شهدت عدة مناطق في إدلب وريف حلب الغربي خروج مظاهرات يوم الجمعة الماضي الثلاثين من آب 2019، كان أكبرها مظاهرة قرب معبر باب الهوى الحدودي، قام المتظاهرون فيها بعبور البوابة السورية باتجاه البوابة التركية، مطالبين أنقرة بتحمل مسؤولياتها والعمل على وقف المجازر المستمرة باعتبارها ضامناً في مسار أستانا، أو بفتح الحدود أمام النازحين الهاربين من عمليات القصف الواسعة التي يشنها الطيران الروسي وطيران النظام على بلداتهم وقراهم. وقد قام حرس الحدود التركي بإلقاء الغازات المسيلة للدموع وإطلاق النار في الهواء، بالإضافة إلى استخدام خراطيم المياه، بهدف تفريق المتظاهرين ومنعهم من الوصول إلى الأراضي التركية، ما تسبب بإصابة العشرات بحالات اختناق، دون تسجيل إصابات بطلق ناري.

كذلك قام متظاهرون في أطمة قرب الحدود بتحطيم البوابة عند الجدار الحدودي، وعبروا إلى الجانب التركي احتجاجاً على موقف أنقرة من الحملة الروسية على إدلب، لتقوم قوات الجندرمة التركية بمحاصرة جميع من عبروا الحدود وإطلاق النار في الهواء وإجبارهم على العودة إلى الجانب السوري. وبالتزامن مع هاتين المظاهرتين، خرج المئات في مظاهرات في معرة النعمان ومدينة إدلب وعينجارة والأتارب، مطالبين تركيا بتحمل مسؤوليتها، محتجين على العدوان الروسي ومؤكدين على مطلب رحيل نظام الأسد. وقد انضمت سراقب يوم أمس الأحد إلى قائمة المواقع التي شهدت تجدد المظاهرات، إذ خرجت فيها مظاهرة مسائية هتفت بشعارات الثورة السورية، كما تضمنت هتافات ضد هيئة تحرير الشام وزعيمها الجولاني.

وفي الوقت الذي كان فيه المتظاهرون يحتشدون قرب معبر باب الهوى يوم الجمعة، أعلنت روسيا عن وقف إطلاق نار ستقوم به قوات النظام السوري من جانب واحد اعتباراً من فجر يوم السبت، داعية فصائل المعارضة للانضمام إليه. وعلى الرغم من التراجع الكبير في حدة القصف، وعدم تنفيذ روسيا والنظام أي غارات جوية منذ صباح السبت وحتى لحظة كتابة هذه السطور، إلا أن عدم الإعلان عن أي إجراءات أو اتفاقات تترافق مع وقف إطلاق النار، واستمرار أعمال القصف المدفعي والصاروخي المتقطع على بلدات في ريف إدلب الجنوبي، تركت انطباعاً بأن هذه الهدنة قد لا تستمر طويلاً، وأن ثمة ترتيبات يتم العمل عليها سراً في هذه الأثناء. وقد تحدثت تسريبات، نقلتها وكالة سمارت عن مصادر في الجيش السوري الحر، عن أن مدة هذه الهدنة ثمانية أيام، وهي مهلة ينبغي أن يتم فيها حل هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ التابعة لها.

وعلى الرغم من هذا الهدوء الحذر، تستمر الأوضاع الإنسانية بالتدهور في منطقة إدلب، وخاصة بعد أن أصبح ريف إدلب الجنوبي شبه فارغ من السكان نتيجة القصف المدمر الذي تعرضت له المنطقة، ونتيجة تقدم قوات النظام بعد سيطرتها على خان شيخون وريف حماة الشمالي، لتسيطر أيضاً على التمانعة والخوين بريف إدلب الجنوبي الشرقي قبل يومين فقط من وقف إطلاق النار، وهو ما أعطى انطباعاً بأن قوات النظام مستمرة في تقدمها باتجاه معرة النعمان، الأمر الذي دفع بموجات ضخمة جديدة من النازحين إلى العراء في مناطق شمال وشمال غرب إدلب، ذلك أن المخيمات التي تحظى بدعم منظمات دولية في إدلب على الشريط الحدودي مع تركيا باتت تضم اليوم أضعاف أضعاف قدرتها الاستيعابية، في وقت ترفض فيه الأمم المتحدة الاعتراف بمخيمات جديدة وتقديم الدعم لها.

ويعيش اليوم عشرات آلاف النازحين في المزارع وتحت الأشجار، دون وجود مياه نظيفة للشرب، ومن دون أي خدمات للصرف الصحي والاغتسال، إذ يُضطرون في حالات كثيرة للمشي كيلومترات عديدة لاستخدام الحمامات العامة، التي تُعَدُّ اليوم أحد أبرز الاحتياجات الرئيسية لتلك التجمعات العشوائية من النازحين إلى العراء، في حين تعجز المنظمات الإنسانية المحلية ومبادرات التضامن الأهلي عن الإيفاء بهذه الاحتياجات الهائلة رغم الجهد الاستثنائي الذي تبذله.

محمد هو نازح من معرة النعمان، قال للجمهورية إنه اضطر للهروب بعائلته بسرعة نتيجة تصاعد القصف، ما جعله يترك جميع أغراضه في بيته، وهو يعيش الآن مع عائلته في أحد المزارع، وإلى جوارهم عدد كبير من العائلات النازحة من مناطق عدة. يقول محمد إنه لم يحصل على أي مساعدات من أي منظمة دولية حتى الآن، وإن بعض النازحين يحاولون العودة إلى قراهم وبلداتهم مستغلّين الهدوء النسبي خلال اليومين الماضيين، وذلك بهدف أخذ بعض الأغراض والحاجيات المهمة التي تركوها خلفهم، وإن بعضهم قد فوجئوا بأن قراهم قد باتت مدمرة بشكل شبه كامل، ذلك بالإضافة إلى عشرات آلاف النازحين من المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام مؤخراً، والذين يشعرون أنهم لن يتمكنوا من العودة في أي وقت قريب.

 ويقول فريق منسقو الاستجابة في تقرير أصدره صباح اليوم، إن عدد ضحايا عمليات القصف منذ 26 آب (أغسطس) بلغ 46 شهيداً من المدنيين بينهم عشرة أطفال، فيما وصلت أعداد النازحين في شهر آب فقط إلى 237 ألف نسمة، من بين أكثر من مليون نسمة هم أعداد النازحين منذ خريف العام الماضي، يعيش أغلبهم في العراء أو في مخيمات عشوائية من دون أي خدمات، إذ لم تستطع المخيمات على الشريط الحدودي استيعاب أكثر من أربعين ألف نسمة منذ بداية العمليات العسكرية مطلع أيار الماضي، كما قال للجمهورية هشام ديراني مدير مؤسسة بناء للتنمية في تصريح سابق.

تشير التقديرات الأولية التي أعلنها فريق منسقو الاستجابة في تقريره إلى أن حجم الخسائر المادية الناجمة عن العمليات العسكرية يبلغ أكثر من ملياري دولار، وهو رقم يشرح بوضوح حجم الكارثة التي ألحقها النظام وحلفاؤه بأبناء المنطقة، كما يشرح بوضوح حجم احتياجات إعادة الإعمار والتأهيل في المناطق التي تعرضت للقصف، وهو ما يعني أن جزءاً كبيراً من النازحين سيبقى في العراء حتى في حال التوصل إلى ظروف سياسية وعسكرية تسمح بعودتهم، إلا إذا كان هناك تحرك دولي لدعم هذه المناطق، وهو ما يبدو بعيد المنال إذا ما أخذنا في الاعتبار الاستجابة الدولية المخزية للكارثة التي تحلّ بالسوريين اليوم.

لقد تحولت إدلب إلى سجن كبير يتم احتجاز نحو ثلاثة ملايين إنسان فيه، الحدود مغلقة في وجوههم، وقوات النظام تتقدم في أراضيهم، والسماء تعج بالطائرات فوق رؤوسهم. وفوق هذا لا يعرف أبناء إدلب والمهجرون إليها من سائر أنحاء البلاد ما هي الاتفاقات والمفاوضات التي تجري بالسر بخصوص مستقبلهم، ولا ما هي الغاية من وقف إطلاق نار شديد الهشاشة يجعلهم غير قادرين على التكهن بمآلات حياتهم، فيما يتواصل صراع النفوذ والمصالح على حساب دمائهم.