شهد يوم أمس الثلاثاء لقاءً جمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وذلك خلال زيارة الأول إلى العاصمة الروسية موسكو للمشاركة في افتتاح معرض الطيران والفضاء الدولي (ماكس – 2019) المقام هناك. وبعد لقاء مغلق أجراه الرئيسان، صرح بوتين للصحافة بأنهما اتفقا على العمل لتهدئة الوضع في إدلب، إلى جانب حديثه عن إجراءات مشتركة للقضاء على من وصفهم بـ «الإرهابيين» هناك، فيما اكتفى أردوغان بالحديث عن أن هجمات النظام السوري ضد المدنيين في إدلب غير مقبولة.
وقد جاء هذا في وقت كانت فيه ميليشيات النظام المقربة من موسكو تقوم بعمليات اختراق ليلية خلف خطوط التماس شرقي إدلب، لاستطلاع الجبهات هناك، بعد أن أعادت انتشارها في المنطقة الممتدة بين مطار أبو ضهور وقرية أبو دالي جنوباً على خط التماس الشرقي لإدلب، في الوقت الذي تتعرض فيه قرى ريف معرة النعمان وريف إدلب الجنوبي الشرقي إلى عمليات قصف بري وجوي مستمرة ومتصاعدة، أدت إلى قطع الطرقات بين تلك القرى والمعرة، واتسعت اليوم لتشمل سراقب وريف حماة الغربي.
يأتي هذا بعد انسحاب فصائل المعارضة من ريف حماه الشمالي يوم الأربعاء 21 آب (أغسطس) عبر طرق زراعية، إثر سيطرة قوات النظام على الطرقات الرئيسية والتلال المشرفة في محيط خان شيخون، ما أدى إلى حصار قرى الريف الشمالي وترك مجال محدود للانسحاب من المنطقة. وكان تل ترعي قد سقط بيد قوات النظام صباح الأربعاء، الأمر الذي دفع الفصائل إلى التحرك مباشرةً بعد ذلك خوفاً من حصارها والقضاء عليها في جيب ريف حماه الشمالي.
وتجيب أحداث يومي الأربعاء والثلاثاء من الأسبوع الماضي عن كثير من الأسئلة، إذ كان معظم مقاتلي الفصائل قد انسحبوا من ريف حماة الشمالي فجر الثلاثاء، بعد سيطرة النظام على شمال خان شيخون وشعورهم بأنهم سيعلقون في منطقة محاصرة، لكنهم عادوا إلى المنطقة المهددة بالحصار مساء وليل الثلاثاء نفسه، ليفاجؤوا صباح الأربعاء بسقوط تل ترعي الذي يعني اقتراب فرض الحصار عليهم، وينسحبوا مجدداً من المنطقة سريعاً باتجاه التمانعة.
يبدو واضحاً أن تطمينات من الضامن التركي كانت السبب في عودتهم إلى المنطقة المحاصرة، ومن ثم كان سقوط تل ترعي واستمرار عمليات القصف على العكس من التطمينات التركية، سبباً في اضطراب حركتهم وخروجهم سريعاً نحو جنوب إدلب، لتسقط اللطامنة وكفرزيتا ومورك وخان شيخون بيد النظام بشكل تام، رغم استمرار وجود نقطة المراقبة التركية بالقرب من مورك.
لم تستطع أنقرة إذن إنقاذ ريف حماه الشمالي في اللحظات الأخيرة كما فعلت حين أوقفت معركة إدلب خريف العام الماضي عبر اتفاق سوتشي مع روسيا، وهو ما ينبئ أن الوقت قد فات على توقيع اتفاق جديد يشبه سوتشي مرى أخرى. ويُفترض أن يضع هذا الأمر العلاقة بين تركيا وروسيا على المحك، إلا أن ظروف زيارة أردوغان يوم أمس إلى موسكو تعطي انطباعاً مختلفاً تماماً، فالحديث العلني للرئيس التركي عن اهتمامه بطائرة (سوخوي 57) بعد استعراضها أمامه خلال حضوره معرض الطيران الدولي في العاصمة الروسية، يظهر أن الرئيسين متوافقان على تثبيت نتائج العملية العسكرية الوحشية التي نفذتها قوات النظام مدعومةً من موسكو والميليشيات الإيرانية، التي دخلت على خط المعركة خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد غياب.
في الوقت نفسه، فإن استمرار التصعيد على الجبهات في محيط إدلب يعطي انطباعاً بأن قوات النظام وروسيا تحضّر لمرحلة جديدة من المعركة، فالاشتباكات المستمرة وعمليات القصف العنيفة على جبهات كبانة في ريف اللاذقية، ومحاولة قوات النظام اختراق خطوط التماس شرق إدلب من محور تل دم عبر عمليات تسلل ليلية، توحي بأن النظام يحاول اختبار نقاط الضعف جديدة في الجبهات مع فصائل المعارضة في إدلب.
الفصائل التي تنبهت من جهتها لحشود قوات النظام شرقي إدلب، قامت يوم أمس الثلاثاء بعمليات اقتحام لخطوط النظام على محاور السلومية والجدوعية وتل مرق وشم الهوى شرق خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي، ما جعلها على تقترب من النقطة الروسية في أبو دالي قبل أن تتراجع مجدداً، فيما أعلنت الجبهة الوطنية للتحرير ليل أمس إحباطها عملية تسلل لقوات النظام على محور الحاكورة في سهل الغاب بريف حماة الشمالي الغربي.
يدفع تتبع المناطق التي يتركز عليها قصف طائرات النظام وروسيا إلى ترجيح أن المرحلة الثانية من المعركة ستكون باتجاه معرة النعمان، ولا يبدو أن ثمة ما يمنع النظام وحلفاءه من السير في هذا الخيار، خاصةً وأنه قد أصبح في موقع متفوق عسكرياً جنوب إدلب، في وقت يبدو فيه أن الفصائل باتت تواجه النظام وروسيا وإيران لوحدها بلا أي دعم جديّ، وأن أنقرة لا تستطيع اتخاذ أي إجراء مؤثر لإيقاف القصف والمعارك.
يبدو إذن أن المسألة برمتها في يد موسكو فقط، التي سيعود إليها تقرير توقيت ووجهة المرحلة الثانية من معركة إدلب، أو الاكتفاء بالتقدم الحاصل مؤقتاً ومحاولة حصاد نتائجه السياسية. أما أنقرة فإنها لا تعطي أي مؤشرات على أنها بصدد أي تصعيد في مواجهة موسكو، ما يعني حقيقةً اقتناع تركيا بعجزها عن فرض حمايتها على منطقة إدلب، وقبولها بأي مكاسب يمكن أن تمنحها لها موسكو في الملف السوري أو غيره، في وقت يبدو فيه أنها لم تعد معنية بأكثر من ضمان سلامة جنودها وحفظ بعض من ماء وجهها الذي أراقته صور عناصر النظام إلى جانب نقطة المراقبة التركية في مورك، وأنها ليست قلقة بشكل جدي من استمرار العمليات العسكرية، طالما أنها تنجح في إغلاق حدودها في وجه السوريين برصاص عناصر حرس الحدود.
لا نعرف ما هي التفاهمات التي نتجت عن زيارة أردوغان لموسكو، ولا يبدو أن أي أحد بصدد الإفصاح عن مضامين هذه التفاهمات للسوريين الذين يدفعون ثمنها من دمائهم، وإذا كان لنا أن نستنتج ما جرى في اللقاء المغلق من خلال التصريحات المعلنة، ومن خلال التصعيد الروسي الهائل الذي أعقبها، والذي شمل استهداف محيط مراقبة النقطة التركية في شير مغار بريف حماة الغربي صباح هذا اليوم، فإن ما يبدو هو أن أردوغان قد فشل في إقناع بوتين بوقف الحملة أو حتى تخفيف عنفها، وستكشف الأيام القادمة عمّا إذا كان لدى تركيا وفصائل المعارضة ما يمكنها من خلاله أن تجبر النظام وحلفاءه على إيقاف هذه الحملة الدموية المدمّرة.