في كل مرة يتم فيها إعلان اتفاق أو تفاهم أو قرار يخص المسألة السورية، نكتشف لاحقاً أن الأطراف الإقليمية والدولية كانت تتحدث عن أشياء غير مُتفَّقٍ على تعريفها أصلاً، بِدءاً من عبارة «هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة» التي تم ذكرها أول مرة في بيان جنيف في حزيران 2012 ولا يزال مُختلَفاً على تفسيرها حتى اللحظة، وصولاً إلى «المنطقة الآمنة» التي تم الاتفاق عليها عليها بين أنقرة وواشنطن مؤخراً وتبيَّنَ سريعاً أنها تعني أشياء مختلفة بالنسبة للطرفين، مروراً باتفاقات خفض التصعيد وأستانا وسوتشي وغيرها.

وليس معقولاً أن غياب الاتفاق على المضامين والتعريفات كان يحدث في غفلة من أحد الأطراف في كل مرة، إذ لا شكّ أن ترك التفاصيل للشياطين كي تعبث بها كان أمراً متفقاً عليه ضمنياً، وأن كل هذه الاتفاقات كانت تهدف إلى ترحيل المشكلات المستعصية وتأجيل حسمها بانتظار ما تفرضه موازين القوى على الأرض، وإلى تبريد الصراعات وخوضها على دفعات، وفتح الأبواب أمام المساومات بين الأقوياء في الإقليم والعالم.

وفي الوقائع المعلنة للاتفاق الأميركي التركي الجديد، تعتبر الولايات المتحدة أن الهدف من المنطقة الآمنة هو طمأنة تركيا إلى أن الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي يقود قوات سوريا الديمقراطية، لن يشكل خطراً على أمنها، فيما تعتبر تركيا أن المنطقة الآمنة ينبغي أن تكون تحت إدارتها وسيطرتها العسكرية المباشرة، وأنه يجب أن يتم نقل مئات آلاف اللاجئين السوريين من الأراضي التركية إليها. وطبقاً لهذين الهدفين المعلنين المتباعدين، يبدو واضحاً أن الاتفاق جاء ترحيلاً لهذا الخلاف في الرؤى إلى المستقبل، ونقلاً له إلى مربع جديد يمكن أن يكون باباً أوسع للمساومات التي تدور الآن في الغرف المغلقة. وكما أننا لا نعرف ما الذي يدور في الغرف المغلقة على وجه اليقين، كذلك لا تسعفنا التصريحات والمواقف المعلنة في تكوين فهم دقيق لما يتم التخطيط له فعلاً، لنغرق في سيل من التصريحات والتصريحات المضادة، وفي عشرات التحليلات والتكهنات والتسريبات التي يأتي بعضها متناقضاً إلى حد لا يترك مجالاً لتكوين تصورات حاسمة.

يترك كل هذا أثراً كارثياً على إمكانية الفهم والتحليل والتوقّع، لكن ما يبدو مفجعاً أكثر هو الأثر الذي يتركه على إمكانية اتخاذ المواقف مما يحدث، حتى أن عبارةً كتلك التي وردت على لسان الرئيس التركي، عندما تحدّث عن رغبة بلاده في «توطين مليون لاجئ سوري» في المنطقة الآمنة المتوقعة، قد مرت مرور الكرام تقريباً، ولم تُسجَّل عليها اعتراضات مسموعة في أوساط المعارضة السورية، بل تكاد تكون تصريحات شخصيات من الائتلاف الوطني السوري متماهية معها، وإن باستخدام عبارات أخرى تحدثت عن حق السوريين في الإقامة في أي مكان من الأراضي السورية دون تمييز، وهو كلامُ حقٍّ أُريد به ما ينبغي أن يكون باطلاً، أُريد به تقديم تبريرات للتماهي مع السياسة التركية والاندراج الكامل في متطلباتها.

وثمة غابة من التفاصيل المتشابكة التي تجعل التفكير في عبارة أردوغان تلك أمراً بالغ التعقيد، من بينها أن التركيبة الحاكمة في شرق الفرات اليوم تمنع بالفعل عشرات آلاف السوريين من العودة إلى ديارهم، سواء من خلال عدم اتخاذها أي إجراءات لتأهيل المناطق المُدمّرة كما في الرقة، أو من خلال سياساتها القمعية تجاه كل معارض لها، وسياساتها التمييزية ضد أبناء المكون العربي. ومن أمثلة هذه السياسات العدوانية فرض التجنيد الإلزامي، وتنفيذ اعتقالات متكررة ضد خصومها السياسيين، أو أي ناشطين غير منضوين ضمن المنظومة السلطوية أو مطواعين لها، وبذرائع مختلفة من بينها العلاقة مع داعش، ومن آخر أمثلتها اعتقال ستة من نشطاء المجتمع المدني في الرقة، تم إطلاق سراح أربعة منهم بعد نحو شهر من التغييب، فيما لا يزال حسن قصاب وأحمد الهشلوم مُغيَّبين، وفوقها تم توجيه اتهامات لهما بالارتباط بتنظيم الدولة، وهي الاتهامات التي تكفي سيرة أي واحد منهما لنفيها وإثبات بطلانها.

على هذا فإنه لا يمكن النظر إلى تصريحات قادة قسد، التي تحدثت عن عدم القبول بدخول أي سوري إلى المنطقة ما لم يكن من أبنائها أصلاً، إلّا في سياق هذه السياسات العدوانية؛ ومن هذا الباب، فإن الرد عليها بالقول إن من حق أي سوري أن يقيم في أي منطقة سوريّة يبدو ردّاً في محلّه. لكن بالمقابل، نعرف جميعاً، وعلى نحو لا يقبل الشك، أن دعوات الجانب التركي لتوطين مئات آلاف اللاجئين السوريين تأتي في سياق الرغبة بتغيير التركيبة الديمغرافية للمنطقة، وفي سياق رغبة تركيا، وربما دول غيرها، بالتخلّص من عبء أكبر قدر ممكن من اللاجئين، ولا يُستبعَدُ أن تؤول في حال تكرار تجربة عفرين إلى عملية استباحة وتهجير واستبدال للسكان، يتم تبريرها بضرورات الصراع مع حزب الاتحاد الديمقراطي وبالاستناد إلى حق السوريين في الإقامة في كل شبر من بلادهم، في تجاهل لحقيقة أن نقل اللاجئين السوريين المُفترض إلى مناطق ذات غالبية كردية سيكون في سياق عملية عسكرية يشنّها طرفٌ ضد طرف آخر، وفي سياق مشروع سياسي وأمني يخدم مصالح الجهات الحاكمة في دولة أجنبية، وليس في سياق انتقال تلقائي للسكان إلى مناطق أكثر أمناً داخل بلادهم.

ثمة عملية تضليل واسعة تكمن خلف الحديث عن المنطقة الآمنة باعتبارها مطلباً سورياً ذا صلة بالعمل على إسقاط النظام، ذلك أن المنطقة الآمنة المطروحة اليوم هي من «متطلبات الأمن القومي التركي»، ولا علاقة لها بالصراع مع النظام السوري أو الرغبة في تغييره. بل إن الأمر يبدو معاكساً تماماً، ذلك أن مجرد استخدام كلمة توطين لوصف عمليات نقل أو ترحيل لاجئين سوريين إلى تلك المنطقة يعني أنه يتم النظر إليها بوصفها حلاً نهائياً لمسألة هؤلاء اللاجئين، وهو ما يعني نسفاً للقضية السورية من أساسها، التي يقع في القلب منها حق هؤلاء بالعودة إلى بيوتهم ومدنهم وبلداتهم والعيش فيها بأمان وحرية وحقوق غير منقوصة.

لا نعرف ما إذا كانت المساعي التركية يمكن أن تترجم فعلاً على أرض الواقع في شرق الفرات، فهذا رهين بتفاهمات الدول الإقليمية والعظمى، كما أننا ربما لا نملك اليوم أن ندفع هذه الدول إلى تغيير سياساتها، والأرجح أن أي طرف سوري ما عاد يستطيع التأثير كثيراً في مخططات الأميركيين والروس والأتراك والإيرانيين بشأن مستقبل البلد، لكننا نملك أن لا نكون شهود زور على أيّ من هذه المخططات، وينطبق ذلك على لجنتهم الدستورية السخيفة، وعلى اتفاقات التهجير وتبادل السكان التي يجرونها، وعلى اتفاق المنطقة الآمنة الأخير أيضاً.

لا ينبغي بأي حال أن تكون المنطقة الآمنة المتفق عليها مكاناً لتوطين لاجئين سوريين، ولا يجوز تحت أي ظرف أن يساهم أي تشكيل سوري معارض في خطة كهذه في حال تنفيذها، وإذا كان الأقوياء الذين يساومون ويفاوضون في الغرف المغلقة قادرين على فرض إرادتهم على الأرض، فليفعلوا ذلك بأنفسهم وليتحمّلوا مسؤوليته، أما أن تبتهج أوساطٌ معارضةٌ للنظام بمنطقة آمنة لا ناقة لها فيها ولا جمل، فهذا لا يندرج سوى في باب التبعية والتزوير والفقر الأخلاقي والسياسي، ولا يؤسس لشيء سوى مزيد من الحروب والنزاعات والانتهاكات التي تستبيح الأراضي السورية وأهلها.