شارفت قوات نظام الأسد يوم أمس على محاصرة خان شيخون، بعد تحقيقها تقدماً كبيراً شمال غرب المدينة، وسيطرتها على قرى حرش عابدين وكفرعين والزيتونة وبلدة مدايا، واقترابها من بلدة كفرسجنة على أطراف جبل الزاوية، إثر تراجع وانهيار سريع في خطوط دفاع فصائل المعارضة هناك، تحت تأثير القصف الجوي والبري الشديد في منطقة سهلية مكشوفة. وتواصل قوات النظام هجماتها العنيفة على الجبهات الشرقية والغربية والشمالية الغربية في محيط مدينة خان شيخون لمنع المؤازرات بين جبهات المدينة، إلا أن فصائل المعارضة استطاعت منذ ظهر يوم أمس تنظيم صفوفها ودفاعاتها مجدداً، ونجحت في كبح تقدم قوات النظام وتنفيذ هجمات معاكسة، لتستعيد السيطرة على بلدة مدايا لساعات، قبل أن تتمكن قوات النظام من العودة إليها مجدداً فجر هذا اليوم.
وكانت قوات النظام خلال الأيام الماضية قد حققت تقدماً بالغ الأهمية في ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي، وذلك بعد سيطرتها على بلدات الجبين وتل ملح ثم الزكاة والأربعين بريف حماة الشمالي، لتصل إلى تخوم مدينتي كفرزيتا واللطامنة، ثم سيطرتها على بلدة الهبيط الاستراتيجية إلى الغرب من مدينة خان شيخون جنوب إدلب، وتقدمها شرق المدينة بعد سيطرتها على بلدة سكيك، ثم محاولتها التقدم باتجاه تل ترعي جنوب بلدة التمانعة، قبل أن تتمكن الفصائل من صدها هناك وإجبارها صباح أمس على الانسحاب إلى داخل سكيك. ومن خلال تقدمها هذا، تقترب قوات النظام من إطباق فكي كماشة على خان شيخون، التي لم يعد يفصلها عنها سوى بضع مزارع من الجهة الغربية، وتل ترعي وبضع مزارع من الجهة الشرقية، لتصبح خان شيخون بذلك الممر الوحيد إلى مناطق سيطرة الفصائل في ريف حماة الشمالي، التي تضم مدن اللطامنة وكفرزيتا ومورك، ونقطة مراقبة تركية قرب مورك.
يظهر تقدم قوات النظام مدعومة بالطيران الروسي الأثر الحاسم الذي تحققه عودة الميليشيات الإيرانية إلى جبهات إدلب، التي شهدت حضوراً واسعاً لقوات تابعة لميليشيا حزب الله اللبناني وميليشيات عراقية تابعة لإيران جرى استقدامها من محافظة دير الزور، لمساعدة قوات النظام في جبهات ريف حماة وإدلب بعد فشلها في تحقيق تقدم حاسم منذ بداية المعارك نهاية شهر نيسان/أبريل الماضي. ويبدو أن قوات النظام قد عادت بمساعدة إيرانية إلى تنفيذ خطتها التي كانت قد بدأتها أواخر نيسان الماضي، والتي توقفت جراء المقاومة الشرسة التي أبدتها الفصائل على تخوم كفرنبودة وعلى جبهات الجبين وتل ملح بريف حماة الشمالي، إذ تسعى قوات النظام مجدداً إلى حصار ريف حماة الشمالي، الذي سيصبح منطقة ساقطة عسكرياً بمجرد السيطرة على خان شيخون أو النجاح في حصارها من كل الجهات، وهو ما سيجبر فصائل المعارضة العاملة في ريف حماة الشمالي على الانسحاب من مواقعها المحصنة بشكل جيد في محيط اللطامنة وكفرزيتا ومورك، كما أنه سيضع نقطة المراقبة التركية في موقف حرج.
وفي سياق متصل، قالت فصائل «الجيش الوطني» المرتبطة بتركيا، والعاملة في مناطق عمليات درع الفرات وغصن الزيتون بريف حلب، إنها سترسل تعزيزات مع أسلحة ثقيلة ومعدات إلى جبهات إدلب اعتباراً من اليوم، وذلك بالاتفاق مع فصائل الجبهة الوطنية للتحرير وبعد إنشاء غرفة عمليات مشتركة معها. وكان مصطفى سيجري، رئيس المكتب السياسي في فصيل لواء المعتصم التابع لـ «الجيش الوطني»، قد قال في لقاء مع تلفزيون سوريا مساء أمس، إن هيئة تحرير الشام كانت تفرض قيوداً على المؤازرات التي تدخل إلى إدلب من «الجيش الوطني»، وكانت تشترط الاطلاع على قوائم أسماء المقاتلين وتشترط دخولهم بسلاحهم الفردي دون أي سلاح ثقيل، ما جعل المشاركة السابقة لقوات «الجيش الوطني» غير فعّالة تماماً.
وكان «الجيش الوطني» قد أعلن أنه أرسل مقاتلين إلى جبهات إدلب وحماة في مراحل سابقة من المعركة، إلا أن ذلك لم يترك أثراً فعالاً واضحاً على الأرض، وستظهر الساعات والأيام القليلة القادمة إذا ما كانت مشاركته ستختلف هذه المرة. وفي حال كانت هذه المشاركة حاسمة فعلاً، فإنها ستكون مؤشراً على أن تركيا ليست موافقة على مسار المعركة الروسية، كما أنها ستكون مؤشراً على الوضع الحرج الذي تعيشه هيئة تحرير الشام والفصائل الأخرى، والذي يدفع الهيئة للقبول بدخول مقاتلين مناوئين لها بسلاحهم الثقيل إلى مناطق نفوذها.
وعلى الرغم من أن تقدم قوات النظام السريع قد بدأ بشكل مفاجئ في أعقاب جولة أستانا الأخيرة، وهو ما أعطى انطباعاً بأن ثمة اتفاقاً تركياً روسياً يقضي بتسليم المنطقة للنظام، وأيضاً بأن الفصائل العاملة في المنطقة تمتثل للأوامر التركية بهذا الخصوص، إلا أن المؤشرات على الأرض لا تدعم هذا الاحتمال، ذلك أن الكثافة النارية الهائلة التي تستخدمها قوات النظام والقوات الروسية، والتي شملت آلاف الضربات الجوية والبرية، ومعها المقاومة الشرسة التي تبديها الفصائل رغم عنف القصف، ومئات القتلى والجرحى من مقاتلي الطرفين، لا توحي بأن ثمة اتفاقاً يتم تنفيذه، بل توحي بأن روسيا تريد فرض وقائع جديدة على الأرض بأسرع ما يمكنها.
وتشارك كل من الجبهة الوطنية للتحرير، التي تضم فصائل جيش إدلب الحر وأحرار الشام وفيلق الشام وفصائل أخرى صغيرة، وفصيل جيش العزة العامل في ريف حماة الشمالي، وقوات تابعة لهيئة تحرير الشام، ومقاتلون من جماعات جهادية، في التصدي لقوات النظام، وتنجح في تكبيدها خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، عبر استخدام الصواريخ المضادة للدروع والعربات المفخخة والرشاشات الثقيلة وقذائف المدفعية وصواريخ غراد، بالإضافة إلى الاشتباكات المباشرة من مسافة قريبة في أكثر من موقع. أما البلدات التي استطاعت قوات النظام دخولها بسهولة شمال غرب خان شيخون، فهي بلدات غير محصنة تقع بعيداً عن خطوط الدفاع الأولى التي نجح النظام في كسرها أساساً بسلاح الجو المتفوق.
تسعى روسيا إلى الحصول على أكبر مكاسب ممكنة في المنطقة بعد فشل استمرّ أكثر من ثلاثة أشهر، إلا أن الثمن الذي تضطر موسكو إلى دفعه في سبيل تلك المكاسب يبدو كبيراً، فبالإضافة إلى الخسائر البشرية التي تتكبدها ميليشيات النظام التي تشرف روسيا على تدريبها وإدارة معاركها، ثمة خسائر سياسية ناتجة عن عودة الميليشيات التابعة لإيران بقوة إلى المعركة، التي يبدو أن القوات السورية المدعومة روسياً كالفيلق الخامس وقوات النمر ما كانت لتستطيع التقدم فيها لوحدها. وستكون هذه المشاركة ورقة مساومة في يد طهران أمام موسكو، التي اعتقدت طوال الأشهر الماضية أنها تستطيع إدارة المعركة العسكرية مع فصائل المعارضة دون مساعدة إيران، كما أن أي فشل في إنجاز هدف المعركة، الذي يبدو واضحاً أنه يشمل على الأقل السيطرة على خان شيخون وريف حماة الشمالي، سيضع موسكو في موقف أضعف خلال مساوماتها مع تركيا.
ليست معركة خان شيخون محسومة النتائج بعد، رغم التقدم الصاعق الذي أحرزته قوات النظام في محيطها، ورغم الضخ الإعلامي الذي تحاول قوات النظام وروسيا الإيحاء من خلاله أن المعركة محسومة النتائج. لكن يبقى أن فصائل المعارضة تعيش بعضاً من أسوأ أيامها في الشمال السوري، وتواجه جبهاتها هناك احتمال انهيارات أخرى سريعة على غرار ما حدث أمس ومساء أول من أمس، وسيعني انهيارها المحتمل هذا أن مصير مجمل منطقة إدلب قد بات مهدداً على نحو غير مسبوق، في حين سيعني صمودها أن معركة النظام كلها منذ نيسان حتى الآن لم تؤدِ إلى أي نتائج حاسمة يمكن ترجمتها سياسياً لصالح موسكو والنظام.
وقد أدى ارتفاع مستوى التصعيد من قبل قوات النظام جنوب إدلب، بعد إنهائها للهدنة التي تم الإعلان عنها خلال مؤتمر أستانا الأخير، إلى موجات نزوح جديدة واسعة النطاق، إذ سجّلَ فريق منسقو الاستجابة نزوح أكثر من 120 ألف مدني من ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي خلال الفترة الواقعة بين 11 و 14 آب/أغسطس فقط، لينضموا إلى أكثر من ستمئة ألف نازح منذ نيسان الماضي. كما ارتفع عدد الشهداء بين المدنيين خلال الأسبوع الماضي ليصل إلى قرابة الألف شهيد منذ نيسان الماضي أيضاً، فضلاً عن الدمار الهائل الذي طال عشرات المدن والبلدات والقرى، وعن خسارة مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والمنشآت المدنية الطبية والتعليمية وغيرها.
تستمر الكارثة الإنسانية الهائلة في عموم مناطق إدلب، في ظلّ غياب شبه تام للمنظمات الدولية، وضعف في قدرات المنظمات المحلية على الاستجابة، نتيجة تراجع تمويلها ونتيجة عدد النازحين والضحايا والمصابين الهائل. وفيما يواصل المقاتلون من أبناء إدلب وريفي حماة وحلب والمهجرين من مناطق سورية عديدة مقاومتهم، يستمر الغموض الذي يكتنف التفاهمات بين الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة في الشأن السوري، كما يستمر الغموض في شأن مستقبل المنطقة التي تتنازع السيطرة عليها فصائل عديدة، تتحالف اليوم في مواجهة قوات النظام، فيما تطل صراعاتها القديمة المرشحة للتجدد برأسها من خلف غبار المعركة الطاحنة.