«إنه العام الثالث للثورة، أنا في سقبا، أشعر بالخوف في منزلي القريب من المحطة. حاولنا الهروب من هنا، فشلنا كثيراً ولم نستطع، أختبئ الآن تحت السرير، أذهب لأمي وأقبّلها كلما أتتني الشجاعة لأخرج من تحته. أخاف أن يموت أحدنا فجأة، أخاف أن يصيب أحد إخوتي مكروه، لقد ماتت صديقتي منى، لا أصدق، كانت تريد أن تصبح معلمة، كانت تحب الأطفال… يا إلهي…».
كان هذا جزءاً ممّا دوّنتُهُ في دفتري الصغير بعد فاجعة الكيماوي، التي أودت بحياة الآلاف.
مرت ست سنوات وأنا أحاول أن أمحو صورتها من ذاكرتي، يجيء الى أحلامي وجه صديقتي منى كل فترة ليذكرني بما أصابها؛ أحاول أن أقول لها بأنني لن أنساكِ يوماً، ولن أنساكم أبداً. تتزاحم صورتها مع صور من أعرفهم ممّن ماتوا اختناقاً في 21 آب عام 2013 في مجزرة الكيماوي على الغوطة الشرقية، أشعر بثقل كبير، وكأنني أحمل جبلاً على صدري، كلما حاولت استرجاع ما شاهدته وما سمعته.
كشاهدة على تلك المجزرة، لا أمتلك سوى شهادتي لأرويها. كنتُ جزءاً من تلك الحكاية، وحين أدركتُ أن الصمت أداةٌ أخرى من أدوات القتل واستمراره، حاولتُ أن أكسر حاجز الصمت والخوف معاً، ليتفوق الدافع إلى روي الحكاية عندي مهما كان الخوف كبيراً.
في سقبا
انتقلنا للعيش في الغوطة الشرقية عام 2009، ولا أعرف ما الذي جاء بنا من أقاصي الدنيا لنسكن هناك، وفي سقبا على وجه التحديد، التي ستصبح قلب العالم الثوري في الغوطة ونبضه. وقد كان عدد سكان سقبا بالكاد يتجاوز ستة وثلاثين ألف نسمة قبل الثورة، هي بلدة الصغيرة إذن، لكنها من أكبر مدن المفروشات والموبيليا بجميع أنواعها في سوريا، وهو العمل الذي كان مصدر دخل رئيسي لعدد كبير من سكانها، بالإضافة إلى الزراعة في أراضيها الخصبة.
كنتُ في البداية أشعر بعدم الانتماء لذاك المكان، أشعر بضيقه وغرابة أطباع أهله واختلافها عن المكان الذي نشأتُ فيه، لكن هذه الأفكار والمشاعر تلاشت بعد بدء الثورة بشهور قليلة. كانت سقبا من المناطق التي انطلقت فيها المظاهرات المناهضة للنظام مبكراً، وقد عشنا أياماً جميلة جداً مع حلم الحرية والعدالة والانتقام من الظالم؛ شعرنا بتلك الحرية على مدى أيام بل أشهر، وكنتُ ممتنة للصدفة التي جعلتني جزءاً من تلك المدينة وبنتاً من بناتها، وشاهدةً على أعظم الثورات، وعلى أكثر الجرائم بشاعة أيضاً.
لقد جمعتني مع أبناء سقبا، وعلى وجه الخصوص مع طالبات ومعلميّ ومعلمات ثانوية سقبا للبنات، رابطةٌ ثوريةٌ جعلت مشاعر الغربة ووحشة المكان تتلاشى سريعاً. كنتُ في السابعة عشرة من عمري عندما خرجنا في مظاهرات كنا ننظمها بشكل جماعي وفي السرّ، ولم يكن خروجنا وقتها مجرد تجمعات أو هتافات لمجرد الخروج، بل كانت لكلّ منا قضيتها الخاصة التي خرجت لأجلها، من نور التي اعتقل النظام والدها، إلى منال التي اكتسبت حساً بالمسؤولية من أخويها اللذين انضمّا للجيش الحر منذ بداية ظهوره أواخر 2011، إلى مختلف أشكال الظلم الواقع علينا جميعاً.
أذكر كيف ولدت الفكرة في رؤوسنا من حصة للتربية القومية، قاطعناها ورفضنا دراسة المنهاج والاستماع للمعلّمة التي عُرفت بتأييدها للنظام. بعض الفتيات بدأنَ يرسمنَ كاريكاتيرات ويُلصقنها على جدران الصفوف، ولم تلاقِ نشاطاتنا تأييداً من مديرة المدرسة حينها، حتى أنها عاقبت كثيرات منا وحاولت منع خروجنا في أي مظاهرة. لا أعلم إن كان موقفها وقتها نابعاً من خوفها علينا أم من رفضها لفكرة الثورة كلّها، لا يمكنني الجزم بذلك، لكن كلّ ما أذكره هو أننا خرجنا في مظاهرات علت فيها أصوات طالبات الثانوية، وأنني كنتُ أشبكُ يدي بيد صديقتي منى ونخرج من المدرسة في المظاهرة وصولاً إلى ساحة الجمعية، ثم نتفرق خوفاً من أهلنا، أو من قذيفة تأتينا فجأة، أو من مداهمة مفاجئة لرجال أمن النظام الذين لم يعودوا قادرين على التحرك بحريّة في البلدة الثائرة، فباتوا يعتمدون المداهمات المفاجئة بدعم من جيش النظام، ثم لم يعودوا يستطيعون تنفيذ مداهمات كهذه بعد انتشار الجيش الحر في سقبا وفي محيطها بشكل أكبر.
وقد صارت الحياة بعدها أكثر قسوة نتيجة القصف المتكرر بالطائرات والهاون، ثم كانت المجزرة التي ارتكبتها طائرة ميغ تابعة للنظام في 18 تشرين الثاني 2012، التي أدت لاستشهاد العشرات من أبناء سقبا وإسقاط أكثر من ثماني أبنية على رؤوس ساكنيها. كان ذلك من أكثر المشاهد التي لا تزال راسخة في ذاكرتي عنفاً، كانت تلك الأيام مليئة بالشناعة والبؤس وخسارة الأرواح، وباللحظات التي تمنح الإنسان شعوراً بأنه مفارقٌ لهذه الدنيا؛ «سيطير رأسي الآن وسينفجر قلبي، ستتطاير أشلائي، وسأتحلّل ولا يبقى مني سوى العظام»؛ تلك كانت أبشع التصورات التي راودتني خلال الأشهر الأخيرة من إقامتي في سقبا، التي خرجت منها ومن الغوطة الشرقية كلها بمعجزة إلهية في شهر تشرين الثاني من العام 2013، أي بعد شهرين من المذبحة الكيماوية، تاركةً فيها بيتنا وأهلنا وأحبابنا الذين لمّهم التراب، وآخرين سيموتون من القصف والجوع والحصار بعدها. لقد تركت ورائي عالماً سيبقى يصارع حتى الرمق الأخير.
كانت المذبحة التي ارتكبتها طائرة الميغ هي المذبحة الأعنف والأكثر وحشية باعتقادي، إذ ما هو الأكثر وحشية من أن تسقط الأبنية فجأة على رؤوس ساكنيها، هكذا كنت أقول لنفسي، حتى جاءت المذبحة الكيماوية لتجعلني أعرف بأن هناك مزيداً من الوحشية التي لا يتصور حدودها عقل.
في الأربعاء المشؤوم
شهدت أيام ما قبل المجزرة تصعيداً في القصف على كافة مناطق الغوطة الشرقية، وخاصة زملكا وجوبر وسقبا وعين ترما. وقالت فصائل المعارضة وقتها إنها كانت تتصدى لمحاولات تقدم واقتحام من قبل النظام تهدف إلى تقطيع أوصال الغوطة. كانت الجبهات مشتعلة، وكانت الأوضاع الإنسانية في سقبا تتدهور سريعاً، جراء انقطاع الكهرباء وشبكات الاتصالات، والنقص الشديد في المواد الغذائية والأدوية وارتفاع الأسعار، وخاصة بعد استهداف النظام المتعمد لأفران الخبز في الغوطة الشرقية، حتى أصبحت ربطة الخبز حلماً بعيداً لكثير من العائلات.
لقد اعتدنا على أشياء كنا نعتقد أنه لا يمكن للإنسان أن يعتاد عليها، ومن اختبأ في ملاجئ الغوطة الشرقية وذاق طعم المرارة والجوع، لن يستغرب أن يجيء يومٌ تأتيه فيه صواريخ محملة بمواد كيميائية.
لم تكن الساعة قد تجاوزت الخامسة صباحاً حين كنا نحاول النوم، وكان فضاء سقبا يعج بأصوات القذائف والطائرات التي تحوم في السماء، وبأصوات إطلاق الرصاص التي يخترق صداها جدران منزلنا. نسمع صوت والدي وهو يصرخ بصوت مرتفع، نهرع جميعنا للخارج لنراه بهيئة مضطربة وأنفاس تضيق شيئاً فشيئاً، لم تسعفه بلاغته النحوية ولا جمله المتماسكة لشرح ما يحدث، كان كل ما قاله: «ماتوا خنقاً، سنموت جميعاً، المجرم… الـ….»، ثم أكملها: «زملكا تُباد».
لم تكن الصورة مكتملة في وقتها، كنّا نسمع عن أشخاص يموتون بشكل غريب، ونسمع أصوات تحركات معتادة في أيام القصف، تحركات لانتشال الشهداء وإنقاذ من يمكن إنقاذه. مرت ساعات قليلة حتى عرفنا بأن النظام قام بإطلاق صواريخ محملة برؤوس كيميائية على بعض مناطق الغوطة الشرقية، وخاصة زملكا وبعض أطراف عين ترما.
لم نكن قادرين على تحديد ما يجب فعله في موقف كهذا، هل ننتظر الموت الذي بدا لنا محتوماً ولا مفرّ منه، أم نصرخ، أم نهرع للمساعدة. سمعتُ رجلاً عجوزاً يقول إن «سقبا جايها الدور أيضاً، رح نفطس متل الحيوانات، مين سائل عنا؟! بلا أمريكا بلا…».
ظلت كلماته ترن في أذني طويلاً، تقول لي أمي بأني فارقتُ الحياة للحظات حين ازرقَّ لوني ولون شفتيَّ وتجمدت الدماء في عروقي، لكنني عدتُ بعدها إلى الحياة، ولا أعلم حتى الآن سبب تمسّكي الشديد بالحياة رغم سوئها. لم يكن هناك كهرباء ولا تلفاز، كنا معزولين عن العالم، حتى جاء بعض أصدقاء والدي ليحكوا له ما يحصل؛ قال لنا أحدهم بعد أن فاضت الدموع من عينيه: «لبسوا يا عمو… لبسوا». كنّا مرتدين لملابسنا طبعاً، لكنه كان يقصد أن نرتدي ملابسنا التي سنلاقي بها وجه ربنا.
توضأنا، ثم ارتدينا ثيابنا وفوقها ملابس الصلاة.
جلستُ أنا وأفراد عائلتي وبعض الأقارب والجيران وسط ذهول تام وقلّة في الحيلة، كنّا نسمع أصوات العالم المنبعثة من الخارج، أصوات سيارات الإسعاف، أصوات أحاديث الرجال المجتمعين في كل زاوية، وقصصاً مختلفة يحكيها كلٌّ منهم بطريقته.
أذكر جيداً وجه جارتنا التي كانت تسكن في الطابق السفلي، عندما حملت طفلتها على يدها وأحضرت ما تحتاج له من بعض الاطعمة لها ولابنتها، لتصعد إلى سطح المبنى وتراقب العالم من بعيد، وكأن ثقل العالم ووحشته كلها في وجهها، وكأنها فقدت الأمل تماماً؛ قالت لنا: «لن أستطيع تحمّل مشهد ابنتي وهي تنازع وترتجف، إن حصل هذا سألقيها وألقي بنفسي من هذا السطح».
لم ندرك حجم المأساة رغم كل ما سمعناه، إلّا عندما شاهدناها على شاشة الموبايل. كان التصوير مهمة شاقة حينها، حيث لا شبكات اتصالات ولا كهرباء كافية لشحن الأجهزة باستمرار، وإرسال المقاطع المصورة عن طريق البلوتوث كان يأخذ وقتاً طويلاً جداً.
كان العم أبو فادي الذي يعمل في مستشفى ميداني في بلدة حمورية من بين الأصدقاء الذين جاءوا إلى منزلنا، لم يذهب إلى زملكا، لكنه قال إنه استقبل مئات حالات الاختناق القادمة من الأماكن المستهدفة. لقد جمعت بين مناطق الغوطة رابطة العذاب والظلم والجوع وفقدان الأحبة، والاعتياد على الموت، وأننا كما نودّع كل يوم بعضنا خشية أن يكون هذا يومنا الأخير. لقد امتلأت المراكز الطبية في عربين وحمورية ودوما وسقبا بآلاف المصابين بغاز السارين، الذين تمّ نقلهم محملين بسيارات من زملكا وعين ترما.
لم يستطيع كثيرون من هؤلاء النجاة، أما الناجون فكان يتوجب متابعة حالتهم بهدف التخفيف من آثار استنشاقهم للسارين القاتل، لكن الحالة المريعة لم تكن تسمح لأحد بمتابعة الحالات الناجية، لأن حجم الكارثة تجاوز حدود استيعاب مراكز الغوطة الطبية. يقول العم أبو فادي: «أقسم بالله متل المسالخ، السيارات عم تعبي الناس من زملكا، ترميهم عنا وتروح حتى تجيب غيرهن».
ولم تكن مراكز الغوطة الطبية مجهزة بشكل يسمح بتلقي مثل هذه الحالات، كان هناك نقصٌ وأحياناً غيابٌ كاملٌ لحقن الأتروبين والمنفسات الضرورية للتعامل مع الإصابات بالسارين، وأكثر ما كان بالإمكان فعله في حالات كثيرة هو تقديم إسعافات أولية لمحاولة تخفيف أثر الغاز المُستنشق، مثل رشّ المصابين بالماء ووضع بصل على أنوفهم. وقد ساعدت هذه الإجراءات في إنقاذ أرواح كثيرة، من بينها حالات ربما كان الموت أكثر رأفة بها، مثل رجل عجوز ماتت عائلته بالكامل مع ستة من أحفاده، وبقي هو على قيد الحياة بعد أن فقد بصره.
استمعنا وقتها لشهادة أحد الذين نجوا بأعجوبة، حين ذهب مع طاقم طبي مؤلف من سائق وأربعة مسعفين إلى أحد المواقع المستهدفة فور استهدافها، فمات ثلاثة منهم جرّاء استنشاق الغاز السام، ونجا اثنان فقط كان هو واحداً منهما. روى لنا عن مئات الأطفال الذين لم يستيقظوا ليلتها من نومهم العميق، عن مسنين تم سحب جثامينهم بعد أن ماتوا وهم راكعون على سجاجيد الصلاة، عن أمهات حملنَ أطفالهنّ وركضنَ للطوابق العليا لاستنشاق الهواء، ولكن الموت قد سبقهم واختطف أرواحهم. روى عن يوم كيوم القيامة، يركض الناس فيه إلى الطرقات المظلمة ثم يسقطون فجأة كأوراق الشجر على الأرصفة وفي الشوارع، عن منقذين لم يستطيعوا حتى إنقاذ أنفسهم.
لم تتسع المقابر في سقبا يومها للشهداء الذين تم نقلهم للإسعاف فيها وفارقوا الحياة، كان عدد الأطفال الذين لم تُعرَف هويتهم أكثر من أولئك الذين دُفنوا بجانب عائلاتهم؛ لقد دُفنَ كثيرون بلا اسم ولا هوية، لا أحد يعرفهم، ولذلك تم منحهم أرقاماً بدل أسمائهم، الطفلة رقم 1، والطفل رقم 3.
بقيت نوافذ المنازل في أغلب أحياء سقبا مقفلة على مدى ليال طويلة، وحملت لنا الأيام بعدها أوقاتاً عصيبة كرهنا فيها كلّ شيء، كرهنا أنفسنا وكرهنا الهواء الذي نتنفسه والماء الذي نشربه، كل شيء يذكرنا بتفاصيل تلك المجزرة المخيفة، ولكن رغم كل هذا كان التضامن العابر لحدود الدمار والقتل والعجز موجوداً، وعلت الحناجر بالهتاف بعدها بأيام، وخرجت عدة مظاهرات في سقبا تندد بالمجزرة.
كان الخوف طاغياً على كل شيء في الأيام التالية للمذبحة، لم نخف من الموت بقدر خوفنا من أن نتحول إلى جثث مجهولة؛ صار الجميع يفكرون بأصوات عالية؛ ترى أين سأُدفن؟ إلى أي مركز سأُنقل؟ هل سيبقى أحد للإنقاذ أصلاً؟ وقد فكر كثيرون بالخروج من المنطقة كلّها وقتها، لكن هذا كان أمراً بالغ الصعوبة وأقرب للانتحار، بسبب القصف واشتعال المعارك على جبهات الغوطة.
تلبدت قلوبنا بالذعر من المجهول، وبات ما يشغل أيامنا هو التدريب على مقاومة الموت، على مقاومة الغاز المتوحش الذي كنا ننتظره، ونخشى أن يفاجئنا بقدومه، فجميع الشائعات كانت تنذر ببوادر سحق ما تبقى من الغوطة الشرقية بعد أن وصلتنا أخبار تفيد بأفراح واحتفالات من قبل عناصر جيش الأسد ومؤيديه بعد أن سمعوا بإنجازهم في قتل الآلاف. وقد زادت جميع تلك الأنباء من القناعة بأنه يتم التدبير لعملية قصف كيميائي جديدة تستهدف ما تبقى من المناطق، خاصة بعد أن عرفنا أن أحداً لن يعاقب النظام على تجاوزه للخطوط الحمراء التي رسمها أوباما، فغابت جميع المناشدات والآمال التي كنا قد بنيناها في دواخل أنفسنا، وصرنا ندرب نفوسنا جيداً على استقبال أي عقاب ينزله النظام المتوحش بنا.
فتحت كثيرٌ من البيوت في الطوابق العليا أبوابها لسكان الأقبية والطوابق السفلية بعد القصص التي سمعناها، وامتلأت منازلنا بالأقنعة الواقية والبصل والخلّ، وتركيبة لا أذكر مكوناتها بالتحديد، لكنها مزيجٌٌ من الخلّ وبعض المواد المتوافرة في جميع المنازل، وعلّمنا المسعفون كيف يمكننا الحدّ من أثر الغاز السام، وكيف يمكن التعامل مع شخص يصاب بالاختلاجات عبر إسعافات أولية قد تفي بالغرض.
من ناحية أخرى، بتنا أشد تماسكاً وقرباً من بعضنا بعضاً في مواجهة شبح الموت، وبعد الحادثة المشؤومة، لم تعد النساء تنام بقمصان النوم، بل بتنَ ينمنَ بقمطة الحجاب على رؤوسهنّ، مستعدات لمقابلة الله في أي لحظة. أذكر جيداً دعاء الأهالي طلباً من الله أن نموت موتاً رحيماً، الدماء ولا الاختناق، الدماء ولا أن نرى الأطفال بأم أعيننا وهم يختلجون وينتفضون؛ كان يدعون الله أن يموتوا بقذيفة أو صاروخ لا يبقي حياً منهم؛ قد لا يصدق أحد، لكن هذا النوع من الأدعية كان يتكرر كثيراً.
أكتب اليوم عن جرح لا يزال ينزّ في الروح والذاكرة، أطلق زفرات تشبه تنهيداتي في تلك الأيام، وأنا أفكر في كل أولئك الذين ماتوا اختناقاً على مقربة مني. أكتب إلى منى، زميلة الدراسة والمقاعد الخشبية، أكتب كل حرف إكراماً لها ولروحها وأحلامها التي دُفنت معها، أكتب للجرأة التي تعلّمتُها منها، ولجميع ضحايا المجزرة المهولة؛ أكتب كي لا أسمح للنسيان بأن يتسلل إلى ذاكرتي المثقلة بالمآسي، كي لا ننسى المجرم والجرائم التي اقترفها.