (يوليو) الماضي.
القصف ليس التهديد الوحيد للعاملين في الإنقاذ والمهام الإنسانية، إذ يواجه هؤلاء بشكل مستمر خطر الاعتقال على يد النظام إذا ما سيطر على المنطقة التي يعيشون فيها، أو خطر الخطف على يد التنظيمات والعصابات بغرض طلب الفدية، أو بغرض الضغط على المنظمات التي يعملون فيها. وقد كانت حادثة اختطاف الطبيب الجراح عثمان الحسن في الثالث من شهر أيلول (سبتمبر) الجاري على يد قوة تابعة لتنظيم هيئة تحرير الشام، قامت بإيقاف سيارة الطبيب عثمان الحسن الذي كان متوجهاً إلى مستشفى معرة مصرين، وبعد إطلاق النار عليه وإصابته في إحدى ساقيه، نقلته المجموعة المرافقة له إلى مستشفى باب الهوى، لتعود قوة التنظيم وتخطفه مجدداً بعد ساعات قليلة، ثم تطلق سراحه بعد حملة ضغط واحتجاجات واسعة.
وقد قامت الجمعية الطبية السورية الأميركية (سامز)، التي تدعم المستشفى الذي يعمل فيها الدكتور الحسن، بتعليق العمل في مستشفياتها ومراكزها الطبية لعدة أيام، ما عدا الحالات الإسعافية، وذلك احتجاجاً على عملية الخطف واستهداف الكوادر الطبية في إدلب، كما أصدرت عدة منظمات سورية بياناً موحداً على إثر هذه الحادثة قالت فيه: «إن تكرار هكذا اعتداءات شكّلَ وما زال يشكّل خطراَ كبيراَ على استمرار العمل الإنساني في سوريا، عدا عن أنه دفعٌ صريحٌ لتهجير من تبقى من الكوادر الإنسانية».
يعمل مئات الشبان والشابات في إدلب دون توقف، وتحت خطر الموت بشكل مستمر، لإنقاذ الآلاف من أرواح المدنيين، وليس من الممكن إحصاء عدد الأرواح التي أنقذوها خلال هذه السنوات؛ لقد أنقذونا جميعاً، ليس من الموت وحده، ولكن أيضاً من فقدان الأمل.