انخفض سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي في السوق السوداء، صباح اليوم الإثنين، إلى 680 للشراء و685 للمبيع، وذلك بحسب الأرقام التي سجلها موقع الليرة اليوم، ليكون بذلك أدنى سعر صرف تصل إليه الليرة في تاريخ البلاد. ويبدو بحسب وتيرة تراجع قيمة صرف الليرة على النحو المتسارع الذي شهدته الأيام القليلة الماضية، أنّ مسار التراجع هذا لن يقف عند هذه الحدود، بل هو مرشّح لتسجيل أرقام جديدة أكثر سوءاً، مما سيؤدي إلى انخفاض القدرة الشرائية لعموم السوريين، المنخفضة أصلاً.

وتُظهِرُ كثيرٌ من التحليلات والآراء التي يتم نشرها في مواقع مقرّبة من النظام السوري أن هناك تفاوتاً في الرؤى حول أسباب هذا التدهور وآليات مواجهته، ولكنها تلتقي كلّها على أنّ السوق السوداء التي نشطت بشكلٍ كبير خلال السنوات الثماني الماضية لم تزل الأكثر إضراراً بقيمة الليرة، وذلك في مقابل عجز المصرف المركزي عن ضبطها، وعجزه عن اتخاذ إجراءاتٍ من شأنها تعزيز الثقة بالليرة أو تأمين كميات من القطع الأجنبي من خلال أسعار الصرف التي يعتمدها في تعاملاته، والتي لم تتغير منذ السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2017.

من جانبٍ آخر، فإن الأقاويل المُتداولة عن خلافات بين بشار الأسد وأعمدة الأوليغارشية المالية المرتبطة به، وعلى رأسهم ابن خاله رامي مخلوف، نتيجة طلب روسيا لمُستحقات بالدولار الأميركي تلكّأ أو رفضَ الأخيرُ تقديمها بسبب نقصٍ في السيولة، ترخي هي الأخرى بظلالها على تحليلات بعض المتابعين في الأوساط المعارضة للنظام على وجه الخصوص، باعتبار أن مخلوف برفقة آخرين هم المدراء الحقيقيون لاقتصاد سوريا الأسد. وليس واضحاً حتى الآن مدى صحة هذه الأقاويل المتداولة، غير أنّ الرواية التي تستند إليها تبدو بالغة الضعف والركاكة.

وفي مقابل غياب أيّ تصريحاتٍ رسمية صادرة عن المصرف المركزي حيال أكبر أزمة نقد تواجهها البلاد في تاريخها، باستثناء البيان الذي أكّد فيه المصرف استمرار ضخّه للعملة السورية من فئة خمسين ليرة، فإنّ المقترحات التي نقلتها جريدة الوطن شبه الرسمية عن خبراء ومدراء مصارف وتجار استطلعت آراءهم حول الحلول الواجب تنفيذها، تدعو إلى انسحاب المصرف المركزي من تمويل المستوردات، وترك ذلك للقطاع الخاص مع فرض قيود صارمة على الاستيراد، وكذلك إلى فرض قروض إلزامية بالدولار على من أسمتهم «كبار التجار والمتمولين ورجال المال والأعمال الجدد»، ومُصادرة أموال من يرفض مساعدة الحكومة بقرض بالدولار، وأيضاً إلى شن حملة كبيرة على تجار السوق السوداء ومُهرّبي العملة، وتشجيع السياحة ودعم الصناعيين وفرض تصريف مبلغ محدد بالسعر الرسمي على القادمين إلى سوريا.

جميع الحلول المُقترحة آنفاً، وعلى الرغم من صوابية بعضها على المستوى النظري، لا تقارب الواقع الاقتصادي الحقيقي لسوريا والنظام السوري، الذي أوصل الليرة ومعها اقتصاد البلاد ومُقدرات ساكنيها العامة والخاصة إلى هذا المستوى المتدني، بل إنها تستعير حلولاً من كتبٍ في أساسيات العلوم المالية، على نحو لا فائدة منه في ظلّ انعدام الشفافية المطلق لدى النظام فيما يخص ملاءته النقدية وكمية الأموال الموجودة في مصرف سوريا المركزي. إنّ أزمة سعر الصرف الحالية وما سبقها هي في المقام الأول والرئيس نتيجةٌ حتميةٌ وطبيعيةٌ للنهج الذي اتبعه النظام، والمتمثّل في توظيف كل مقدرات البلاد من أجل تمويل الحرب على السوريين والاحتفاظ بالسلطة من دون النظر في العواقب، ما يجعل النظام المالي وأسعار الصرف على درجة عالية من الهشاشة أمام أي مأزق أو مُتغيّر.

أما الأزمة الحالية، فالأرجح أنّ لها خصوصية تنبع من كونها لا تتأثّر بالراهن الاقتصادي السوري وحده، بل إنّ لبنان حاضرٌ فيها بقوة؛ حيث يتزامن انخفاض سعر صرف الليرة السورية مع انخفاضٍ أقل حدة بالنسبة لليرة اللبنانية، وذلك على خلفية تراجع التصنيف الائتماني للبنان من قبل وكالات التصنيف العالمية (ستاندرد آند بورز، فيتش، موديز)، وما نتج عن ذلك من تراجع الثقة لدى المودعين في البنوك اللبنانية بالليرة اللبنانية وتحويل أرصدتهم إلى الدولار أو إخراج القطع الأجنبي نحو مصارف خارج لبنان، وهو ما أدّى إلى تراجع احتياطيات البنك المركزي اللبناني من الدولار وانخفاض المعروض منه في الأسواق، فصار صعباً وأعلى ثمناً على النظام ورجال أعماله تأمين القطع الأجنبي من خلال استجراره من السوق اللبنانية لتمويل المستوردات والأعمال التجارية، كما كان متبعاً منذ عدة أعوام.

وعلى الرغم من أن تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية ليس كبيراً، إلا أنه تدهورٌ غير مسبوق منذ العام 1999، وتأتي أهميته من كونه يحدث في بلد نجح في تثبيت سعر صرف عملته طوال أكثر من عشرين عاماً، ويبدو واضحاً أن هذا التدهور يرتبط بضغوطات غربية على المصارف اللبنانية بخصوص ما يتعلق بمساعدة النظام السوري في التهرّب من العقوبات الغربية، وبخصوص حركة أموال حزب الله، وآخرها العقوبات الأميركية على بنك جمّال تراست، وهو ما يفتح الباب على ترجيح الترابط بين أزمة الليرة اللبنانية وتدهور الليرة السورية المتسارع.

ولعل أبرز ما يدفع للاعتقاد بأن أزمة الليرة السورية متجهةٌ للتعمّق، هو أنّ النظام استهلك كل ما كان تحت يده من قطع أجنبي خلال السنوات الماضية في عمليات استيراد السلاح والمحروقات، ودمّر كثيراً من أدوات الإنتاج الطبيعية والصناعية التي كان بإمكانها المساهمة عبر صادراتها في تحصيل كميات من القطع الأجنبي، وهو اليوم، علاوةً على ذلك، بات شبه محروم من دخول تحويلات المغتربين واللاجئين السوريين من الخارج إلى خزينته مباشرة، وذلك بسبب التفاوت الكبير جداً بين سعر صرف السوق السوداء وسعر المصرف المركزي، مما جعل معظم السوريين يتجنبون بشكلٍ كبيرٍ جداً التحويلات النظامية، ويلجؤون عوضاً عن ذلك إلى التحويل عن طريق السوق السوداء ومكاتب التحويل غير النظامية، حيث صار الفرق بين السعرين أكثر من مئتين وخمسين ليرة.

كذلك يأتي توقف الخط الائتماني الإيراني والعجز عن تأمين بديلٍ عنه ليكون واحداً من أسباب تدهور الليرة، لا سيما أنّ هذا الخط كان يُعفي النظام من تأمين كميات كبيرة من القطع الأجنبي مقابل حصوله على المحروقات. وإلى جانب هذه الأسباب كلها، يحضر الأثر المديد للعقوبات الغربية، الأمريكية تحديداً، سواءً على النظام أو على إيران أو على الواجهات التي يستخدمها الطرفان، ليساهم في تعطيل قدرة النظام على تحصيل القطع الأجنبي.

لا يمكن بحالٍ من الأحوال تحديد أو إجمال الأسباب التي أوصلت الليرة السورية إلى هذا الانخفاض المُرّشح لمزيد من التدهور، لكن ما يمكن قوله هو أنه ليس بوسع المصرف المركزي اتخاذ أيّ إجراءاتٍ من شأنها حل أزمة الليرة سوى على المدى القصير جداً، لأنّه لا يمتلك الأدوات الكفيلة بذلك. ولا يبدو حليف النظام الروسي، بعد أن عصفت العقوبات باقتصاد الحليف الإيراني، مستعداً لتقديم أيّ مساعدات اقتصادية لنظامٍ يرى أنّه أنقذه من سقوطٍ وشيكٍ كان يتهدّده، بل ربما تكون روسيا عاملاً ضاغطاً على النظام عبر سعيها لتحصيل ديون وأثمان ترتّبت عليه خلال السنوات الماضية، وهي فوق ذلك تحرمه من كثير من المصادر الكفيلة بتوريد القطع الأجنبي، بعد أن وضعت يدها عليها عبر عقود استثمار متنوعة.

تستعجل تحليلات كثيرة إلى التبشير بقرب سقوط النظام السوري مع كل تدهور كبير في سعر صرف الليرة السورية، لكن الواقع أن المتضرر الفعلي والأول من هذا التدهور هو السوريون المقيمون في البلاد، سواء في المناطق التي يسيطر عليها النظام أو في غيرها، ذلك أن النظام سيبقى منيعاً في وجه أي احتجاجات شعبية على سوء الأوضاع المعيشية، طالما أن لديه رخصة مفتوحة لقتل مواطنيه من القوى النافذة في العالم. لكن يبقى أن هذه الحلقة المستمرة من تدهور الاقتصاد السوري تكشف عن مدى العجز الذي وصل إليه النظام، وعن الكوارث التي ألحقها وسيلحقها تالياً بالبلاد ومُقدّراتها، وتقول بوضوح كيف أنه لا خلاص للسوريين بغير تغيير جدي في نظام الحكم وأساليبه، كما أنّها تُعرّي النهج اللصوصي الذي يستخدمه الأسديون في إدارة اقتصاد البلاد، وهي بلا شك ستمهّد لمزيد من خروج مقدّرات سوريا من قبضة الأسد وعصبته إلى قبضة الروس والإيرانيين، الذين لا يفوّتون أيّ فرصة تتيح لهم مزيداً من الهيمنة على البلد.